الإنزاء
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو حمل الحيوان النزو، والنزو بمعنى
الوثبان للجماع .
الإنزاء- لغةً-: حمل الحيوان على النزو، وهو الوثبان، ومنه نزو التيس، ولا يقال إلّا للشاء والدوابّ والبقر في معنى
السفاد .
ولا يختلف معناه في
الفقه عن المعنى اللغوي، فحمل فحل الدوابّ على إناثها هو الإنزاء أو الضراب.
وهو ماؤه، فرساً كان أو بعيراً أو غيرهما. وعسبه أيضاً: ضرابه وطرقه.
كما ويطلق العسب على
إعطاء الكراء على الضراب، وقد يطلق على نفس الكراء الذي يؤخذ على ضرب الفحل.
تحدّث
الفقهاء عن الإنزاء من عدّة نواحٍ أوّلها حكمه التكليفي وذلك أنّ مقتضى
الأصل إباحة الإنزاء، كمن ينتزي فحل دوابه على إناثه. وهذا ما أشار إليه بعض فقهائنا، كالعلّامة الحلّي، حيث قال: «الإنزاء غير مكروه، والنهي غير متوجّه إلى الضراب، بل إلى العوض عليه».
أمّا بحسب النصوص والأدلّة فهناك ما فيه تصريح بالجواز، كرواية
هشام ابن إبراهيم عن
الإمام الرضا عليه السلام قال: سألته عن الحمير تنزيها على الرَمَك
لتنتج البغال، أيحلّ ذلك؟ قال: «نعم، أنزها».
ولكن نهت عنه بعض الروايات، كرواية
داود بن سليمان الفرّا عن الإمام الرضا عليه السلام عن
آبائه عليهم السلام- في حديث طويل- قال: «قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّا أهل بيت لا تحلّ لنا الصدقة، وامرنا
بإسباغ الطهور، ولا نُنزي حماراً على عتيقه».
ورواية
السكوني عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الكَشُوف، وهو أن تُضْرَب الناقة وولدها طفل، إلّاأن يتصدّق بولدها أو يذبح، ونهى أن يُنْزَى حمارٌ على عتيقة».
ولعلّه للجمع بين الرواية الاولى والروايتين المتأخّرتين ذهب الفقهاء إلى القول بالكراهة لا
الحرمة في خصوص الموردين اللذين ذكرتهما الروايتان الأخيرتان، أي بقيد إنزاء الحمار على عتيقة، وقيد أن تُضرَب الناقة وولدها طفل، ويبقى أصل الإنزاء على الإباحة.
وهذا ما نراه في كلماتهم من خلال ضمّ بعضها إلى بعض، قال
العلّامة الحلّي في
التذكرة : «الإنزاء غير مكروه، والنهي غير متوجّه إلى الضراب».
وقال في
التحرير : «ويكره إنزاء الحمار على العتيق، وليس بمحرّم».
وقال
الشهيد الأوّل : «ويكره الإنزاء على الناقة وولدها طفل إلّاأن ينحر أو يتصدّق به، وإنزاء الحمار على العتيق».
ثمّ إنّه يقع الكلام في أحكام بعض الفروع المهمّة في المقام، نشير إليها على نحو
الإجمال ، وهي:
تطرّق الفقهاء في باب تصرّفات الراهن في العين المرهونة إلى مسألة إنزاء الراهن حيوانه المرهون، وذهب البعض- كالشيخ الطوسي
- إلى جوازه، ولم يفرّق في ذلك بين كون المرهون فحلًا أو انثى، إلّاأنّه قيّد بعد ذلك جواز الإنزاء على الانثى المرهونة بما إذا كان محلّ الدين بعيداً يتأخّر عن الولادة، أمّا إذا كان محلّ الدين يتقدّم على الولادة فذكر فيه قولين.
ومنع بعض آخر إنزاء
الفحل المرهون والإنزاء على الانثى المرهونة كالعلّامة الحلّي، حيث قال: «ولو كان الرهن ماشية لم يكن للراهن إنزاء فحولتها على إناثه أو
إناث غيره، وكذا لا يُنزي عليها لو كانت إناثاً، سواء ظهر الحمل قبل حلول الدين أو لا».
وكذا الشهيد الأوّل، حيث قال: «وليس له إنزاء الفحل المرهون، سواء نقصت قيمته أم لا، وأمّا الإنزاء على الانثى فإن كانت آدمية منع منه، وكذا غيرها على الأقوى؛ لأنّه يعرّضها للنقص».
وكذا
الشهيد الثاني ، حيث ضعّف قول
الشيخ الطوسي بالجواز؛ وعلّل المنع بتعرّض الحيوان المرهون للنقص، ولأنّ الإنزاء
انتفاع في الجملة ينافي الحجر.
وذهب إلى المنع أيضاً
المحقّق النجفي .
ثمة في إنزاء الفحل المغصوب عدّة صور، فتارة ينزي الغاصب الفحل المغصوب على شاته مثلًا، واخرى ينزيه على شاة لغيره، وفي كلتا الحالتين تارة ينقص الفحل بالضراب واخرى لا ينقص.
فممّا لا خلاف فيه كون الولد في الحيوان تابعاً للُامّ خاصة، سواء في ذلك الغاصب وغيره؛ لأنّه نماؤها، فالمعيار هو الانثى ونماؤها، فإن كانت الانثى للغاصب كان الولد له أيضاً.
قال المحقّق النجفي: «ولو غصب فحلًا فأنزاه على الانثى كان الولد لصاحب الانثى وإن كانت للغاصب، كما صرّح به الشيخ والحلّي والفاضل والشهيدان والكركي وغيرهم على ما حكي عن بعضهم، بل في جامع المقاصد
الإجماع عليه على الظاهر، وفي المسالك وغيرها نفي الخلاف فيه، بل يمكن تحصيل القطع به من السيرة المستمرّة في سائر الأعصار والأمصار على تبعية الولد في غير
الإنسان للُانثى، من غير فرق بين الغاصب وغيره، فتأمّل بعض الناس فيه... في غير محلّه».
وكذا لا إشكال
- بل لا خلاف
- في أنّه لو نقص الفحل بالضراب يضمن الغاصب أرش النقصان، حاله حال غيره من الأعيان المغصوبة، فإنّ نقص المغصوب مطلقاً مضمون على الغاصب خصوصاً الحاصل بسبب
الاستعمال .
نعم، وقع خلاف في ثبوت اجرة الضراب على الغاصب، فذكر الشيخ الطوسي أنّه لا يضمن
الأجرة ؛ محتجّاً بنهي
النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كسب الفحل،
لكنّ أكثر فقهاء
أهل البيت عليهم السلام قالوا بثبوتها عليه؛ لأنّها منفعة محلّلة قد استوفاها الغاصب، فكان عليه عوضها.
وحمل أصحابنا النهي على الكراهة،
بل قال المحقّق النجفي: «قد يقال بضمانها (أي اجرة الضراب) بفواتها تحت يده وإن لم يستوفها، بل ينبغي الجزم به إذا كان ممّا يعتاد
استئجاره لذلك».
وهذا مبنيّ على القول بضمان المنافع الفائتة بغير
استيفاء ، وهو الأصحّ والأشهر بين الفقهاء.
إلّا أنّ في صدق فوت منفعة الإنزاء في المقام من حيث الصغرى إشكالًا.
نعم، يكون نفس حيازة الفحل وكونه تحت يد الغير للانتفاع بما يمكن الانتفاع به منفعةً له، فتكون مضمونة لمالكها، كما إذا غصب فرس الغير أو حماره، فإنّه يضمن اجرة مثله بلا إشكال، وقد تكون قيمة هذه المنفعة أقل أو أكثر من قيمة منفعة النزو بخصوصه.
اختلف الفقهاء في جواز أخذ الاجرة على الإنزاء وعدمه، ومنشأ
اختلافهم النصوص، فبعضها نهى عنه، وآخر أجازه، فمن النصوص الناهية النبوي المرسل حيث ورد فيه: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عن عسيب الفحل، وهو
أجر الضراب.
وما روي عن
عليّ عليه السلام أنّه قال: «من السحت عسب الفحل، ولا بأس أن يهدى له العلف».
أمّا الأدلّة التي استدلّ بها على الجواز فعدّة روايات:
منها: خبر
حنان بن سدير ، قال: دخلنا على أبي عبد اللَّه عليه السلام ومعنا فرقد الحجّام- إلى أن قال-: فقال له: جعلني اللَّه فداك، إنّ لي تيساً (التيس: الذكر من المعز إذا أتى عليه حول، والجمعتيوس. )
اكريه، فما تقول في كسبه؟ قال: «كل كسبه، فإنّه لك حلال، والناس يكرهونه»، قال حنان: قلت: لأيّ شيء يكرهونه وهو حلال؟ قال: «لتعيير الناس بعضهم بعضاً».
ومنها: خبر
معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: قلت له: أجر التيوس، قال: «إن كانت العرب لَتَعايرَ
به ولا بأس».
وكما ذكرنا سابقاً فإنّ لعسيب الفحل معان عديدة، منها: ماء الفحل في الأصلاب. ومنها: فحل الضراب. ومنها: اجرة الضراب. ومنها:
إعطاء الكراء عليه.
وقد وقع الخلاف بين الفقهاء في حكم المعاملة الواقعة على عسيب الفحل، فذهب بعض إلى حرمة بيع النطفة كالعلّامة الحلّي، حيث قال: «يحرم بيع عسيب الفحل- وهو نطفته- لأنّه غير متقوّم ولا معلوم ولا مقدور عليه، ولا نعلم فيه خلافاً».
أمّا ما كان بمعنى
إجارة الفحل للضراب وأخذ الكراء على ذلك فقد قال بعض بالكراهة كالشيخ الطوسي، حيث قال: «إجارة الفحل للضراب مكروه وليس بمحظور، وعقد الإجارة عليه غير فاسد...دليلنا... إجماع الفرقة».
وبعضهم حكم بكراهة اجرة الضراب
كالمحقّق النراقي ، وحمل الأخبار الناهية عنها على الكراهة؛ للإجماع.
والبحث في المعاملة على عسيب الفحل يقع على مرحلتين:
ذكر
السيّد الخوئي أنّه قد يستدلّ على
بطلان المعاملة على
عسيب الفحل بالبيع أو الإجارة بعدّة وجوه:
منها: جهالته.
ويناقش فيه بأنّه لم يرد نصّ ولا انعقد إجماع على
اعتبار العلم بعوضي المعاملة ليلزم من جهالتهما بطلانها، بل إنّما نعتبر ذلك فيها من جهة الغرر المرتفع بالعلم بالطروقة و
الاجتماع ، فإنّ الغرض من عسيب الفحل هو ذلك.
ومنها: عدم القدرة على
التسليم بدعوى أنّ
إحبال الحيوان غير مقدور عليه، فلا تصحّ الإجارة عليه؛ لأنّ ذلك ليس في وسعه، والموجود في أصلاب الفحول أيضاً غير مقدور على تسليمه، فلا يصحّ بيعه.
ويناقش فيه بأنّ اعتبار ذلك في المعاملة أيضاً هو من جهة الغرر، فحيث كان النظر في ذلك إلى
الطروقة والاجتماع، فيرتفع الغرر عنها، فإنّ تسليم كلّ شيء بحسبه.
ومنها: عدم كون ما في أصلاب الفحول مالًا؛ لكونه ماءً مهيناً لا قيمة له، فيكون العقد عليه
باطلًا .
وفيه- مضافاً إلى عدم اعتبار المالية في عوضي المعاملة-: أنّ قوامها إنّما هو باعتبار العقلاء ورغبتهم، فلا شبهة في ترتّب الغرض المهم على ما في أصلاب الفحول، على أنّه لو تمّ شيء من هذه الوجوه لدلّ على الحرمة الوضعية لا التكليفية.
وهي على طائفتين حسبما تبيّن من استعراضها:
الاولى: تدلّ على حرمة بيع عسيب الدابّة وإكرائها على الضراب، وأنّ ثمن ذلك سحت.
الثانية: تدلّ على جواز
إكراء التيوس ونفي البأس عن أخذ اجورها، فمقتضى الجمع بينهما هو حمل الطائفة الاولى- أي المانعة- على الكراهة، ولا يمنع من ذلك
إطلاق السحت على ثمن عسيب الفحل في رواية
الجعفريّات ، فإنّه قد أطلق لفظ (السحت) على
الكراهة الاصطلاحية في مواضع شتّى.
والأخذ بمقتضى الجمع بين الطائفتين والقول بالكراهة هو المعروف عند الفقهاء، قال الشيخ الطوسي: «كسب صاحب الفحل من
الإبل و
البقر و
الغنم إذا أقامه للنتاج ليس به بأس، وتركه أفضل».
وقال العلّامة الحلّي: «إجارة الفحل للضراب فعندنا مكروهة وليست محرّمة».
الموسوعة الفقهية، ج۱۸، ص۱۴۴-۱۵۰.