الحقوق المتعلقة بالتركة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
إنّ الحقوق المتعلّقة بالتركة أربعة يتقدّم بعضها على بعض رتبةً، وهي: تجهيز الميّت، ثمّ الدين، ثمّ الوصايا، ثمّ الميراث.
من إطلاقات
الإرث لغة التركة، وتركة الميّت: ما يتركه الميّت من تراثه،
وهي أمواله وحقوقه، وهي مأخوذة من الكتاب «وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ».
وقد اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ الحقوق المتعلّقة بالتركة أربعة يتقدّم بعضها على بعض رتبةً، وهي: تجهيز الميّت، ثمّ الدين، ثمّ الوصايا، ثمّ الميراث.
ويدلّ على ذلك نصوص : منها: قول
الإمام الصادق عليه السلام : «أوّل شيء يبدأ به من المال الكفن، ثمّ الدين، ثمّ الوصية، ثمّ الميراث».
هذا إذا كانت تركة الميّت خالية عن تعلّق حق الغير بعين أمواله كحقّ الرهانة والجناية أو كانت وافية بجميع الحقوق، وأمّا إذا كانت متعلّقةً لحق الغير أو غير وافية بسدّ جميع الحقوق ففي تقديم بعض أقسامها على بعض خلاف بين الفقهاء، وتفصيل ذلك كما يلي:
لا خلاف
في
إخراج مئونة تجهيز الميّت من أصل التركة،
وتقديمه على ديونه ووصاياه وميراثه، كتقديم نفقة المفلّس على ديون غرمائه. هذا إذا لم يتعلّق حقّ الغير بعين المال، وأمّا إذا كان متعلّقاً بعين المال- كحقّ
الرهانة وحقّ الجناية- فالمشهور التقديم أيضاً.
قال
المحقق النجفي : «
إطلاق النصّ والفتوى ومعاقد الإجماعات يقتضي تقديمه (الكفن) على حقّ المرتهن والمجني عليه وغرماء المفلّس، بل لم أعرف فيه خلافاً بالنسبة إلى الأخير».
واختار الشهيد في
الذكرى تقديم حقّ المرتهن على الكفن.
وذهب في
البيان إلى تقديم خصوص حقّ الجناية عليه.
وتردّد في المسألة جماعة،
منهم
الشهيد الثاني ، فمال أوّلًا إلى تقديم الكفن على حقّ المرتهن والمجنيّ عليه، ثمّ احتمل تقديمهما عليه؛ لاقتضائهما
الاختصاص والمنع من المؤنة حال الحياة وهي متقدّمة على الدين، واحتمل أخيراً تقديم المجنيّ عليه دون المرتهن؛ لأخذه العين و
استقلاله بالأخذ بخلاف المرتهن.
ثمّ إنّه بناءً على تقديم حقّ الغير إذا لم يفضل شيء من التركة بعد سداد حقّ الغير فهل يدفن عارياً أم يكون تجهيزه على من تجب نفقته عليه أو من
بيت المال ؟ ذهب الفقهاء في أحكام التكفين إلى أنّ من لم يكن له كفن دفن عارياً، ولا يجب على أحد من المسلمين
بذل كفنه، قريباً كان أو بعيداً، سواء وجبت نفقته عليه في حياته أو لا؛ للبراءة الأصليّة.
وذهب جماعة منهم العلّامة
والشهيدان
إلى وجوب تكفينه من بيت المال؛ لأنّه معدّ لمصالح المسلمين،
ولبعض الروايات.
كرواية
الفضل بن يونس ، قال: «سألت
أبا الحسن موسى عليه السلام فقلت له: ما ترى في رجل من أصحابنا يموت ولم يترك ما يكفّن به، أشتري له كفنه من الزكاة؟ فقال: «أعط عياله من الزكاة قدر ما يجهّزونه. »، قلت: فإن لم يكن له ولد ولا أحد يقوم بأمره فأُجهّزه أنا من الزكاة؟ قال: «كان أبي يقول: إنّ حرمة بدن المؤمن ميّتاً كحرمته حيّاً، فوار
بدنه وعورته وجهّزه وكفّنه وحنّطه، واحتسب بذلك من الزكاة.
وتفصيل ذلك في مصطلح (تكفين).
ثمّ إنّ مئونة التجهيز التي يجب إخراجها من التركة تشمل الكفن والسدر والكافور وماء الغسل وقيمة
الأرض ونحوها في صورة الحاجة إلى المال. ويدلّ عليه- مضافاً إلى
التسالم والسيرة- الأخبار الآمرة بالغسل والكفن و
التحنيط والتجهيز والدفن؛ لورودها في مقام البيان، وقد سكتت عن بيان مورد تلك المؤن وأنّها من مال الميّت أو من أموال المسلمين، وحيث لا يحتمل أن تكون المؤنة في أموال المسلمين فتتعيّن أن تكون من مال نفسه إن كان له مال.
وأمّا سائر مؤن التجهيز وما يستحبّ منها فيتوقّف إخراجها من التركة على رضا الورثة
أو يوصي الميّت بها من ثلثه.
ثمّ إنّه يقتصر في القدر الواجب على ما هو أقلّ قيمة.
نعم، إذا لزم من
الاقتصار على الأقلّ هتك حرمة الميّت يخرج من
أصل التركة أيضاً،
بل ذهب بعضهم إلى جواز إخراج ما هو المتعارف في تجهيز الميّت وإن كان أكثر من المقدار الواجب. وتفصيل ذلك في مصطلح (تكفين).
إنّ ديون الميّت الثابتة في حال حياته لا تسقط بوفاته بل تتعلّق بتركته وتخرج من صلب ماله؛ لقوله تعالى: «أَوْ دَيْنٍ».
والضابط في كون شيء ديناً اعتباره في الأدلّة نحو
اعتبار الدين أي في ذمّة المكلّف ولو كان من فرائض اللَّه تعالى كالحج والصدقات الواجبة (الزكاة والخمس) فإنّ المستفاد من أدلّتها اعتبارها على ذمّة المكلّف كالدين، قال اللَّه تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»،
وقوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ»
وغيرهما من الواجبات المالية.
وأمّا الواجبات البدنية- كالصلاة والصوم- فلا تخرج من أصل المال، لأنّها ليست مالًا، ولم تشتغل بها الذمة
اشتغالًا وضعيّاً، فلا تكون ديناً.
ثمّ إنّ مقدار التركة قد يكون مساوياً لما عليه الدين والحق، وقد يكون أكثر أو أقل منهما، فإن كان مساوياً فتقسّم في الحقوق والديون، وإن كان أكثر فكان الفاضل للوارث، وإن كان دون الحقوق ووقع
التزاحم بينها فهي لا تخلو عن ثلاث حالات
:
إذا كانت التركة كلّها متعلّقة لحقوق الناس فإن كانت كلّها في الذمّة قسّمت التركة بالحصص كما في غرماء المفلّس؛
لأنّه مقتضى القاعدة والأصل، ومقتضى
بطلان الترجيح بلا مرجّح.
وإن كانت كلّها متعلّقة بالأعيان فيستوفي كلّ واحد من الدائنين حقّه من تلك العين التي تعلّق حقه بها. وإن كانت بعضها في العين وبعضها في الذمة قدّم حقّ العين؛ لاختصاصه بها.
إذا تعلّقت حقوق اللَّه تعالى كالحجّ والزكاة والخمس والكفّارات وغيرها من الواجبات الماليّة بالتركة كلّها، فإن كانت كلّها في الذمّة فالتركة توزّع على الجميع بالنسبة.
هذا إذا وفت حصّة الحجّ بأن يحجّ بها عنه، وإن لم تف إلّا ببعض الأفعال سقط الحجّ وتوفّر على الباقين.
وذهب بعض الفقهاء إلى تقديم الحجّ على غيره
وإن كان دين الناس.
وإن كان بعضها متعلّقاً بالعين- كالزكاة والخمس مع وجود المال المتعلّق به- وبعضها في الذمة- كالكفّارات- يقدّم حقّ العين؛ لما سبق في حقوق الناس.
إذا تعلّق بالتركة حقوق اللَّه تعالى وحقوق الناس معاً، فإن كان بعضها تعلّق بالذمّة وبعضها بالعين يقدّم ما تعلّق بالعين سواء كان للَّه تعالى أو للآدميّين، وسواء كان الباقي للَّه تعالى أو
للآدميّين ؛ لاختصاصه بالعين. وأمّا إن كانت كلّها في الذمة أو كلّها متعلّقة بالعين قال الشيخ: «قيل: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: حق اللَّه مقدّم؛ لقوله عليه السلام: «دين اللَّه أحقّ».
والثاني: حقوق الآدميّين مقدّمة. والثالث: هما سواء...». ثمّ قوّى القول الثالث فقال: «وهو الأقوى عندي؛ لفقد الترجيح».
واختار القول الثاني
السيد الطباطبائي ؛ لأنّ حقّ الناس أعظم من حقّ اللَّه،
وحقّ اللَّه أسهل من حقّ الناس.
وكذا اختاره
المحقّق العراقي في تعليقته على العروة وقال: «لا شبهة في تقديم حقّ الناس»،
وقد يستدلّ لتقديم حقّ الناس بما ورد: «أنّ الذنوب ثلاثة: ذنب يغفر، وذنب لا يغفر، وذنب لا يترك، فالذي يغفر ظلم الإنسان نفسه، والذي لا يغفر ظلم الإنسان ربّه، والذي لا يترك ظلم الإنسان غيره».
وناقشه فيه
السيد الحكيم بأنّ دلالته على أهمّية حقوق الناس غير ظاهر؛ إذ لا تعرّض فيه للأهمّية وإنّما تعرّضه للغفران إلى أن قال: «فهذا الحكم المشهور غير ظاهر، وإن كان تساعده مرتكزات المتشرّعة، لكن في بلوغ ذلك حدّ الحجّية تأمّل».
واختار المشهور أيضاً
الإمام الخميني قدس سره،
وكذا السيد الخوئي قدس سره حيث قال: «المتعيّن سقوط الحجّ وتقديم
أداء الدين... وذلك للجزم بأهمّية الدين، فإنّ الخروج عن عهدة حقوق الناس أهمّ من حقّ اللَّه تعالى، بل لو كان محتمل الأهمّية لتقدّم؛ لأنّ محتمل
الأهمية من جملة المرجحات في باب التزاحم».
تخرج وصايا الميّت النافذة من ثلث تركته بعد إخراج الحقوق العينيّة ومؤن التجهيز والديون، فإن زادت عن الثلث توقّف تنفيذها على
إجازة الوارث.
والترتيب مفهوم من
الإجماع والسنّة؛
لما روي عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «إنّ الدين قبل الوصيّة، ثمّ الوصيّة على
أثر الدين، ثمّ الميراث بعد الوصية...».
وروي عنه عليه السلام أيضاً: «أنّكم لتقرءون في هذه (الآية): الوصيّة قبل الدين، وأنّ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدين قبل الوصيّة».
ولعلّه إنّما قدّمت الوصيّة على الدين في الآية الكريمة: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ»؛
للاهتمام بشأنها لاحتياجها إلى التأكيد والمبالغة؛ لأنّه محلّ أن لا يسمعها الوارث فسواها مع الدين في التقديم حتى قدّمها.
وللزوم
إكرام الميّت ومراعاة حرمته فيما يوصي به.
ولأنّها تشبه الميراث؛ لكونها مأخوذة بلا عوض فيشقّ إخراجها على الورثة، فكانت لذلك مظنّة في التفريط فيها، بخلاف الدين فإنّ نفوسهم مطمئنّة إلى أدائه.
بعد إخراج ما سبق على الترتيب الذي ذكرنا يقسّم الباقي من تركة الميّت بين ورثته بالتفصيل الذي يأتي.
الموسوعة الفقهية، ج۹، ص۳۰-۳۶.