استقبال جهة الكعبة مع عدم إمكان مشاهدتها
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
واختلف الأصحاب في تعيينه بعد
اتفاقهم على أنه (الكعبة) في الجملة فأكثر المتأخّرين
على أنها
القبلة مطلقا (مع
الإمكان ) من مشاهدتها، كمن كان في مكة متمكنا منها ولو بمشقة يمكن تحمّلها عادة وإلّا يتمكن ـ بالبعد عنها، أو تعذّر مشاهدتها لمرض أو حبس أو نحوهما فجهتها وإن بعد.
وفاقا منهم للمحكي عن كثير من القدماء، كالمرتضى، والحلبي، والحلي، والإسكافي.
ولعله الأقوى،
استنادا في الشق الأوّل إلى
الإجماع المحكي عن المعتبر والتذكرة.
والنصوص المستفيضة، بل المتواترة، المتضمنة للصحيح والموثق وغيرهما
على أنها القبلة.
والاحتياط ، للإجماع على صحة الصلاة إليها، والخلاف في الصلاة إلى المسجد والحرم، مع
اختلاف المسجد صغرا وكبرا في الأزمان، وعدم
انضباط ما كان مسجدا عند نزول الآية بيقين.وخصوص المروي في
الاحتجاج عن مولانا
العسكري عليه السلام في احتجاج
النبي صلي الله عليه وآله على المشركين، قال : «إنّا عباد الله تعالى.. إلى أن قال : فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه إلى
الكعبة أطعنا، ثمَّ أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي تكون بها»
إشارة إلى قوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.. ).
نقله في الوسائل، وهو نص في المدّعى كملا حتى في الشق الثاني.
والحجة فيه بعده أيضا : النصوص المتقدمة بأنّ القبلة هي الكعبة، بناء على أنّ تعذّر عينها للبعيد يوجب
إرادة الجهة.مضافا إلى ظهور جملة منها في كونها مرادة، وهي ما دلّ على أنه صلي الله عليه وآله حوّل إليها، وهي أيضا مستفيضة، متضمنّة للصحيح وغيره.
مضافا إلى الصحيحين وغيرهما : «ما بين المشرق والمغرب قبلة».
وهو وإن اختصّ بالمضطرّ، إلّا أنه صريح في تعيّن الجهة ولو في الجملة، كما صرّح به الشهيد.
ويندفع به القول بتعيّن العين للقبلة المشار إليه بقوله (وقيل :) والقائل الشيخ في أكثر كتبه،
والقاضي وابن حمزة والديلمي،
بل ذكر الشهيدان انه أكثر الأصحاب،
وزاد أوّلهما وغيره
فادعيا أنه هو المشهور (هي) أي الكعبة (قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة من صلّى في الحرم، والحرم قبلة أهل الدنيا).لنصوص ضعيفة
لا تصلح من أصلها للحجيّة، فضلا عن أن تقاوم ما قدّمناه من الأدلّة.والشهرة المحكية على تقدير تسليمها معارضة بالشهرة المتأخّرة المحققة، والمحكيّة أيضا في كلام جماعة،
فلا تصلح للضعف جابرة.
وظاهر النصوص كالعبارة، والمحكي عن الخلاف والاقتصاد والمصباح ومختصره والمراسم والنهاية
: جواز صلاة من خرج من المسجد إليه منحرفا عن الكعبة وإن شاهدها أو تمكن من المشاهدة، ومن خرج من الحرم إليه منحرفا عن الكعبة والمسجد.
ولكن عن المبسوط والجمل والعقود والمهذب والوسيلة والإصباح
أنهم اشترطوا في
استقبال المسجد أن لا يشاهد الكعبة ولا يكون بحكمه، وفي استقبال الحرم أن لا يشاهد المسجد ولا يكون بحكمه.وهو صريح في الموافقة للمختار في الشق الأوّل. ويمكن تنزيل
إطلاق ما مرّ من العبائر عليه، فيرتفع فيه الخلاف، كما صرّح به بعض الأصحاب وحكاه عن ابن زهرة،
ولعلّه لذا صرّح الماتن بالإجماع في المعتبر،
كالفاضل المقداد في كنز العرفان.
وربما يفهم أيضا من شيخنا الشهيد في الذكرى وجملة ممن تبعه،
حيث فهموا من كلام القائلين بهذا القول تعيّن استقبال عين المسجد والحرم لمن كان خارجهما وعدم
اعتبار جهتهما، وحملوا كلامهم والروايات على الجهة، وأن ذلك ذكر على سبيل التقريب إلى الأفهام
إظهارا لسعة الجهة، وزعموا بذلك الجمع بين القولين، ولو لا اتفاقهما على تعيّن الكعبة للمشاهد ومن بحكمه لما ارتفع بمجرد ذلك الخلاف بينهما، فإن ثمرة الاختلاف بينهما تظهر في شيئين :
أحدهما : تعيّن الكعبة للمشاهد ومن بحكمه ولو كانا خارج المسجد مثلا، كما هو مقتضى القول الأوّل، وعدمه وجواز استقبال جزء من المسجد والحرم ولو منحرفا عنها، كما هو مقتضى القول الثاني.
وثانيهما : تعيّن استقبال عين المسجد أو الحرم للنائي دون الجهة، كما هو مقتضى القول الثاني، وكفاية الجهة دون عينهما، كما هو مقتضى القول الأوّل.وحيث إنّ الشهيد ومن بعده لم يتعرضوا إلّا للثمرة الأخيرة وجمعوا بين القولين بما مر، ظهر منهم
انحصار ثمرة الخلاف فيها خاصة، دون السابقة، وليس ذلك إلّا لتعيّن الكعبة للمشاهد ومن بحكمه كما عرفته.
واعلم إن الجمع الذي ذكروه حسن، إلّا أنه ربما يأبى عنه عبارة الخلاف المحكية، حيث استدل على مختاره ـ بعد النصوص المتقدمة وما ادّعاه من إجماع
الإمامية ـ بأنّ المحذور في استقبال عين الكعبة لازم لمن أوجب استقبال جهتها، فإن لكل مصلّ جهة، والكعبة لا تكون في الجهات كلها.ولا كذلك التوجّه إلى الحرم، لأنه طويل يمكن أن يكون كل واحد متوجّها إلى جزء منه.
وهو كما ترى صريح في نفي الجهة وتعيّن استقبال عين الحرم خاصة، فلا يقبل الجمع المتقدم إليه الإشارة.
(و) لكن (فيه ضعف) لا يخفى وجهه، لاتّفاق الفريقين ـ كما ذكره جماعة
ـ على أن فرض النائي هو التعويل على الأمارات المتفق عليها بينهم لأهل كلّ إقليم، وعليه فلا ثمرة لهذا الاختلاف، إلّا بالنسبة إلى الثمرة الاولى، وقد عرفت
ارتفاع الخلاف فيها أيضا.ولو سلّم وجوده لمنع كل ما في الخلاف من الدليل :
فالنصوص بما مرّ.والإجماع المحكي بالمعارضة بما يحكى من ابني زهرة وشهرآشوب
من نفي الخلاف عن وجوب استقبال جهة
المسجد لمن نأى عنه، كما هو ظاهر
الآية . ولو سلّم فغايته أنه خبر صحيح لا يعارض ما قدّمناه من الأدلّة.
رياض المسائل، ج۲، ص۲۵۴-۲۵۸.