إنشاء عقد الإجارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ويراد
بإنشاء العقد (
الايجاب والقبول )
إبراز ذلك المضمون العقدي بمبرزٍ عرفي يدل عليه من قبل الطرفين، ويتحقق ذلك في
الإجارة بإيجاب يصدره المؤجر وقبول يصدره المستأجر
عند المشهور الدال على الرضى بالايجاب.
في حين يرى البعض أنّه يصح أن يقع الإيجاب من المستأجر والقبول من المؤجر؛
إذ لا يراد بالإيجاب إلّا ما ينشأ من الأمر الاعتباري أوّلًا. نعم يكون المنشأ حينئذٍ هو الاستئجار لا الإيجار أي تملّك
المنفعة بعوض لا تمليكها، فإنّه فعل المؤجر لا المستأجر.
ثمّ إنّ هذا الانشاء قد يحقّق باللفظ وقد يحقّق بالفعل، وفيما يلي نشير إلى كلّ منهما.
المشهور على أنّ الإجارة تنعقد بأيّ لفظ دالّ عليها، فانّها كما تنعقد بالألفاظ الصريحة ك (آجرتك أو أكريتك الدار) مثلًا، فيقول القابل: «قبلتُ أو استأجرتُ أو استكريت ونحوه»،
تنعقد أيضاً بالألفاظ المشتركة ك: (ملّكت سكنى هذه الدار سنة بكذا)؛
لأنّها تفيد تمليك المنفعة
بالعوض عرفاً. وكذا تنعقد بالألفاظ المجازية بشرط وجود القرائن التي تفيد معها معنى الإجارة عند العرف، ويكون عندهم من المجازات غير المستنكرة، وقد حمل
المحقق النجفي شهرة القول بعدم انعقاد العقود اللّازمة بالمجازات، على المجازات المستنكرة.
نعم، اختلف
الفقهاء في انعقاد الإجارة بألفاظ عقود اخر كلفظ
البيع والعارية .
صرّح المحقّق
والعلّامة وغيرهما
بعدم الانعقاد لو قال: (بعتك الدار) ونوى الإجارة، وهو المشهور
بل ظاهر
التذكرة الإجماع عليه.
لاختصاص لفظ البيع بنقل الأعيان على وجه يستهجن استعماله في نقل المنافع مجازاً عند العرف. وكذا لو قال: (بعتك سكناها سنة)، إلّا أنّه جعل في
التحرير [۱۷] المنع أقرب وهو يؤذن بالخلاف.
وتردّد في
الشرائع أيضاً،
ومنشؤه أنّه بالتصريح بارادة نقل المنفعة- مع أنّ البيع يفيد نقلها أيضاً مع الأعيان وإن كان بالتبع- ناسب أن يقوم مقام الإجارة.
لكن صرّح
السيد الخوئي وغيره
بالانعقاد؛ استناداً إلى أنّ الإنشاء ليس إلّا إبراز الاعتبار النفساني لا إيجاد المعنى باللفظ- كما ذكر المشهور- ومن الواضح أنّه يمكن أن يريد
العاقد بقوله: (بعتك هذه الدار) إبراز تمليك منفعتها؛ بأن يكون قد استعمل البيع في التمليك وأخذ المنفعة مقدّرة، فيكون بذلك مبرزاً لاعتباره تمليك منفعة الدار، غاية الأمر يكون إبرازه استعمالًا ركيكاً مثلًا أو مع عناية فائقة.
ومن هنا أنكر ما تسالم عليه المشهور
من أنّ إنشاء العقد باسم عقد آخر لا يقع صحيحاً حتى إذا كان قاصداً له. ووافق في ذلك ظاهر
المحقق الأردبيلي ،
ونسبه
المحدث البحراني إلى جماعة من متأخّري المتأخّرين.
ونوقش فيه: بأنّه لا ربط لهذه المسألة بحقيقة الإنشاء، وأنّه إيجاد للمعنى باللفظ أو إبراز الاعتبار النفساني، فإنّه على كلا المسلكين لا بدّ في باب الإنشائيات من
الإبراز بحيث يكون للإبراز موضوعية في ترتّب الأثر، ويكون هو
الإظهار بالطريقة النوعية العرفية بحيث تكون دلالة المبرز- بالكسر- دلالة عرفية نوعية، سواء كان لفظاً أو فعلًا، ولا يكفي مطلق الكاشف.
ومن هنا فصّل
السيد اليزدي بين (بعتك سكنى الدار) فتصح؛ لدعوى وجود قرينة عرفية واضحة تجعل الدلالة
والكاشفية نوعية، وبين (بعتك الدار) فلا تصح، فإنّ أخذ (المنفعة) في التقدير مع صراحة مادة البيع في إرادة تمليك الرقبة، لا يكون استعمالًا عرفياً بل أشبه بالغلط، فلا يكون الإبراز المطلوب حاصلًا بذلك.
وكذا اختلفوا في جواز انشاء الإيجار بقوله: (أعرتك هذه الدار شهراً بكذا) مريداً بها معنى الإجارة، فذهب بعض
إلى الجواز لتحقّق القصد حينئذٍ إلى نقل المنفعة بعوض ودلالته العرفية على الإجارة، كما اختاره المحقق النجفي مستنداً إلى أنّه من المجازات غير المستنكرة، بينما قال بالمنع في الإنشاء بلفظ البيع.
لكن نوقش فيه
بإنكار هذه الدعوى وعدم الفرق بين اللفظين في استهجانه العرفي مضافاً إلى أنّ العارية إنّما تقتضي
إباحة المنفعة لا
تمليكها ، والعوض لا يدخل في ماهيتها، بخلاف التمليك فانّه يجامع العوض، ولا يخفى أنّ التجوّز بمثل ذلك خروج عن مقتضى العقود اللازمة.
فلا تنعقد الإجارة بالعارية كما صرّح به بعضهم.
أمّا في الإيجار ب (ملّكت هذه الدار) فذهب عدّة من الفقهاء إلى المنع،
بينما احتمل الجواز في
الجواهر ،
بل نفى البعد عنه.
وكذا الكلام في حكم الإيجار ب (اسلمت إليك كذا لأسكن في الدار)
و (ألزمت ذمتك بعوض كذا)
ونحوه.
يصح اجراء الصيغة
بالكتابة أو
الإشارة أو
السكوت كما إذا استأجر داراً شهراً، ثمّ جاء المؤجر في الشهر الثاني وحدّد مقداراً من الأجر فسكت المستأجر وبقي في الدار، فإنّ ذلك كاشف عن
الرضا والموافقة على الإيجار.
يشترط في الصيغة لانعقاد العقد أن تكون واضحة الدلالة في لغة المتعاقدين وعرفهما، قاطعة في الرغبة من دون
تسويف أو
تعليق ، كما سيأتي بيان ذلك.
يشترط أن يكون القبول موافقاً للإيجاب في جميع جزئياته؛ بأن يقبل المستأجر ما أوجبه المؤجر
بالاجرة التي أوجبها حتى يتوافق الرضا بالعقد بين طرفيه.
ومن جملة الشرائط التي ذكروها
اتصال القبول بالايجاب في مجلس العقد
وموالاتهما ، وكذا
العربية والماضوية ،
كما يأتي. وإن استشكل بعض
في لزومه.
وقع البحث عندهم في صحة الجمع بين الإجارة وغيرها من سائر العقود في عقد واحد
كالبيع والصلح ، كأن يقول:
(ملّكت سكنى الدار وهذا الفرس بكذا)، ومنشأ الإشكال فيه عدم معهودية هذا النحو من التعهّد ولزوم
الغرر والجهالة بالاجرة وترتّب أحكام
الصرف أو
الربا إذا كان مورداً لهما.
وللجمع بين الإجارة والبيع في عقد واحد صور ثلاث:
أن يكون كلّ منهما مستقلًاّ عن الآخر؛ بأن يكون
ثمن المبيع والاجرة معيّنين وليس تمليك أحدهما مشروطاً أو مقيّداً بالآخر، فهما عقدان مستقلّان جمعهما المتعاقدان في لفظ واحد فيصح إجماعاً.
وهنا لا وجه للإشكال في الصحة من جهة عدم المعهودية؛ إذ العقد أو البيع والإيجار ليس اسماً للإنشاء بما هو لفظ أو تكلّم ليتوهّم اشتراط
الاستقلالية فيه، بل اسم للتعهّد المبرز أو لإبراز التعهّد، وهو هنا متعدّد بحسب تعدّد المنشأ واستقلال كلّ منهما عن الآخر. كما أنّه لا موضوع لتوهّم الغرر أو الجهالة في هذا القسم لمعلومية كلّ من الثمن والاجرة.
كما أنّه لا إشكال أيضاً من جهة لزوم
الإقباض إذا كان البيع صرفاً أو جريان الربا إذا كان المبيع جنساً ربوياً؛ لصدق البيع على المنشأ بلحاظ تمليك العين، وصدق الإجارة على المنشأ بلحاظ تمليك المنفعة، فيشترط في الأوّل القبض، كما يشترط عدم التفاضل إذا كان المبيع ربوياً؛ لأنّ ما هو الثمن المقابل له مشخّص في هذه الصورة فيكون التفاضل صادقاً جزماً.
نفس الصورة السابقة مع فرض تقييد أحدهما بالآخر كما في الصفقة الواحدة فالتعهّد هنا واحد لا متعدّد وإن كان منحلّا إلى بيع وإيجار.
وهنا أيضاً لا ينبغي الإشكال في صحة كلّ منهما؛ لأن كلّاً منهما مستقلّ عن الآخر عوضاً ومعوّضاً
غاية الأمر جعلا في صفقة واحدة، وهي لا تقتضي أكثر من تقيّد أحدهما بالآخر في التعهّد والالتزام بحيث لو انفسخ أو ظهر بطلانه في أحدهما كان له حق
الفسخ في الآخر، وهذا لا يستوجب
البطلان .
وأمّا الاشكال من جهة لزوم الإقباض وجريان الربا وعدم المعهودية والتعارف فقد عرفت جوابه.
أن يكون التمليك للعين والمنفعة في صفقة واحدة، ويكون مجموع العوض في قبال مجموع العين والمنفعة.
وهذه الصورة هي محطّ كلام الفقهاء، وظاهرهم جوازها أيضاً، بل ادّعى في
المسالك عدم الخلاف في ذلك،
وصرّح في
الجواهر بعدم وجدان المخالف فيه أيضاً، قال: «وإن أوهمه نسبة بعضهم إياه إلى الأكثر، بل قيل: صرّح في المبسوط بأنّ فيه خلافاً عندنا، لكنه احتمل ارادته من العامة».
نعم تأمّل فيه بعض،
بل صرّح آخر بأنّه إن تم
الإجماع على الصحّة والّا ففيه إشكال.
ويمكن الإشكال فيه من جهات:
ما تقدم في الصورة الثانية من عدم تعارف مثل هذه العقود، وقد تقدّم الجواب عنه أيضاً. مضافاً إلى أنّه لو سلّم عدم شمول عنوان البيع أو الإيجار له، إلّا أنّ عنوان العقد أو
التجارة صادق عليه فيشمله العمومات.
ما تقدّم أيضاً من الغرر والجهالة حيث إنّ ما يقابل كلّ من العين والمنفعة غير معيّن ولا معلوم.
واجيب عنه:
أوّلًا: بما أفاده
السيد اليزدي من تقسيط العوض عليهما.
وظاهره أنّه يقسّط عليهما بحسب النسبة بين قيمتها السوقية، فلا غرر لتعيّن ما يقابل كلّ منهما.
وثانياً- وهو العمدة في دفع الإشكال-:
بأنّه لا يشترط في
معلومية العوضين ودفع الغررية أن يكون ما يقابل كلّ جزء من العوض معيّناً أو معلوماً، بل يكفي معلومية مجموع العوض والمعوّض في العقد الواحد في عدم غررية العقد، كما إذا باع شيئين لكلّ منهما قيمته الخاصة بثمن واحد،
خصوصاً مع فرض أنّ الدليل على بطلان
الغرر ليس لفظياً حتى يشمله بإطلاقه بل لُبّي من إجماع أو
سيرة ، وكلاهما غير شاملين للمقام؛ لورودهما فيما إذا كان البيع عقداً مستقلًاّ لا جزء عقد. مع أنّه لو بني على وجود إطلاق يقتضي
النهي عن الجهالة هنا- كما ورد من نهي
النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر- فاتفاق الأصحاب في المقام يقتضي الخروج عنه.
الإشكال من جهة لحوق كلّ من البيع والإجارة حكمه الخاص من حيث لزوم القبض والإقباض إذا كان البيع صَرفاً أو جريان الربا فيه إن كان الثمن والمثمن جنساً ربوياً.
وقال السيد اليزدي وغيره بجريان كلا الحكمين في المقام بالنسبة إلى العين؛
لصدق البيع عليها ومبادلتها بمثلها من النقد إذا كانا نقدين، فيجب التقابض، وصدق التفاضل والربا إذا كانا من الجنس الربوي فيبطل. ووافقه جمع من المحشّين أيضاً حيث لم يعلّقوا عليه.
واستشكل في جريان حكم الربا بأنّ الضميمة مانعة من تحقق الربا نصاً
وفتوى .
ولكن صرّح
السيد الحكيم وغيره
بالجمع بين الإجارة
والصلح بالتفصيل بين حكم الصرف- أعني لزوم القبض والإقباض- فلا يجري في المقام، وبين حكم الربا فيجري؛ لصدق زيادة العوض على المعوّض هنا.
وأمّا تفصيل الكلام في بطلان البيع وعدمه وإمكان الفرار عن أحكام الصرف أو الربا بتبديل البيع إلى الصلح فموكول إلى محلّه.
أمّا المعاطاة وجريانها في العقود فيبحث عنها مفصّلًا في مصطلح (
معاطاة )، إذ الكلام في جريانها في الإجارة إيجاباً وقبولًا هو الكلام هناك. إلّا أنّا نشير هنا إلى بعض الامور المرتبطة بالمقام إجمالًا:
۱- بناءً على انعقاد الإجارة بالمعاطاة، ذهب بعض إلى أنّها عقد مفيد
للملكية ،
ويشترط فيها ما يشترط في العقد بالصيغة.
في حين يرى البعض الآخر أنّه لا يترتّب عليه إلّا
الإباحة دون الملك،
حتى نسبه
الشهيد الثاني إلى المشهور، وحمل
المحقق الكركي كلمات جمع من الفقهاء على إرادة الملك المتزلزل.
۲- قد يناقش
في جريان المعاطاة في إجارة الأعمال بالنسبة إلى الأجير الحرّ بأنّه لا تعاطي هنا إلّا بتسليم العمل الذي هو
وفاء بالعقد المترتّب على
الإنشاء ، فكيف يكون إنشاءً له؟
واجيب عنه:
أوّلًا: بأنّه لا يعتبر التعاطي من الطرفين بل يكفي
الإعطاء من طرف واحد.
وثانياً: بتحقّق التعاطي بكلّ فعل يكون مبرزاً لهذا القصد عرفاً
كالاشتغال بالمقدمات بقصد الإنشاء، بل يتحقّق بتسليم نفسه للعمل بقصد الإجارة، ويكون إعطاء الاجرة بمنزلة القبول؛
ولذا ذهب الأكثر إلى جريان المعاطاة في إجارة الأعمال أيضاً إلّا أنّ
السيد الحكيم قيّده بما إذا كانت
الاجرة عيناً.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۲۸-۳۵.