الرجوع عن الإقرار
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
تارةً يكون رجوع المقرّ عن إقراره في
الحقوق المدنية ونحوها، واخرى يكون في
الحقوق الجزائية .
إذا أقرّ شخص بحقّ واستمرّ على إقراره فلا إشكال في أنّه يؤخذ بإقراره، وأمّا إذا رجع عن إقراره فلا
أثر لرجوعه عنه ولم يسمع منه ذلك، بل يؤخذ به.
وقد عبّر بعض الفقهاء عن ذلك بقاعدة (عدم سماع
الإنكار بعد الإقرار ).
وعليه فتظل تمام الآثار مترتبةً على
الإقرار حتى بعد الرجوع.
ولعلّ المستند في ذلك هو البناء العقلائي؛ فإنّ العقلاء لا يقبلون بالرجوع بعد الإقرار، بل يرون المقرّ محكوماً بإقراره بمجرّد التفوّه به. يضاف إلى ذلك أنّه بعد ثبوت
حجّية الإقرار يمكن
استصحاب بقائها إلى ما بعد الرجوع إذا كان دليلها لفظياً، ما لم يكن هناك
إطلاق أو عموم يشمل حالة ما بعد الرجوع فيؤخذ به مباشرةً.
ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الرجوع عن الإقرار بما يوجب العقوبة لا يغيّر من نفوذه شيئاً، وحينئذٍ فلا يسقط الحدّ عن المقرّ بما يوجبه عليه برجوعه عن إقراره.
ويستثنى من ذلك حدّ القتل والرجم، وقد وقع الخلاف في اختصاص السقوط بالرجم أو عدم
الاختصاص والتعميم لهما معاً.
قال
الشيخ الطوسي : «من أقرّ على نفسه بحدٍّ ثمّ جحد، لم يلتفت إلى إنكاره إلّا الرجم، فإنّه إذا أقرّ بما يجب عليه الرجم فيه ثمّ جحده قبل
إقامته خلّي سبيله».
قال
الشهيد الأوّل : «ولو رجع المقرّ عن إقراره لم يسمع، سواء كان بعد رجوع المقرّ له أو قبله، ويقبل الرجوع عمّا يوجب الرجم من الحدود»،
وظاهرهما اختصاص السقوط بالرجم خاصة.
قال
المحقّق النجفي : «لو أقرّ بحدٍّ غير الرجم لم يسقط بالإنكار في المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة يمكن معها دعوى
الإجماع عليه؛ لقاعدة (عدم سماع
الإنكار بعد الإقرار)».
وقد استدلّ
لذلك ببعض الروايات المعتبرة التي ادّعي
استفاضتها ،
منها:
رواية
محمّد بن مسلم عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «من أقرّ على نفسه بحدٍّ أقمته عليه إلّا الرجم، فإنّه إذا أقرّ على نفسه ثمّ جحد لم يرجم».
ومنها: رواية
الحلبي عنه عليه السلام أيضاً قال: «إذا أقرّ الرجل على نفسه بحدٍّ أو فرية، ثمّ جحد جلد»، قلت: أرأيت إن أقرّ على نفسه بحدٍّ يبلغ فيه الرجم، أكنت ترجمه؟ قال: «لا، ولكن كنت ضاربه».
ولعلّ ظاهر إطلاق كلمات بعض الفقهاء القول بسقوط مطلق الحدّ بالرجوع عن الإقرار؛
نظراً إلى ما روي من أنّ رجلًا اسمه (ماعز) أقرّ عند
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالزنا، فأعرض عنه مرّتين أو ثلاثاً، ثمّ قال: «لعلّك لمست أو قبّلت»،
فلو لم يكن يقبل منه الإنكار بعد الإقرار لم يكن لذلك
الإعراض فائدة.
قال الشيخ الطوسي: «إذا أقرّ بحدّ، ثمّ رجع عنه، سقط الحدّ... دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضاً فإنّ ماعزاً أقرّ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالزنا فأعرض عنه مرّتين أو ثلاثاً، ثمّ قال: «لعلّك لمست، لعلّك قبّلت»، فعرض له بالرجوع حين أعرض عند إقراره...».
ونوقش فيه بأنّه خلاف مفروض المسألة وهو الرجوع بعد كمال الإقرار، وفي هذه القضية لم يكتمل الإقرار بما يعتبر فيه من المرّات.
وقال
ابن حمزة : «وإن رجع بعد الأربع لم يسقط إن كان موجبه الجلد، ويسقط إن كان موجبه القتل».
وظاهره سقوط مطلق القتل لا خصوص الرجم. وقد استشكل بعض الفقهاء في سقوط القتل بالرجوع عن الإقرار بالحدّ الموجب له.
ووجه
الإشكال - كما ذكره بعضهم- خروجه عن المنصوص فلا يسقط، وبناء الدماء على
الاحتياط ، والحدود على التخفيف.
بل قد استدلّ بمرسلة
جميل بن درّاج عن أحدهما عليهما السلام أنّه قال: «إذا أقرّ الرجل على نفسه بالقتل قتل إذا لم يكن عليه شهود، فإن رجع وقال: لم أفعل، ترك ولم يقتل».
وقد ضعّف بعض الفقهاء الرواية على أساس
إرسالها ،
واعتبرها
السيّد الطباطبائي بحكم الصحيحة بجميل؛
والظاهر أنّ ذلك لكونه من أصحاب الإجماع، أو لأنّ لجميلٍ مكانة معلومة، ومرسلاته على حدّ مرسلات
ابن أبي عمير في حكم المسانيد كما ذكر
السيّد الگلبايگاني ،
أو لأنّ الراوي عن جميل هو ابن أبي عمير، وظاهر التعبير بعد جميل (عن بعض أصحابه) أنّ هذه الجملة صدرت من الراوي السابق على جميل، وهو ابن أبي عمير، فيمكن عدّ الرواية من مراسيله فتلحق بالقاعدة الرجالية القاضية باعتبار مراسيله مسانيد إذا اخذ بها.
الموسوعة الفقهية، ج۱۶، ص۱۱۵- ۱۱۸.