الاستفاضة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هي مصدر استفاض، بمعنى شاع و انتشر.ومعناها مختلف عند
الأصوليين والفقهاء.
الاستفاضة مصدر استفاض، بمعنى سال أو شاع وانتشر، وأفاض
السيل إذا كثر وسال من ضفة
الوادي ، واستفاض
الحديث إذا شاع وانتشر».
للاستفاضة
اصطلاحان ، أحدهما عند
الاصوليين وأهل الحديث ، والآخر عند
الفقهاء .
أمّا عند الاصوليين وأهل الحديث فهو
الخبر الذي تكثّرت
رواته في كلّ طبقة ولم تصل حدّ
التواتر ، وقد اعتبر بعضهم- بل قيل: إنّه الأكثر- زيادتهم عن الثلاثة، وعن بعضهم أنّه ما زاد عن اثنين- أي ثلاثة وما فوقها- فما رواه ثلاثة من المستفيض على الثاني دون الأوّل.
وأمّا الفقهاء فقد اختلفت كلماتهم في تعريفها، حيث عرّفها بعضهم بأنّها إخبار
جماعة لا تجمعهم داعية
التواطؤ على
الكذب عادة، بحيث يحصل بقولهم
العلم بمضمون الخبر و نسبه إلى بعضهم في القواعد والفوائد.
أو الظنّ الغالب المتاخم للعلم،
أو مطلق
الظنّ .
بينما عرّفها
المحقّق الآشتياني بنفس التعريف المتقدّم للُاصوليّين
وأهل الدراية ، مؤكّداً على أنّه إذا كان هناك اختلاف في
تفسيرها فلأجل
الاختلاف فيما يتحقّق به
المعنى اللغوي للاستفاضة، لا أنّ لهم اصطلاحاً خاصّاً بهم، ولذا عرّفها بعضهم
بالشياع ، مع أنّه أحد معانيها اللغوية.وأمّا تعريفهم لها بأنّها المفيدة للعلم أو الظنّ فلعلّه لبيان
الحجة منها وتمييزها عن غير الحجّة.
وهو في اللغة بمعنى
الانتشار ، فيقال: شاع الخبر إذا ذاع وانتشر.
وأمّا في الاصطلاح فقد عرّفه بعضهم بإخبار جماعة تأمن
النفس من تواطئهم على الكذب، فالشياع مرادف للاستفاضة.
وهي لغة بمعنى
الظهور والانتشار،
وفي اصطلاح أهل الحديث أن يزيد رواة الحديث عن ثلاثة في كلّ الطبقات أو بعضها، ويقال للحديث:
مشهور ، فهو أعمّ مطلقاً من المستفيض، حيث لابدّ فيه من زيادة رواته عن الثلاثة في كلّ الطبقات.
وقد يطلق المشهور على الخبر المشتهر على
الألسن ولو كان واحداً لا
سند له،
وعلى ما اشتهر العمل به بين العلماء، ويقابله الشاذّ النادر.
وأمّا في اصطلاح الفقهاء فهي أن يكثر عدد
القائلين بقول في مسألة لكن لم يبلغ حدّ
الإجماع ، فإن قابله
الشاذ سمّي المشهور، وإن قابله عدد معتدّ به سمّي الأشهر.
وهو ما تسامع به الناس واشتهر بينهم،
وقد عبّر الفقهاء عن الاستفاضة أيضاً بالتسامع، فهو يرادفها.
لا إشكال في حجّية الاستفاضة في الخبر إذا كان المخبرون عدولًا في
الأحكام ، وكذا في الموضوعات؛ لأنّ الخبر المستفيض ليس أقلّ شأناً من
البيّنة في إثبات الموضوعات.
كما لا إشكال في حجّية استفاضة الخبر إذا كان مفيداً للعلم
واليقين ولو لم يكن رواته
ثقاة ؛ لأنّ حجيته تكون حينئذٍ
ذاتية .
إنّما
الإشكال فيما إذا أفادت الظن ولم تبلغ حدّ العلم أو
الاطمئنان بالصدور ولم يكن بعض المخبرين عدولًا، حيث اختلفوا في حجّية الخبر المستفيض في الموضوعات وكذا الأحكام.
أنّ الخبر المستفيض حجّة فيها إذا أفاد ظنّاً
متاخماً للعلم؛
لأنّه كالعلم بنظر
العقلاء ،
بل جرت
سيرتهم على العمل به، خصوصاً مع عدم ردع
الشارع عن
الأخذ به،
بخلاف مطلق الظنّ الذي ورد
النهي عن العمل به.
وممّا يدلّ على حجّيته إذا كان كذلك وجود موارد كثيرة يصعب
إقامة البيّنة عليها
كالنسب والنكاح والوقف والملك ،
فعدم حجّية الخبر المستفيض فيها يستلزم ضرراً عظيماً.
إلّاأنّ هذا إذا كان بمعنى حصول الاطمئنان فهو علم عرفاً وعقلائياً حتى في الأحكام وإلّا فلا دليل على عمل العقلاء به حتى في الموضوعات.
أنّه حجّة في مطلق الظنّ؛
لاشتراكه مع
خبر الواحد في علّة حجّيته المنصوصة في قوله تعالى: «أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»،
ممّا يعني
إمكان الأخذ بالخبر المستفيض؛ لعدم
استلزامه إصابة قوم
بجهالة ، ومن ثمّ حصول
الندامة .
ولعلّ ضعف هذا
الدليل وعدم
نهوضه على
المطلوب هو الذي دعا البعض إلى
التغاضي عنه وادّعاء عدم وجود دليل على حجّية الخبر المستفيض ما لم يبلغ حدّ العلم أو الاطمئنان.
وأمّا الأحكام فقد أطلق بعضهم حجّية الخبر المستفيض فيها من دون تقييد الاستفاضة بإفادتها القطع أو الاطمئنان بالصدور.
بينما صرّح
السيد الخوئي بأنّ الخبر لا يكون مستفيضاً إلّاإذا كان موجباً للاطمئنان بصدوره من
المعصوم عليه السلام حيث قال قدس سره: «إنّ الرواية المستفيضة هي التي توجب أقلّ مراتب الاطمئنان بصدورها عن المعصوم عليه السلام، ومع انحصار الرواية في ثلاثة أو أربعة وكلّها ضعاف كيف تكون الرواية مستفيضة وموجبة للاطمئنان بصدورها؟».
اختلف الفقهاء فيما يثبت بالاستفاضة والشياع، فخصّها بعضهم بإثبات النسب، واقتصر آخرون على ثلاثة: النسب
والموت والملك المطلق،
وثالث على أربعة: النسب والملك المطلق والنكاح والوقف.
بينما ذهب المشهور
إلى أنّها سبعة: النسب والموت والملك المطلق والوقف والنكاح
والعتق وولاية القاضي .
وفي
الوسيلة : الولاء بدل الولاية.
وفي
التحرير : أنّها ثمانية بزيادة الولاء.
وزاد بعضهم
الرق .
وآخر
العدالة فيكون المجموع عشرة، وفي
الجواهر : بل قيل بزيادة سبعة عشر إليها (إلى العشرة) فيكون المجموع سبعة وعشرين.
بل نسب إلى بعض الفقهاء أنّها اثنان وعشرون: النسب
والأبوين والموت والنكاح والولاية
والعزل والولاء
والرضاع وتضرّر
الزوجة والوقوف
والصدقات والملك المطلق والتعديل
والجرح والإسلام والكفر والرشد والسفه والحمل والولادة والوصاية والحرية واللوث .
وأضاف بعضهم
الغصب والدين والعتق
والإعسار .
وهناك من لم يحدّدها بعدد معيّن، معتبراً كلّ ما تعذّر إثباته بالمشاهدة يمكن
إثباته بالاستفاضة.
ويبدو أنّ من أخذ بهذا
المعيار لا يختلف الحال عنده بين أن تكون الاستفاضة حجّة من باب العلم أو الظنّ المتاخم للعلم أو مطلق الظنّ، فإنّه في جميع هذه الحالات يمكن التمسّك بالاستفاضة مع تعذّر المشاهدة في المورد الذي يراد إثباته.
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ الفقهاء رغم
اعترافهم بثبوت امور اخرى بالشياع والاستفاضة
كالأعلميّة والقبلة
والمسافة الشرعية
وجامعيّة
المسجد ورؤية الهلال
والكسوف والخسوف وسائر
الآيات،«أمّا الثبوت بالعلم والشياع المفيد للعلم فظاهر».
ومواقيت الحجّ،
إلّاأنّهم لم يذكروها في عداد ما يثبت بالاستفاضة عند تعرّضهم لهذا البحث، ويمكن أن يكون ذلك لأحد
الأسباب التالية:
۱- إنّ الأمور التي خصّوها بالذكر مرتبطة بباب
القضاء والشهادات ، وأمّا غيرها فهي مرتبطة بتطبيق
الأحكام الشرعيّة التي يتمسّك بالاستفاضة فيها لإثبات موضوعاتها كالخسوف والكسوف وغيرهما.
۲- إنّ
الغالب فيما يثبت بالاستفاضة هو هذه الأمور، لا أنّها منحصرة بها.
۳- إنّهم إنّما كانوا بصدد بيان ما يصعب إثباته بالبيّنة ويمكن إثباته بالاستفاضة، لا أنّ غيرها لا يثبت بالاستفاضة.
قال
المحقّق النجفي : «إنّ الشياع
والتسامع والاستفاضة على أحوال ثلاثة:
أحدها: استعمال الشائع المستفيض وإجراء الأحكام عليه، والثاني: القضاء به، والثالث: الشهادة بمقتضاه. أمّا الأوّل فالسيرة
والطريقة المعلومة على أزيد ممّا ذكره
الأصحاب فيه، فإنّ الناس لا زالت تأخذ
الفتوى بشياع
الاجتهاد ، وتصلّي بشياع العدالة، وتجتنب بشياع
الفسق ، وغير ذلك ممّا هو في أيدي الناس، وأمّا القضاء به وإن لم يفد العلم فالأولى
الاقتصار فيه على السبعة بل الخمسة بل الثلاثة بل النسب خاصة؛ لأنّه هو المتّفق عليه بين الأصحاب، وأمّا الشهادة به فلا تجوز بحال إلّافي صورة مقارنته للعلم بناءً على
الاكتفاء به في الشهادة مطلقاً».
وقال في موضع آخر: «لكنّ المراد غلبة تحقّق الشياع فيها (الموارد) لا أنّ المراد عدم اعتباره وإن فرض تحقّقه في غيرها؛ إذ لا دليل على ذلك، بل لعلّ ظاهر الأدلّة خلافه، بل صريح بعضهم ثبوت
الهلال وغيره به».
وقال
الشهيد الثاني : «قد ألحق
المصنّف رحمه الله ستّة أشياء بالولاية وجعلها ممّا يثبت بالاستفاضة، ووجه تخصيصها من بين الحقوق أنّها امور ممتدّة ولا مدخل للبيّنة فيها غالباً، فالنسب غاية
الممكن فيه رؤية الولادة على فراش
الإنسان ، لكن النسب إلى
الأجداد المتوفّين
والقبائل القديمة ممّا لا يتحقّق فيه
الرؤية ومعرفة
الفراش ، فدعت الحاجة إلى اعتماد التسامع... وأمّا الملك فلأنّ أسبابه متعدّدة، وتعدّدها يوجب عسر الوقوف عليها، فيكتفى فيه بالتسامع أيضاً، وأمّا الموت فلتعذّر مشاهدة الميّت في أكثر الأوقات للشهود، والوقف والعتق لو لم تسمع فيهما الاستفاضة لبطلا على تطاول الأوقات؛ لتعذّر بقاء الشهود في مثل الوقف، والشهادة الثالثة غير مسموعة، فمسّت الحاجة إلى إثباتهما بالتسامع، ومثلهما النكاح، فإنّا نعلم أنّ
خديجة زوجة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس مدركه التواتر؛ لأنّ شرطه
استواء الطرفين، والوسائط في العلم الحسّي وهو منفيّ في
الإبتداء ...».
لو كان شيء في يد أحد واستفاض أنّه لآخر فقد ذهب جماعة إلى
تقديم اليد على الاستفاضة بل لعلّه المشهور بينهم؛
لأنّ الاستفاضة إنّما تثبت
الاختصاص المحتمل للملك وغيره، ومجرّد احتمال الملك لشخص بالاستفاضة لا يزيل ما علم تحقّقه باليد لشخص آخر.
وخالف في ذلك والد
الشيخ البهائي معتبراً الاستفاضة مقدّمة على اليد التي لا دليل على حجّيتها باعتقاده إلّاما دلّ على حمل عمل المسلم على الصحّة، وهي من القواعد التي لا
أماريّة فيها حتى تكون صالحة لمعارضة الاستفاضة.
ولا شكّ في صحة ذلك إذا كانت الاستفاضة مفيدة للعلم أو الاطمئنان؛ لأنّه لا موضوع حينئذٍ لحجية اليد بل ولا لأيّة حجة اخرى تعبدية،
وأمّا إذا لم تكن الاستفاضة مفيدة للعلم ولا للاطمئنان والذي هو علم عرفاً فلا وجه للتشكيك في حجّية اليد.
الموسوعة الفقهية ج۱۲، ص۱۰۶-۱۱۲.