العين المستأجرة أمانة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
قد تقدّم أنّ عقد
الإجارة يقتضي وجوب تسليم العين المستأجرة لاستيفاء المنفعة المعقود عليها إذا توقّف الاستيفاء عليه، وحينئذٍ فلو تلفت العين أو تعيّبت- ولو من دون تعدٍّ أو تفريط- فهل يضمن المستأجر ذلك أو لا يضمن إلّا مع
التعدي والتفريط أو مع شرط
الضمان بناءً على صحته؟
الظاهر أنّه لا خلاف بين
الفقهاء في عدم ضمان المستأجر للعين مع
التلف والتعيّب في مدة الإجارة إلّا بتعدٍّ أو تفريط،
وعليه دعوى
الإجماع من بعضهم.
ويدلّ عليه ما يلي.
إمّا لأنّها أمانة مالكية نظراً إلى لزوم تمليك المنفعة
استيلاء المستأجر على العين لغرض الانتفاع بها فلا محالة يكون إقدام المالك على الإجارة إقدام منه على تسليط المستأجر على العين فتكون العين أمانة مالكية بالمعنى الأعم في مدة الإجارة.
لكن قد يقال: إنّ مقتضى القاعدة العامة- مع قطع النظر عن الروايات الخاصة- ثبوت الضمان في المقام تمسّكاً باطلاق النبوي المعروف: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه».
ونوقش فيه تارة بضعف السند، واخرى بأنّ مفهوم الأخذ فيها ظاهر في الأخذ القسري، وثالثة بأنّ الحديث إنّما يدلّ على الضمان بعنوان
الأداء ، فما لم يجب أداء العين قبل التلف لا يثبت ضمانها على تقديره، فلا يشمل الحديث موارد رضى المالك ببقاء العين تحت يد الغير- المعبَّر عنه بالأمانة المالكية بالمعنى الأعم- كما أنّ
السيرة العقلائية على ضمان اليد لا تشمل موارد الاستئمان الرافع لحرمة المال.
وأمّا لأنّها أمانة شرعية لا أمانة مالكية، نظراً إلى حصر الأمانة المالكية في
الوديعة ، وأمّا ما ورد من التعليل
بالأمانة في غيره فانّه يراد به أنّه كالأمانة في الحكم.
إلّا أنّه حيث يجوز للمستأجر- فيما نحن فيه- وضع يده على العين لاستيفاء المنفعة في المدة وإيصالها إلى مالكها فهي أمانة شرعية بيده مطلقاً.
واعترض عليه: بأنّ ملاك الأمانة الشرعية هو الترخيص الابتدائي في إثبات اليد على مال الغير، وعدم انبعاث الترخيص المزبور عن سبب سابق مسوّغ لوضع اليد كما هو الحال في
اللقطة .
أمّا إذا كان هناك سبب سابق كاستحقاق المنفعة فإنّ مجرد الترخيص الشرعي ليس تأميناً شرعاً.
تمسّك الفقهاء لعدم الضمان إلّا مع التعدي والتفريط بجملة من الروايات الخاصة، وهي على طوائف
:
وهي الروايات الدالّة صراحة على عدم الضمان في إجارة الأعيان:
منها: صحيح
محمد بن قيس عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «قال
أمير المؤمنين عليه السلام- في حديث-: لا يغرم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة».
ونحوه صحيح
الحلبي الدالّ على عدم ضمان الرجل الذي تكارى دابّة وكان مسلماً عدلًا.
ومنها: رواية
علي بن جعفر الدالّة على ذلك فيما لو أقام المستأجر بيّنة على عدم التفريط في الحفظ.
ومنها: روايته الاخرى
عن أخيه
أبي الحسن عليه السلام الدالّة على جواز دفع العين المستأجرة إلى الغير من دون ضمان لو لم يمنع المالك منه.
ما ورد في بعض الروايات من ضمان المستأجر حال
التعدي والتفريط الدالّة بمفهومها على عدم ضمان العين لو لم يستند التلف إلى أحدهما.
منها: قول
الإمام الصادق عليه السلام في رجل تكارى دابة إلى مكان معلوم فنفقت الدابّة: «إن كان جاز الشرط فهو ضامن، وإن دخل وادياً لم يوثقها فهو ضامن، وإن سقطت في بئر فهو ضامن؛ لأنّه لم يستوثق منها».
وتشتمل على كبرى عدم ضمان الأمين:
منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان».
فإن اريد بالبضاعة فيها مال التجارة في
المضاربة كانت من أفضل ما يتمسّك به من روايات الباب، حيث عطف فيها المضاربة التي تكون من الأمانة بالمعنى الأعم، على الوديعة.
ومنها: ما ورد من عدم تضمين الأجير إذا كان مأموناً، وهي روايات كثيرة واردة في الحمّال والقصّار والجمّال،
إلّا أنّ التعبير فيها بالمأمون ليس بمعنى عقد
الاستئمان ، بل بمعنى العدالة
والوثوق وعدم الخيانة، فلا دلالة فيها على الكبرى الكلية، وهي أنّ الأمانة المالكية بالمعنى الأعم مطلقاً لا ضمان فيها، وإن كان لا يبعد دعوى استفادتها من مجموع هذه الروايات وغيرها مما ورد في
العارية والرهن والمضاربة،
فإنّ العرف يستفيد منها بحسب مناسبات الحكم والموضوع كبرى كلّية،
وهي أنّ الاستئمان
والإذن ببقاء المال تحت يد الغير سواء كان لمصلحة المالك أو لحق من جعل المال تحت يده رافع للضمان مع عدم التعدي والتفريط، فيخرج بها عن عموم على اليد بناءً على شموله للأمانة.
ذهب المشهور
إلى أنّ المستأجر كما لا يضمن تلف العين المستأجرة أو تعيّبها في مدة الإجارة بلا تعد أو تفريط كذلك لا يضمن ذلك بعد انقضاء المدّة لو خلّى بين المالك وبينها فتكون نظير الوديعة والرهن وسائر موارد الاستئمان، إلّا أنّ المنسوب إلى
الإسكافي وصريح كلام الشيخ
وجوب ردّ العين المستأجرة بعد انقضاء المدّة، والضمان مع عدم الردّ، واختاره بعض الفقهاء أيضاً.
هذا ولكن العلّامة تردّد في المختلف
وجزم في غيره
بعدم الضمان وعدم وجوب الرد.
ومستند المشهور في ذلك يمكن أن يكون أحد أمرين:
وهو ما تقدمت الإشارة إليه بأنّ ظاهر تسليم العين إلى المستأجر مع عدم مطالبته بها بعد انقضاء مدة الإجارة هو الاستئمان المالكي والرضا ببقائها في يده، فلا يضمنها إلّا مع التعدي والتفريط. وهذا فرع أن يكون المؤجر عالماً بانتهاء مدة الإجارة وان لا يكون عدم المطالبة بمانع آخر، ومع الشك في ذلك يستصحب بقاء الاذن المحقق لكونها أمانة مالكية تعبّداً، فيترتب عليها حكم الأمانة.
أنّ الردّ يختلف بحسب المورد ففي مثل موارد
الغصب وعدم الاستيمان المالكي وأخذ مال الغير بلا إذنه إنّما يكون بارجاعه إلى يد مالكه.
وأمّا في موارد الاستئمان والذي يكون بقاء العين تحت يد الغير لحق له فيه أو باستئمان المالك فالرد يكفي فيه التخلية بين العين والمالك بعد انقضاء المدة، فإن خلّى فلا ضمان عليه.
تقدم في كلام الفقهاء عدم الضمان في حال عدم الاشتراط، أمّا إذا اشترط ضمان العين المستأجرة فصريح بعضهم
جوازه ضمن عقد الإجارة كسائر ما يشترطه المتعاقدان ضمن العقود اللازمة، وأنّه يجب
الوفاء والعمل على مقتضى الشرط، هذا إذا كان على سبيل شرط الفعل الراجع إلى اشتراط المؤجر من المستأجر بأن يدفع مقداراً معيّناً من المال على تقدير تلف العين من غير أن تشتغل ذمته بشيء.
أمّا شرط الضمان بنحو شرط النتيجة فقد نسب إلى مشهور الفقهاء
عدم جواز ذلك، بينما ذهب
السيد المرتضى إلى صحة الشرط، حتى استظهر في
مفتاح الكرامة من كلامه دعوى الإجماع عليه،
ويظهر من جماعة الميل إليه
كما أنّه اختيار جملة من الفقهاء المتأخّرين.
وقد ذكروا لبطلان الضمان بنحو شرط النتيجة وجوهاً، كعدم إمكان اضافة النتائج إلى مالك، بينما أنّ الشرط يقتضي تمليك المشروط.
وأنّ الشرط لا يمكن أن يكون مشرّعاً بل هو
كالنذر والعهد،
فلا بد أن يكون في مورد الشرط شيئاً قابلًا لتعلّق الالتزام به بأن يكون داخلًا تحت القدرة، وأمّا الأحكام الشرعية أو العقلائية التي يكون أمر رفعها ووضعها بيد الشارع أو العقلاء فلا تقع مورداً للشروط الضمنية، وما ثبت في العارية من جواز اشتراط الضمان فيها، فبدلالة النص الخاص.
وأنّه مخالف لمقتضى ما دلّ عليه الكتاب
والسنّة على عدم ضمان الأمين الشامل بعمومه أو إطلاقه حتى لصورة الاشتراط، فإنّ النسبة بينهما وبين دليل نفوذ الشرط وإن كانت هي العموم من وجه لكن الأوّل مرجّح
بالشهرة والأصل وغيرهما.
واستدل عليه أيضاً في خصوص إجارة الأعيان بمخالفة شرط الضمان لمقتضى العقد؛
إذ مقتضى إجارة الأعيان هو التسليط على العين ووضع اليد عليها في جميع الأحوال، وهو يتنافى مع اشتراط الضمان المساوق لعدم الرضا بالتسليط على كلّ حال.
ولعلّه لذلك فصّل
المحقق النائيني بين شرط الضمان على الأجير فيصحّ، وبين شرط الضمان على المستأجر فلا يصحّ.
وقد ردّ القائلون بصحة شرط الضمان في المقام على كافة الوجوه المذكورة فبالنسبة للمخالفة لمقتضى عقد الإجارة، في الأعيان لا مخالفة في البين؛ إذ ليس مقتضى الإجارة إلّا تمليك المنفعة والتسليط على العين ليس إلّا مقدمة لاستيفاء المستأجر ملكه، فاشتراط الضمان فيها لا ينافي ملكيته للمنفعة بوجه أصلًا، ولو سلم فهو منافٍ لإطلاق العقد لا لأصله، وهو لا يوجب بطلان الشرط كما حقق في مصطلح (
شرط ). وبالنسبة لأدلّة عدم الضمان في موارد الاستئمان من الواضح أنّ مفادها نفي الضمان من باب عدم المقتضي للضمان لكونه من موارد الاستئمان، فلا ينافي الضمان بالاشتراط الذي هو عنوان ثانوي حاكم على أحكام العناوين الأولية، فلا معارضة في البين ليحكم بالترجيح.
وبالنسبة لعدم شرعية الشروط إن اريد عدم مشروعية النتائج بالشروط فهذا ما سيأتي عدم صحته في مصطلح (
شرط ).
وإن اريد لزوم كون تلك النتيجة قابلة للإنشاء والالتزام به من قبل المكلّف شرعاً ليصح ذلك ويلزم به بالشرط فهذا حاصل في المقام؛ لأنّ تضمين المالك ماله على الغير مشروع جزماً سواء أرجعناه إلى ضمان اليد ورفع الاستئمان أو إلى اشغال
الذمة أو العهدة بالمال. الضمان في فرض فساد الإجارة:
صريح بعض فقهائنا
وظاهر آخرين
عدم ضمان العين المستأجرة في فرض فساد الإجارة إلّا مع التعدي أو
التفريط ، بل نسبه بعض إلى ظاهر المشهور.
ولم يخالف فيه سوى
الأردبيلي وسيد
الرياض ، قال الأوّل منهما:
«بل يفهم من كلامهم الضمان مع الجهل أيضاً»،
نظراً إلى عموم «على اليد».
وقيّده في الرياض بفرض جهل المؤجر بالفساد فقال: «يشكل الحكم في هذه الصورة (جهل المستأجر) بل مطلقاً لو كان المؤجر عالماً بالفساد؛ لكون ترتّب اليد حينئذٍ بإذن المالك، فلا ينصرف إلى هذه الصورة إطلاق الخبر المتقدم، مضافاً إلى ما عرفت من رجوع هذه الصورة إلى العارية، والحكم فيها بعدم ضمان المستعير كما تقدم، ولا كذلك لو كان جاهلًا به؛ لضمان المستأجر فيه، ولو حصل الدفع فيه بالإذن أيضاً فانّه كعدمه؛ لابتنائه على توهّم الصحة، فيكون كالإذن المشروط بها، فإذا ظهر الفساد لم يكن ثمة إذن بالمرّة. ولعلّ مراد الأصحاب غير هذه الصورة».
هذا، ولكن ذكر
العاملي موافقتهما للأصحاب في غير ذلك الموضع.
والمستند في عدم الضمان أحد الوجوه التالية:
التمسّك بقاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده».
ونوقش فيه: بأنّ القاعدة- عكساً وطرداً- مختصة بما يكون مصبّاً للعقد ومشمولًا لمضمونها ولو بالشرط، والعين المستأجرة أجنبية عن عقد الإجارة وإنّما متعلّقها المنفعة، وهي كما تضمن بصحيحها تضمن بفاسدها.
ولا ريب أنّ عدم ضمان العين المستأجرة لا مدخلية للعقد فيه، والضمان فيها إنّما هو باعتبار كونها أمانة، فيدور الضمان في الفاسدة مدارها، ومع فرض عدم الأمانة يتجه الضمان حينئذٍ؛ لما تقدم من تقييد الإذن بالصحة المفروض انتفاؤها.
ما ذكره في المستمسك وغيره من التمسّك باطلاق ما دلّ على عدم ضمان المستأمن بعد فرض صدق الأمين العرفي في الإجارة الصحيحة والفاسدة بنحوٍ واحد، ولا يبتني الاستئمان على الإجارة الصحيحة؛ لأنّ ظاهر نصوص عدم الضمان مع الاستئمان هو شمول الحكم لصورة التلف المؤدي إلى
فساد العقد من أوّل الأمر، فتدلّ تلك النصوص على نفي الضمان مع الاستئمان ولو كان في العقد الفاسد.
أنّ الإجارة كما تشتمل على تمليك المنفعة كذا تستلزم الأمانة المالكية، أي الإذن والتسليط على العين، والإذن المذكور بلحاظ قيمة العين لم يكن على وجه الضمان، فهو إقدام على المجانية ورضى بها بلحاظ العين بنفس
الإقدام على الإجارة وإن كانت فاسدة شرعاً؛
إذ الميزان في صدق الإقدام على المجانية أو الاستئمان إنّما هو المنشأ المعاملي لا الحكم الشرعي بالصحة.
فلا يرد عليه ما في الرياض
من ابتناء الإذن في صورة جهل المؤجر على توهّم الصحة، فيكون كالإذن المشروط بها، فإذا ظهر الفساد لم يكن ثمّة إذن بالمرة.
وبناءً على هذا الوجه فالمتجه هو الضمان على تقدير الفساد إذا كان قد اشترط الضمان على المستأجر فإنّ اشتراطه سوف يكون رافعاً للإقدام على المجانية بلحاظ العين، فيكون مقتضى القاعدة الضمان، لكن لا من باب نفوذ الشرط
كي يقال: «بأنّ الشرط في ضمن العقد الفاسد بمثابة الشرط الابتدائي في عدم الدليل على نفوذه بوجه»،
بل من باب عدم الاستئمان المالكي وعدم رضا المالك بتلف العين عليه مجاناً، ومنه يظهر أننا إذا قلنا بفساد شرط الضمان بنحو شرط النتيجة لا من ناحية منافاته للروايات الخاصة أو لمقتضى عقد الإجارة وأنّه يقتضي الاستئمان المطلق، بل في احدى الجهات الاخرى المتقدم ذكرها كعدم صحة شرط النتيجة أو عدم شرعيته كانت النتيجة ثبوت الضمان حتى في العقد الصحيح مع اشتراط الضمان فيه رغم فساد الشرط؛ لأنّه رافع للاستئمان المالكي على كل حال فيثبت ضمان اليد على القاعدة.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۲۱۲-۲۲۱.