التمكن من السفر
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
والمقصود بالتمكن من السفر أن يكون الطريق مفتوحاً ومأموناً بحيث لا يكون فيه مانع لا يمكن معه من الوصول إلى
الميقات أو إلى الأماكن المقدّسة.
ولا خلاف ولا إشكال في اشتراطها،
بل ادّعى
المحقّق النراقي أنّ اشتراطها مجمع عليه محقّقاً ومحكيّاً.
والمقصود بها أن يكون الطريق مفتوحاً ومأموناً بحيث لا يكون فيه مانع لا يمكن معه من الوصول إلى
الميقات أو إلى الأماكن المقدّسة.
واستدلّ على ذلك بقوله تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»،
فإنّ
الاستطاعة السبيلية لا تصدق إلّا مع
تخلية السرب و
الأمان من الخطر في الطريق.
مضافاً إلى النصوص المفسّرة للآية الشريفة المتضمّنة لتخلية السرب.
صحيحة
هشام بن سالم حيث قال
الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية: «من كان صحيحاً في بدنه، مخلّى سربه، له زاد وراحلة».
وعلى هذا إذا كان في الطريق مانع لا يمكن معه من الوصول إلى الميقات أو إلى تمام الأعمال لم يجب الحجّ؛ لفقد هذا الشرط. وكذا إذا كان الطريق غير مأمون ومخوفاً بأن يخاف على نفسه أو بدنه، أو عرضه أو ماله، فلا يجب الحجّ أيضاً. واختلف في المقام في أنّ الحكم بعدم الوجوب هل هو حكم ظاهري أم واقعي؟ ذهب
السيّد الحكيم إلى أنّه حكم ظاهري، بينما ذهب السيّد الخوئي إلى أنّه حكم واقعي.
قال: «الحكم هنا ظاهري، فإنّ موضوع الحكم الواقعي بعدم الوجوب- لعدم الاستطاعة- هو عدم تخلية السرب واقعاً، فمع الشكّ لا يحرز
الحكم الواقعي بل يكون الحكم بعدم الوجوب ظاهرياً. نعم، مع
احتمال تلف النفس؛ لمّا كان يحرم السفر يكون الحكم الظاهري بحرمة السفر موضوعاً للحكم الواقعي بانتفاء الاستطاعة و
انتفاء وجوب الحجّ، لكن لا لأجل انتفاء تخلية السرب بل للحرمة الظاهرية المانعة من القدرة على السفر، أمّا مع احتمال تلف المال أو غيره ممّا لا يكون
الإقدام معه حراماً فالاصول والقواعد العقلائية- المرخّصة في ترك السفر- تكون من قبيل الحجّة على انتفاء تخلية السرب، ولأجل ذلك يكون المدار في عدم وجوب السفر وجود الحجّة على عدم وجوبه من
أصل عقلائي أو
أمارة كذلك تقتضي الترخيص في تركه، وعليه لو انكشف الخلاف انكشف كونه مستطيعاً واقعاً».
إلّا أنّه قال بعد ذلك: «لكن يمكن أن يقال: إنّ الحرمة الآتية من جهة جهل المكلّف وغلطه لا تكون نافيةً للاستطاعة... نظير ما لو ملك
الزاد والراحلة واعتقد أنّهما لغيره، فإنّ حرمة التصرّف... من جهة الجهل لا تمنع من تحقّق الاستطاعة و
استقرار الوجوب عليه».
وقال
السيّد الخوئي في تقرير ما اختاره من كون الحكم هنا حكماً واقعياً بأنّ «خوف الضرر بنفسه- كما قد يستفاد من بعض الروايات- طريق عقلائي إلى الضرر، ولا يلزم أن يكون الضرر معلوماً جزماً بل جرت سيرة العقلاء على
الاجتناب عن محتمل الضرر، فالحكم في مورد خوف الضرر مرفوع واقعاً حتى لو انكشف الخلاف وتبيّن عدم وجود المانع في الطريق كما هو الحال في غير مورد الحجّ كمورد التيمّم، فإنّه لو خاف من
استعمال الماء وتيمّم وصلّى ثمّ انكشف الخلاف بعد الوقت صحّ تيمّمه وصلاته واقعاً».
وتظهر ثمرة
الاختلاف في صورة
انكشاف الخلاف وأنّ الطريق كان مأموناً واقعاً فبناءً على كونه حكماً ظاهريّاً يتبيّن أنّ الاستطاعة كانت موجودةً واقعاً، ويترتّب على ذلك وجوب حفظها إلى السنة المقبلة، وأمّا بناءً على كونه حكماً واقعيّاً يظهر أنّ الاستطاعة لم تكن موجودة من الأوّل فلا وجوب كي يجب حفظها إلى العام المقبل.
ثمّ إنّهم تعرّضوا لعدّة مسائل تتعلّق بالمقام:
أنّه قد يكون جميع الطرق مخوفة إلّا أنّه يمكنه الوصول إلى الحجّ بالدوران في البلاد، مثل ما إذا كان من
أهل العراق ولا يمكنه إلّا أن يمشي إلى
كرمان ، ومنه إلى
خراسان ، ومنه إلى بخارى، ومنه إلى
الهند ، ومنه إلى
بوشهر ، ومنه إلى جدّة مثلًا، ومنه إلى
المدينة ، ومنها إلى
مكّة ، فذهب بعض
الفقهاء إلى عدم وجوب الحجّ حينئذٍ؛ وذلك لأنّه يصدق أنّه لا يكون مخلّى السرب، ولانصراف استطاعة السبيل إلى سلوك الطريق العادي المتعارف، فلا تشمل الآية الشريفة لمن استطاع إليه بسلوك الطريق غير المتعارف.
واورد على ذلك بأنّ دعوى
الانصراف إلى السير العادي أو دعوى عدم صدق تخلية السرب عرفاً ممّا لا شاهد عليه.
وذهب السيّد الخوئي إلى التفصيل بين ما إذا ترتّب ضرر أو حرج على سلوك الطريق غير المتعارف فلا يجب الحجّ، وبين ما إذا لم يترتّب ضرر ولا حرج عليه فيجب الحجّ؛ إذ لم يقيّد الوجوب بما إذا كان الطريق متعارفاً، وأمّا دعوى الانصراف إليه أو دعوى عدم صدق تخلية السرب عرفاً فلا شاهد عليها كما تقدّم.
أنّه قد يكون في الطريق عدوّ لا يندفع إلّا بالمال، ففي وجوب
بذل المال ووجوب الحجّ حينئذٍ أقوال:
عدم الوجوب، وهو مختار
الشيخ الطوسي وغيره. واستدلّ له: أوّلًا: بأنّ الشرط- وهو تخلية السرب- منتفٍ في المقام. وثانياً: بأنّ المأخوذ على هذا الوجه ظلم لا ينبغي
الإعانة عليه. وثالثاً: بأنّ من خاف من أخذ المال قهراً لا يجب عليه الحجّ وإن قلّ المال، وهذا في معناه.
ولكن اورد على الأوّل بأنّ الشرط وهو تخلية السرب حاصل بالقدرة على
اندفاع العدوّ ببذل المال. وعلى الثاني بأنّ المدفوع على هذا الوجه لم يقصد به المعاونة على الظلم بل التوصّل إلى فعل الواجب وهو راجح شرعاً لا مرجوح كما في دفع المال إلى الظالم
لاستنقاذ مسلم من
الهلاك . وعلى الثالث، أوّلًا: بمنع السقوط في
الأصل ؛ لانتفاء الدليل عليه. وثانياً: بمنع المساواة، فإنّ بذل المال بالاختيار على هذا الوجه ليس فيه دنوّة ولا مشقّة زائدة، بخلاف أخذه قهراً، فإنّ فيه غضاضة تامّة ومشقّة زائدة على
أهل المروءة ، فلا يلزم من عدم وجوب تحمّله عدم وجوب البذل مع
الاختيار .
الوجوب مع
الإمكان ، استحسنه
المحقّق الحلّي في
الشرائع حيث قال: «ولو قيل: يجب التحمّل مع المكنة كان حسناً»،
واختاره
الشهيد الثاني وصاحب
المدارك وصاحب
الحدائق أيضاً، بل هو المنسوب إلى جمهور أصحابنا المتأخّرين.
والدليل عليه صدق تخلية السرب حينئذٍ.
التفصيل بين ما إذا كان بذل المال مضرّاً بحاله ومجحفاً به فلا يجب بذل المال حينئذٍ ويسقط الحجّ، وبين ما إذا كان غير مضرّ بحاله- كما إذا كان المال يسيراً- فيجب البذل، وهو مختار الفاضلين في
المعتبر و
المنتهى .
ولعلّ وجهه حكومة دليل نفي الضرر على الأحكام كلّها. ولكن ذهب السيّد الحكيم إلى أنّه لا مجال للتمسّك بقاعدة نفي الضرر هنا؛ لأنّ أدلّة وجوب الحجّ من قبيل المخصّص لها، فيؤخذ بإطلاق أدلّة وجوب الحجّ، فيجب بذل المال ولو كان مضرّاً بحاله. نعم، إذا كان موجباً للحرج فلا يجب؛ لدليل نفي الحرج.
بينما ذهب السيّد الخوئي إلى جريان دليل لا ضرر في الحجّ ونحوه من الأحكام الضررية إذا كان الضرر اللازم أزيد ممّا يقتضيه طبع الحجّ، وعليه إذا كان الضرر كثيراً ومعتدّاً به فلا يجب بذل المال كما لا يجب إذا كان حرجيّاً. نعم، إذا كان الضرر يسيراً أو قد لا يعدّ عرفاً من الضرر في بعض صوره- كبذل خمسة دنانير بالنسبة إلى خمسمائة دينار التي يصرفها في الحجّ- فلا يبعد القول بوجوب الحجّ ولزوم تحمّل ذلك الضرر اليسير؛ لصدق تخلية السرب على ذلك.
أنّه قد يتوقّف الحجّ على قتال العدوّ، فذهب بعض الفقهاء إلى عدم وجوب الحجّ حينئذٍ حتى مع ظنّ الغلبة عليه والسلامة.
واستدلّ بصدق عدم تخلية السرب مع توقّف الحجّ على القتال.
ولكن ذهب بعض آخر إلى التفصيل في المسألة، فإنّه قال: «إنّه قد يفرض كونه متمكّناً من قتال العدوّ ودفعه من دون
استلزام ضرر أو حرج، ويطمئنّ بالغلبة والسلامة، فلا ينبغي الريب في عدم سقوط وجوب الحجّ عنه؛ لصدق تخلية السرب، ومجرّد وجود شخص في الطريق مانع عن الحجّ يمكن دفعه بسهولة لا يوجب صدق عدم تخلية السرب.
وقد يفرض كون السفر خطراً بحيث يخاف على نفسه أو على ما يتعلّق به فلا إشكال في سقوط الحج؛ لصدق عدم تخلية السرب وعدم الأمان في الطريق وإن ظنّ الغلبة والسلامة؛ لعدم حصول الأمان بالفعل، فيصدق عدم تخلية السرب، ومجرّد الظنّ بالغلبة والسلامة لا يوجب كون الطريق مأموناً».
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۵۱۲- ۵۲۲.