آثار قاعدة الاضطرار
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يترتّب على ارتفاع التكليف
بالاضطرار جملة من الآثار، نشير إليها فيما يلي:
لا يكون المكلّف آثماً إذا صدر منه الفعل المضطرّ إليه، ولا مستحقّاً للّوم أو العذاب الأخروي؛ لأنّ
الإثم واستحقاق اللوم أو العذاب يدور- عقلًا- مدار التكليف المنجّز، فإذا رفع الشارع التكليف أو ارتفع تنجّزه لسببٍ ما ارتفع الإثم
واستحقاق اللوم أو
العذاب لا محالة، كما لا يقدح فعله في
العدالة .وقد يستفاد رفع
المؤاخذة والإثم من بعض الأدلّة والقواعد الشرعية المتقدّمة أيضاً، حيث فسّر بعض الفقهاء (رفع ما اضطرّوا إليه) في حديث الرفع- المتقدّم- برفع المؤاخذة.
لكن رفع المؤاخذة والعقوبة الأخروية مقيّد بما إذا لم يكن الاضطرار بسوء
الاختيار ، وذلك كما لو ورّط المكلّف نفسه
بإرادته في أمرٍ محرّم مع علمه بذلك، فدخل الأرض المغصوبة عالماً متعمّداً، ممّا صيّره مضطراً للتصرّف فيها بالخروج، وفي هذه الحالة ذكر بعض الاصوليّين أنّ هذا الاضطرار يسقط التكليف لكن لا يسقط العقوبة، كما أنّ فعله المضطرّ إليه لا يصبح طاعةً، فالخروج من الأرض لا يكون طاعةً للَّه، غايته أنّه مرخّص بذلك مع
احتفاظ المولى بحقّ معاقبته، بل قد يحكم بوجوب الفعل عليه عند بعضهم ولا يجوز البقاء في الأرض ومع ذلك يعاقب عليه بحكم العقل، وهذا معنى القاعدة الأصولية التي تقول: إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإنّما ينافيه خطاباً،
وقد فصّلوا الكلام فيها في أصول الفقه على أقوال مختلفة عديدة لا سيّما في حكم الخروج، وهي خارجة عن إطار بحثنا الفقهي. ويأتي ما قد يتّصل بهذا الأمر في شروط تحقّق
الاضطرار .
صرّح الفقهاء بارتفاع الحدّ عمّن اضطرّ إلى الزنى ونحوه، أو إلى السرقة، أو إلى
إظهار كلمة الكفر وغيرها.
والذي يبدو من كلماتهم
ارتفاع جانب العقوبة من الحدّ
والتعزير، دون سائر الآثار اللاحقة التي لا تندرج في باب العقوبات بحسب ملاكها، مثل أنواع الضمان والديات؛ ولهذا ذكر الفقهاء أنّه لا يرتفع
الضمان والدية ونحو ذلك من الآثار والتبعات الوضعية بمجرّد الاضطرار، إلّاإذا دلّ عليه دليل خاصّ؛ لأنّ ضمان الأموال أو النفوس ليس أثراً مشروطاً بحرمة التصرّف تكليفاً، بل بكونه غير مستحقّ للتصرّف ومحترماً لدى صاحبه، فلا يجوز هدره عليه، فأدلّة الاضطرار لا تستلزم إلّا رفع الحرمة التكليفية، ولا علاقة لها
باحترام مال الغير أو نفسه، فلو أكل مال الغير اضطراراً كان ضامناً.
نعم، إذا كان منشأ الاضطرار إلى
إتلاف مال الغير هو
الإكراه يرتفع الضمان عن المكرَه، ويستقرّ على المكرِه؛ لأنّ السبب في الإتلاف- وهو المكرِه- أقوى من المباشر- وهو المكرَه
وهذا لا يخرق القاعدة المتقدّمة بقدر ما يجري تحويلًا في الضامن من المباشر إلى السبب.وإنّما قلنا في البداية بعدم ارتفاع الضمان والدية إلّابدليل خاص؛ لكي نخرج أمثال حالة الدفاع المشروع عن النفس بما يؤدّي إلى هلاك النفس المحترمة في
الأصل ، وهي هنا المعتدي، بحيث ينحصر سبيل الدفاع بقتله، فهنا يحكم بسقوط الدية عن القاتل.
يترتّب على ارتفاع الحرمة بالاضطرار إجزاء العمل المأتي به، وصحّته إذا كان المانع من صحّته هو تعلّق الحرمة به، كما في العبادات، حيث تكون حرمة أجزائها وشرائطها مانعة من صحّتها، فإذا ارتفعت الحرمة بالاضطرار صحّت، كاضطرار المحبوس قهراً للصلاة في دار مغصوبة حبس فيها، ولا يجب عليه
الإعادة ؛ لتحقّق
الامتثال بشمول
الأمر الواقعي له بعد ارتفاع المانع- وهو الحرمة- عن ذلك الفرد من امتثال الواجب.
وهذا لا يختصّ بالعبادات بل يجري في المعاملات أيضاً، فإذا اضطرّ
الإنسان مثلًا إلى
إيجار دوابّه لخدمة سلطان جائر- لاكراه أو تقية أو غير ذلك- صحّ أخذ
الأجرة عليه أيضاً لارتفاع حرمة العمل المستأجر عليه بذلك.
وأمّا إذا لم يكن
بطلان العمل من جهة الحرمة، بل من جهة فقد شرط من شروط الصحّة اضطراراً، كالمضطرّ إلى الصلاة في ثوب نجس، أو المضطرّ إلى عدم استعمال الماء، أو غير ذلك، فهذا أيضاً قد يحكم بصحّة عمله وعدم وجوب الإعادة عليه، إلّا أنّه لا ربط له بالاضطرار، أي ليس الاضطرار وحده موجباً لصحّة عمله، بل يوجب سقوط الأمر الاختياري المضطرّ إلى تركه، وإنّما الموجب للصحّة ثبوت أوامر أخرى تعرف بالأوامر الاضطرارية، وقد دلّت على أنّ من لا يتمكّن من امتثال الأمر الاختياري الأوّلي يأتي بما يتمكّن عليه من أجزاء العبادة.وهذه الأوامر الاضطرارية تتبع الدليل الخاصّ، وإلّا فمقتضى القاعدة الأوّلية سقوط الأمر الاختياري بالاضطرار؛ لأنّ الاضطرار إلى ترك جزء المركّب أو شرطه اضطرار إلى ترك المجموع الذي هو واجب ارتباطي واحد لا محالة، فيسقط أمره؛ لكونه واحداً، فيحتاج وجوب الباقي إلى أمر جديد، فإذا لم يقم عليه دليل خاصّ لم يثبت ذلك.
وقد وقع البحث بين الفقهاء في كيفية
إثبات الأمر بالباقي في بعض المركّبات العبادية، كالصلاة والحجّ وغيرهما، كما وقع البحث عندهم في مدى إجزاء امتثال هذه الأوامر الاضطرارية عن الأوامر الاختيارية إذا ارتفع
العذر والاضطرار في أثناء الوقت بالنسبة للإعادة، أو خارجه بالنسبة للقضاء. وتفصيله في مصطلحي (إجزاء، اضطراري).
يذهب بعض الفقهاء إلى أنّ مقتضى القاعدة سقوط الكفّارة بارتفاع الحرمة بالاضطرار إذا كانت مترتّبة على
ارتكاب الحرام.قال
السيّد الخوئي : «فالذي تقتضيه القاعدة في نفسها أنّ العمل الاضطراري أو الذي أتى به تقيّة كلا عمل؛ لأنّه معنى رفعه، فكأنّه لم يأت به أصلًا، كما أنّه لازم كون العمل عند
التقيّة من الدين، فإذا كان الحال كذلك فترتفع عنه جميع آثاره المترتّبة عليه لارتفاع موضوعها تعبّداً، فلا تجب عليه الكفّارة إذا أفطر في نهار شهر رمضان متعمّداً؛ لأنّ إفطاره كلا
إفطار ، أو لأنّ إفطاره من الدين، ولا معنى لوجوب الكفّارة فيما يقتضيه الدين والتشريع».
نعم، هناك موارد في
الفقه خرجت عن مقتضى هذه القاعدة، حيث ثبتت فيها الكفّارة رغم وجود الاضطرار، ومن أمثلة ذلك
حلق الرأس ولبس المخيط وغيرهما للمحرم المضطر، وكذلك أكل الصيد لمخمصة أو الاضطرار للدهن الذي يحوي طيباً، أو
التظليل،
وهي موارد عديدة مذكورة في محلّها بالتفصيل.
الموسوعة الفقهية، ج۱۳، ص۴۵۴-۴۵۸.