المراحل التاريخية لفقه أهل البيت ع
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
المراحل التاريخية للفقه أهل البيت عليهم السلام: إنّ المقصود من تاريخ كلّ
علم هو عبارة عن الاطّلاع على ظهور ونموّ وتكامل مسائل وقضايا ذلك العلم على امتداد
الزمان، ومن هنا فإنّ
علماء العلوم الإسلامية بحثوا في القرون الأخيرة «مسيرة تطوّر
الفقه» أو «
المراحل التاريخية للفقه» وتحرّكوا على مستوى التحقيق بجدّية في هذا المورد، على أيّة حال فإنّ التعرّف على المراحل التاريخية المختلفة للفقه الإسلامي سيمنحنا معرفة واطّلاع واسع على الجذور العميقة لهذا العلم وحركة الفقهاء وسعيهم البالغ في ترشيد مسيرة هذا العلم، ونتعرّف كذلك على أسباب الركود أو الحركة والإبداع العلمي
لفقهاء الإسلام في بعض العصور والمراحل التاريخية، وتأثير الزمان والمكان والحوادث الواقعة على امتداد
التاريخ الإسلامي في خلق فهم جديد للفقهاء وأمثال ذلك، وهی انّ مرحلة
التشریع وعصر نزول
الوحی التی بدات منذ بعثة
الرسول الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) الی رحلته، تعدّ مرحلة مشترکة بین جمیع
المذاهب الاسلامیة، وهذه المرحلة نطلق علیها مرحلة التشریع وتاسیس
العلوم الاسلامیة، ومنها «
الفقه». ورائد هذه المرحلة هو الرسول الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) نفسه.
المرحلة الاولی: عصر حضور ائمة اهل البیت علیهم السلام: لا شکّ فی انّ عصر
رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) یمثّل عصراً مشترکاً لجمیع
المسلمین حیث یستقون احکام دینهم منه بدون واسطة، ویعدّ
النبی (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) المرجع العلمی الوحید لجمیع المسلمین.
المرحلة الثانیة: عصر تشکیل و تبویب الفقه: بدات هذه المرحلة الفقهیة فی بدایة
الغیبة الصغری عام ۲۶۰ هجریة واستمرّت الی زمان انتقال
الشیخ الطوسی من بغداد الی
النجف وتاسیس مدرسة الفقه و
الاجتهاد فی تلک الدیار (عام ۴۴۸ للهجرة).
المرحلة الثالثة: عصر تحول فی میدان التفقّة و الاجتهاد: وتبدا هذا المرحلة من عصر الشیخ الطوسی (م ۴۶۰)، وبالتحدید فانّها تبدا منذ ان اُجبر الشیخ الطوسی علی الهجرة من بغداد الی النجف الاشرف. ویعتبر
شیخ الطّائفة محمّد بن الحسن الطوسی من التلامیذ البارزین
للشیخ المفید و
السیّد المرتضی، وقد تتلمذ علیهما مدّة مدیدة، فقد کان ملازماً للسیّد المرتضی مدّة ۲۳ عاماً، وبعد رحلة السیّد المرتضی استلم زعامة
اتباع اهل البیت، حیث کانوا یقصدونه من جمیع المناطق. وقد کانت بغداد فی ذلک الوقت مرکز التشیع الی حین حدوث الفتنة ووقوع الاضطرابات فیها.
المرحلة الرابعة: عصر الرکود و
التقلید: وتبدا هذه المرحلة من منتصف
القرن الخامس وتستمر حتّی نهایة
القرن السادس، وذلک بسبب عظمة الشیخ الطوسی العلمیة حیث خلّفهالة کبیرة عن وزنه العلمیّ بین فقهاء الامامیة بحیث انّه لم یبرز فی ذلک الوقت فقیه مستقلّ یفتی خلافاً لنظرات وآراء الشیخ. انّ القداسة العلمیة للشیخ ادّت الی عدم تجرّؤ احد من الفقهاء بالتصریح بمخالفة آرائه ولمدّة اکثر من مائة عام. وقد کان الفقهاء الذین جاءوا بعد الشیخ والّفوا کتباً فقهیة، یتّخذون من کتب الشیخ مرجعاً علمیاً لهم وینقلون آراءه فی کتبهم ببیان مختلف، ولهذا السبب فانّ هذا العصر یعدّ عصر التقلید لافکار الشیخ والرکود فی عملیة
التفقّه و
الاجتهاد.
المرحلة الخامسة: عصر تجدید حیاة
الفقه لمدرسة
اهل البیت علیهم السلام: بعد سنوات من سیطرة افکار الشیخ الطوسی وآرائه علی
الفقه الشیعی، وبسبب النفوذ العلمی الکبیر للشیخ، فانّ احداً لم یتجرّا علی مخالفته فی هذه الفترة واستمرّ هذا الحال الی اواخر القرن السادس حیث انفتح باب نقد افکار الشیخ وشهدت المدرسة الفقهیة للشیعة عودة النشاط الفقهی وحرکة الاجتهاد مرّة اخری بواسطة جماعة من الفقهاء، وقد استمرّت هذه الحرکة الی
القرن الحادی عشر(عصر سیطرة
الاخباریین).
المرحلة السادسة: عصر ظهور
الحرکة الاخباریّة: وتبدا هذه المرحلة من اوائل القرن الحادی عشر وتستمرّ الی اواخر القرن الثانی عشر، فقد ظهرت
الحرکة الاخباریة بعد عدّة قرون من نموّ ورشد
الفقه الامامیّ والاستفادة من دلیل
العقل فی
حرکة الاستنباط وتقدّم
علم الاُصول والاستفادة منه فی الفقه، فقامت الحرکة الاخباریة بالغاء دور العقل فی
حرکة الاستنباط.
المرحلة السابعة: عصر تجدید حیاة الاجتهاد فی میدان
التفقّه: وتبدا هذه المرحلة من اواخر
القرن الثانی عشر الی ۱۲۶۰ ه، بالرغم من استمرار جماعة من العلماء
الاصولیین فی حرکتهم وسعیهم فی عصر شیوع الفکر
الاخباریّ ولکنّ الفکر الاخباریّ کان مسیطراً علی الثقافة
الشیعیة بحیث انّه لمیسمح لرشد ونموّ افکار المجتهدین الاُصولیین.
وقد ظهر فی اواخر سلطة الاخباریین، الذین سلک علماؤهم طریق الاعتدال فی هذه المدّة، عالم محقّق ومتعمّق هو العلّامة
الوحید البهبهانی (م ۱۲۰۶) وتصدّی للفکر الاخباریّ، وقد قدم من
النجف الاشرف الی
کربلاء التی تعدّ مرکز الاخباریین الذین یتزعّمهم المرحوم الشیخ
یوسف البحرانی مؤلف کتاب «
الحدائق الناضرة». وقد تحرّک المحقّق البهبهانی علی مستوی نقد مبانی الاخباریین وتقویة مبانی المجتهدین الاصولیین. وکان
العراق، وخاصّة مدینتی کربلاء و
النجف، مرکز الاخباریین.
المرحلة الثامنة: عصر الابداعات الفقهیة: وتبدا هذه المرحلة من منتصف القرن الثالث عشر، وتتمثّل فی استمرار عملیة الحرکة الجدیدة والابداع الفقهیّ للمحقّق البهبهانیّ حیث ساعد علی ظهور حرکة علمیة جدیدة مع ابداع اسلوب جدید ومناهج جدیدة فی
الفقه و
الاصول.
المرحلة التاسعة: عصر ورود
الفقه للمیادین الاجتهادیة المختلفة: بالرغم من وضوح العلاقة الوثیقة بین
الفقه و
الحکومة (راجع بحث «رابطة الفقه و
الحکومة» فی هذا الکتاب) ولکن فقهاء الشیعة وبسبب ابتعادهم عن الحکومة، کانوا یهتمّون فی الغالب بالبحث فی ابواب فقهیة تتّصل بالحالات الشخصیة، وعندما یبحثون احیاناً فی بعض المسائل الحکومیة فهو من قبیل الاستطراد وبمنظار «فردی» فکان جلّ اهتمامهم وعنایتهم منصبّة فی دائرة سلوکیات وتصرفات المکلّف الشخصیة والفردیة.
إنّ كلّ علم يملك سلسلة من المقدّمات، وهي عبارة عن: التعريف، الموضوع، مسائل ذلك العلم والغاية منه، وهناك بحث آخر أيضاً يبحث في كلّ علم وهو عبارة عن: تاريخ ذلك العلم.
إنّ تاريخ كلّ علم عبارة عن الاطّلاع على ظهور ونموّ وتكامل مسائل وقضايا ذلك العلم على امتداد الزمان. مثلًا، أحياناً يبحث عن علم الطبّ وتعريفه، وموضوعه، ثمراته ونتائجه، وأحياناً أخرى يبحث ما وراء هذه المسائل، من تاريخ هذا العلم والمراحل التي مرّ بها في عملية التكامل العلمي لقضايا هذا العلم، فتارة يواجه مرحلة التوقّف والركود أو يعيش الحركة والانطلاق في تحقيقاته ودراساته، وهذا هو ما يدعى ب «تاريخ علم الطب» أو «تطوّر
علم الطب».
وبالنسبة لعلم الفقه فهو أيضاً غير مستثنى من هذه القاعدة، ومن هنا فإنّ علماء
العلوم الإسلامية بحثوا في القرون الأخيرة «مسيرة تطوّر الفقه» أو «المراحل التاريخية للفقه» وتحرّكوا على مستوى التحقيق بجدّية في هذا المورد.
على أيّة حال فإنّ التعرّف على المراحل التاريخية المختلفة للفقه الإسلامي سيمنحنا معرفة واطّلاع واسع على الجذور العميقة لهذا العلم وحركة الفقهاء وسعيهم البالغ في ترشيد مسيرة هذا العلم، ونتعرّف كذلك على أسباب الركود أو الحركة والإبداع العلمي لفقهاء
الإسلام في بعض العصور والمراحل التاريخية، وتأثير الزمان والمكان والحوادث الواقعة على امتداد
التاريخ الإسلامي في خلق فهم جديد للفقهاء وأمثال ذلك.
وفى هذه المقالة نسعى لدراسة المراحل التاريخية الفقهية لفقه أهل البيت عليهم السلام، وقبل الورود نذکّر القاریء بهذه الحقیقة، وهی انّ مرحلة
التشریع وعصر نزول
الوحی التی بدات منذ بعثة
الرسول الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) الی رحلته، تعدّ مرحلة مشترکة بین جمیع
المذاهب الاسلامیة، وهذه المرحلة نطلق علیها مرحلة التشریع وتاسیس العلوم الاسلامیة، ومنها «
الفقه». ورائد هذه المرحلة هو الرسول الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) نفسه حیث قام- بالاقتباس من الوحی- ببیان کلّیات الفقه وفروعه للناس، وقد اخذ
المسلمون احکامهم ومسائلهم من
النبیّ(صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) کلّ علی اساس قدرته واستعداده.(واختلف الاصحاب ایضاً فی الاخذ من الرسول الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) حسب استیعابهم واستعدادهم، یقول مسروق (وهو من
التابعین): لقد جالست
اصحاب رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) فوجدتهم کالاخاذ فالاخاذ یروی الرجل والاخاذ یروی الرجلین والاخاذ یروی العشرة والاخاذ یروی المائة والاخاذ لو نزل به اهل الارض لاصدرهم.
فی هذه المرحلة تمّ ابلاغ
القرآن الکریم للناس بشکل کامل وصدر الامر بجمعه وتدوینه ایضاً، وقام رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) بتعلیم سنّته للناس ایضاً، وهذه السنّة انتقلت بشکل کامل بواسطة
الامام علیّ (علیهالسّلام) الی
الائمّة من اهلالبیت علیهم السلام.
انّ جمیع
المذاهب الاسلامیة، تری انّ اول مرحلة من المراحل الفقهیة لتلک المذاهب هی ما یتّصل بعصر الرسول الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) ومن هنا نحن نشرع باستعراض المراحل الفقهیة المختلفة بعد هذه المرحلة حیث شرعت الفرق والمذاهب الاسلامیة المختلفة بالظهور، ونبدا بالمراحل التاریخیة لفقه الامامیة. المراحل التسع لفقه اهل البیت علیهم السلام
انّ
فقه الشیعة، الذی هو
فقه اهل البیت علیهم السلام، انطلق من رحاب
الرسالة المحمّدیة، ثمّ خاض فی تفریع مسائله
اهل بیت النبیّ (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) الطاهرین فنال الرعایة الکافیة من قِبلهم.
وقد واجه
المذهب الفقهی لفقهاء
الشیعة تحوّلات کبیرة علی امتداد تاریخه، وخاصّة فی عصر
ائمّة اهلالبیت علیهم السلام، فاحیاناً وبسبب الضغوط والتحدّیات التی یفرضها الواقع
السیاسی یواجه هذا
الفقه رکوداً، واحیاناً اخری یعیش فرصاً جیّدة وظروفاً مناسبة بسبب صراع
السلطة السیاسیة مع القوی المناهضة، وهی فترة انتقال القدرة وتغییر
الحکومة، فیشهد
الفقه حرکة ونشاطاً متزایداً. وفی المراحل اللاحقة بعد مرحلة
ائمّة اهل البیت علیهم السلام، فانّ
الفقه الشیعی واجه ایضاً حوادث مختلفة ادّت احیاناً الی رکود
علم الفقه، واحیاناً اخری ادّت الی زیادة حرکته ونشاطه فی عملیة
الابداع الفقهی والتعمّق العلمی.
والنتیجة، فانّ
فقه الشیعة- منذ العصر الاول والی عصرنا الحاضر وبسبب انفتاح باب الاجتهاد- مازال یشهد حرکة تصاعدیة نحو التطوّر والانتشار وبشکل ملحوظ. ومن أهم الخصائصالاساسیة لفقه اهلالبیت علیهم السلام هي عبارة:
من
البدیهیّ انّ العمل بفقه اهل البیت (علیهمالسّلام) مجزٍ للمکلّف وسبب لنجاته، واوضح دلیل علی ذلک هو ما ورد فی
حدیث الثقلین.ورد هذا الحدیث بتعابیر مختلفة فی کتب الشیعة والسنّة. من کتبالشیعة:
ومن مصادر اهل السنّة ایضاً یمکن الاشارة الی هذه الکتب:
وللمزید انظر:
المتواتر والمعروف، ومحتوی هذا الحدیث یدلل بوضوح علی انّ التمسّک باهل بیت النبیّ (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) یساوق التمسّک بکتاب اللَّه، وسبب للهدایة والنجاة.
واللافت ان نعلم انّه فی الآونة الاخیرة صدرت مجموعة تحمل اسم «فقه
السلف عترة و
صحابة و
تابعین» بقلم محمّد المنتصر الکتانی نشرته جامعة «ام القری» فی مکّة، یقول هذا الکاتب فی بدایة تعریفه ل «
فقه العترة: » «انّ
فقه العترة یشمل
الفقه الذی وصل الینا عن طریق
فاطمة الزهراء بنت رسول اللَّه (صلیالله علیه وآله وسلّم) و امیرالمؤمنین
الامام علیّ، و
الامام الحسن،
الامام الحسین، الی
الامام الصادق علیهم السلام». ثم یضیف: «انّ الحصول علی
فقه العترة والعمل به هو فی الحقیقة الحصول علی العلم والهدایة وسبب الامان من الضلالة، وبالاقتران مع کتاب اللَّه یؤدّی الی الهدایة والامان حتی انّه یکون سبباً لدخول الجنّة».
ثمّ انّ هذا الکاتب ومن اجل اثبات صحّة کلامه یتمسّک بحدیث «الثقلین». ویقول الامام الفخر الرازی فی تفسیره فی موضوع الجهر ب«بسم اللَّه الرّحمن الرّحیم» فی الصلاة: «امّا انّ علیّ بن ابی طالب (علیهالسّلام) کان یجهر بالتسمیة فقد ثبت بالتواتر، من اقتدی فی دینه علیّ بن ابی طالب فقد اهتدی، والیک ما قاله (یعنی ما قاله رسول اللَّه صلی الله علیه و آله) فی حقّ علیّ علیه السلام: اللّهُمَّ ادِرِ الحَقَّ مَع علیٍّ حَیثُ دار».
(ذیل تفسیر الآیة «بسم اللَّه الرحمن الرحیم» من سورة الحمد.
انّ
فقه اهل البیت (علیهمالسّلام) المقتبس من
الکتاب و
السنّة، هو فقه عمیق الجذور وغنیّ الثمار کالشجرة الطیبة، لانّه لم ینفصل فی ایّ برهة من تاریخه عن اصله وجذوره.
وانّ
فقهاء الشیعة مضافاً الی تمسّکهم بالکتاب، فانّهم یستمدّون من کلمات
ائمّة اهلالبیت (علیهمالسّلام) التی تتّصل بجذورها بسنّة
الرسول الاکرم صلی الله علیه و آله؛ ف
ائمّة اهل البیت فی الحقیقة مبیّنون وشارحون لسنّة النبیّ (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) وکلماته، وعلیه فانّ اصل ومصدر
فقه اهل البیت (علیهمالسّلام) هو
کتاب اللَّه و
سنّة النبیّ (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) الاصیلة والخالصة التی بیّنها ائمّة اهل البیت (علیهمالسّلام) للناس.
وقد ورد فی الکثیر من الروایات عن ائمّة اهلالبیت (علیهمالسّلام) انّهم قالوا: «ما سَمِعتَه مِنّی فَاروهِ عن ابی وَما سَمِعتَه مِنّی فَاروهِ عن رَسولِ اللَّه صلی الله علیه و آله».وردت هذه الاحادیث التی هی اکثر من عشرة بتعابیر مختلفة فی.
وما بعده. للمحقّق الکبیر
آیة اللَّه البروجردی (قدّس سرّه) کتبها فی زمن مراسلاته مع جامعة الازهر و
مفتی مصر فی حینه
الشیخ محمود شلتوت، وارسال هذه المجموعة الی الشیخ شلتوت ایضاً، ونظراً الی ما تحتویه هذه الاحادیث وامثالها اصدر مفتی مصر فتواه التاریخیة: انّ العمل ب
المذهب الجعفری مجزٍ للمسلمین ایضاً. وللاطلاع علی فتوی الشیخ شلتوت راجع
ومع الالتفات الی حقیقة عدم انفکاک فقه اهل البیت عن
السنّة النبویّة واتّصال هذا الفقه بها، فانّ ذلک یشهد علی ثراء هذا
الفقه وخاصّة انّ
فقهاء الشیعة لا یحسّون بالفراغ القانونی اطلاقاً، بل یرون انفسهم مستغنون عن استخدام
القیاس و
الاستحسان وامثال ذلک.
بالرغم من انّ
فقه الشیعة قد واجه علی امتداد تاریخه تحدّیات وصعوبات کبیرة، الّاانّ
فقهاء الامامیة لم یوصدوا باب الاجتهاد، بل ترکوه مفتوحاً امام اهله فی عملیة بذل الجهد للاقتباس من نصوص الکتاب والسنّة، وهذه النقطة بالذات سببت تكامل
فقه أهل البيت وترشيده في مختلف التحوّلات الزمانيّة فكان يملك استجابة مناسبة لحاجات
المسلمين في حركة حياتهم الفردية والاجتماعية، فالفقه يتوغّل ويمتدّ إلى جميع زوايا حياة الناس في مختلف الأصناف والشرائح الاجتماعية، واستطاع هذا الفقه أن يمنح الناس إجابات وافية عن أسئلتهم الفقهية من قِبل فقهاء
الشيعة. (انظر: بحث انفتاح باب الاجتهاد)
إنّ
فقهاء الشيعة لم يضعوا فقههم في خدمة
حكّام الجور وأصحاب المطامع إطلاقاً، ولم يجعلوا فقه أهل البيت أداة لتبرير أعمال
الحكّام الظالمين، كما أنّ
أئمّة أهل البيت عليهم السلام أيضاً لم يضعوا فقههم وعلومهم في خدمة الظلمة.
بعد بیان هذه الامور، ننطلق لدراسة «مراحل فقه الشیعة» فی تاریخ الفکر الاسلامی وناخذ منها تسع مراحل ونسلّط الضوء علیها.ذکر فی کتاب
ستّ مراحل لفقه الشیعة، وفی
سبع مراحل، ولکن فی نظرنا یمکن تقسیمها الی تسع مراحل بعد تفکیک دقیق لهذه المراحل ومعرفة خصائص کلّ مرحلة منها:
لا شکّ فی انّ عصر رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) یمثّل عصراً مشترکاً لجمیع المسلمین حیث یستقون احکام دینهم منه بدون واسطة، ویعدّ النبی (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) المرجع العلمی الوحید لجمیع المسلمین.
وبعد رحلة الرسول الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) ونظراً لتزاید اعداد المسلمین واتّساع البلاد الاسلامیة وظهور حوادث ومسائل جدیدة، کلّ ذلک یفرز اسئلة جدیدة تتطلّب الاجابة عنها، وقد قام رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) قبل ذلک بتعریف اهل البیت (علیهمالسّلام) للمسلمین الی جانب القرآن الکریم من موقع کونهم مرجعاً علمیاً بعد رحلته، وقام بهذا الامر بحکمة وتدبیر.
ویعتبر حدیث «الثقلین»(مرّ ذکر مصادر هذا الحدیث فیما سبق.
المتواتر والمشهور دلیلًا حیّاً علی هذا المطلب وشاهداً علی بعد نظر النبیّ الاکرم صلی الله علیه و آله، وقد تحرّک ائمّة اهل البیت (علیهمالسّلام) من موقع العمل علی تدوین احکام الشریعة ومعارف الدین وحلّ مشاکل الاُمّة الاسلامیة وصیانة الشریعة من عوامل التحریف فی کلّ فرصة سنحت لهم.
وقد بدا هذا التحرّک بعد رحلة رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) (عام ۱۱ هجری) وانتهی فی بدایة الغیبة الصغری (عام ۲۶۰ هجری) وبالامکان استعراض تفاصیل هذه المرحلة فی عدّة فصول:
فی الوقت الذی منع فیه الخلفاء بعد النبیّ الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) الناس من تدوین الاحادیث النبویة بعد رحلة النبیّ قام امیرالمؤمنین وبعض اصحابه وتلامیذه بکتابة وتدوین ما تیسّر لهم منها(بدات قصة منع تدوین الحدیث ونقله منذ زمان الخلیفة الاوّل واستمر اکثر من قرن، روت عائشة انّ ابی (الخلیفة الاول) جمع ۵۰۰ حدیثاً عن رسول اللَّه حیث طلب یوماً تلک الاحادیث واحرقها جمیعاً.
( وکذلک منع الخلیفة الثانی الصحابة من روایة الحدیث، بل وسجن جماعة من الصحابة لروایتهم الحدیث.
. وکذلک ذکروا انّ عمر عزم فی اول الامر علی کتابة الحدیث ثم ندم وترک کتابته وکتب کتاباً الی عمّاله فی البلاد الاسلامیة: من کان عنده کتاب فی سنّة رسول اللَّه فلیمحه.
، واستمر هذا المنع فی عهد الخلفاء اللاحقین رغم الاهتمام بروایة الاحادیث النبویة فی عصر خلافة امیرالمومنین علی (علیهالسّلام) ولکن الفرصة لم تکن کافیة لاتمام هذا العمل، وهکذا استمر المنع الی زمن عمر بن عبدالعزیز، الذی کتب الی ابیبکر بن حزم- کما یروی البخاری کتاباً یقول فیه: کتب عمر بن عبد العزیز الی ابیبکر بن حزم: انظر ما کان من حدیث رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) فاکتبه فانّی خفت دروس العلم وذهاب العلماء!
ومع هذا الحال واجه تدوین الحدیث مرّة اخری رکوداً بعد وفاة عمر بن عبدالعزیز الی زمن خلافة منصور الدوانیقی حیث ذکر السیوطی عن الذهبی: فی سنة ثلاث واربعین ومائة، شرع علماء الاسلام فی هذا العصر فی تدوین الحدیث، الفقه، التفسیر، منهم مالک الذی دوّن (الموطا فی المدینة).
ونقل (الشیخ خضری بک ایضاً فی
، شرحاً حول منع تدوین الحدیث.. یقول جلال الدّین السیوطی فی کتابه «تدریب الراوی: »«انّ امیرالمؤمنین وبعض تلامذته خلّفوا بعض المکاتیب عنهم، امّا الصحابة الاوّلون والتابعین فقد اختلفوا اختلافاً کبیراً فی مسالة کتابة العلم وتدوینه، فذهب بعض الی عدم جوازه، وذهب آخرون الی جوازه وکتبوا بعضاً منه، ومن هذه الفئة الثانیة علیّ (علیهالسّلام) وابنه الحسن (علیهالسّلام) وجابر».
من هنا لابدّ من القول انّ اول من قام بتدوین کتابٍ فقهیّ ودینیّ هو امیرالمؤمنین علیّ علیه السلام. والملفت للنظر انّ حرکة الامام هذه لا تختصّ بزمان ما بعد رحلة الرسول الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) بل کان الامام (علیهالسّلام) فی زمان حیاة الرسول الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) ایضاً یجلس عند النبیّ وینهل من علمه ویقتبس من معارفه، وقد کان یکتب الکثیر منها، وقد اورد الشیخ الکلینی بسند معتبر عن الامام علیّ (علیهالسّلام) انّه قال: «... وقد کنت ادخل علی رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) کلّ یوم دخلةً وکلّ لیلة دخلة فیخلینی فیها ادور معه حیث دار، وقد علم اصحاب رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) انّه لم یصنع ذلک باحد من الناس غیری... فما نزلت علی رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) آیة من القرآن الّا اقرانیها واملاها علیَّ فکتبتها بخطّی وعلّمنی تاویلها وتفسیرها وناسخها ومنسوخها، ومحکمها ومتشابهها، وخاصّها وعامّها، ودعا اللَّه ان یعطینی فهمها وحفظها، فما نسیت آیة من کتاب اللَّه ولا علماً املاه علیَّ وکتبته، منذ دعا اللَّه لی بما دعا...».
علی هذا الاساس، فما ورد من روایات
المعصومین من کتب امیرالمؤمنین (علیهالسّلام) باسم: الجامعة، کتب علیّ، الصحیفة، کلّها حصیلة هذه المجالس الخاصّة التی کان
امیرالمؤمنین (علیهالسّلام) یحضرها عند رسول اللَّه صلی الله علیه و آله.
ویقول
النجاشی فی شرح حال
محمّد بن عذافر الصیرفی انّه نقل عن ابیه انّه قال: «کنت مع الحکم بن عتیبة عند
ابی جعفر (الامام باقر علیه السلام) فجعل یساله وکان ابو جعفر له مکرماً، فاختلفا فی شیء فقال ابو جعفر: یا بنیّ قم فاخرج کتاب علیّ علیه السلام، فاخرج کتاباً مدروجاً عظیماً، ففتحه وجعل ینظر، حتی اخرج المسالة، فقال ابوجعفر: (هذا خط علیّ (علیهالسّلام) واملاء رسول اللَّه صلی الله علیه و آله، واقبل الحَکَم وقال: یا ابامحمّد! اذهب انت وسلمة بن کهیل وابو المقدام حیث شئتم یمیناً وشمالًا، فو اللَّه لا تجدنّ العلم اوثق منه عند قوم ینزل علیهم جبرئیل علیه السلام».
المرحوم الشیخ الصدوق فی کتاب
وقسم من الروایات التی ذکرت فی کتاب علیّ. ویشتمل علی کثیر من
الآداب و
السنن واحکام الحلال والحرام فی ما یقرب ۳۰۰ سطراً، والمرحوم
الصدوق نقل عن هذا القسم بسنده عن الامام الصادق (علیهالسّلام) عن آبائه (علیهمالسّلام). وقال
الامام الصادق (علیهالسّلام) فی نهایة هذه الروایات: «انّه جمع هذا الحدیث من الکتاب الذی هو املاء
رسول اللَّه وخط
علی بن ابی طالب علیه السلام. وکذلک یوجد کتاب آخر للامام علیّ (علیهالسّلام) باسم الصحیفة، الذی یحتوی علی احکام کثیرة فی مسائل القصاص والدیات.جمع المرحوم آیة اللَّه
احمدی المیانجی، اسماء مختلفة لهذا کتاب وما یحتویه.
وینقل البخاری ایضاً فی صحیحه، فی باب «کتابة العلم» عن ابی جحیفة قال: «فقلت لعلیّ علیه السلام: هل عندکم کتاب؟ قال: لا الّا کتاب اللَّه، او فهم اُعطیه رجلًا مسلماً، او ما فی هذه الصحیفة. قال: قلت: وما فی هذه الصحیفة؟ قال: العقل، وفکاک الاسیر ولا یقتل مسلم بکافر».
وبالرغم من اننا نعتقد بوجود کتاب آخر للامام غیر هذه الصحیفة یسمی الجامعة، الذی یعتبر احد المراجع العلمیة للائمّة المعصومین علیهم السلام، وقد وردت فی الصحیفة ایضاً احکام کثیرة فی مسائل القصاص والدیات، ولکن علی ایّة حال فانّ نقل هذه المسالة بواسطة البخاری یبیّن بصورة جلیة انّ الامام علیّ (علیهالسّلام) کان یملک صحیفة قد کتب فیها بعض الاحکام الالهیّة.
ونظراً لاهتمام اهل البیت (علیهمالسّلام) بتدوین الکتاب، فإنّ اصحابهم واتباعهم ایضاً قد کتبوا کتباً وتصانیف عدیدة فی الفقه والمسائل الشرعیة، ومن تلامذة الامام علیّ (علیهالسّلام) فی هذه المرحلة الذین الّفوا کتباً فی هذا المجال:
کان ابو رافع مولیً لرسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) ومن خواصّ امیرالمؤمنین علیه السلام، وقد الّف کتاباً باسم «السنن والاحکام والقضایا».
ویستفاد من کلام النجاشیّ انّه یشمل علی ابواب الصلاة والصیام والحج والزکاة والقضاء.
وهو کاتب امیرالمؤمنین (علیهالسّلام) ومن افضل اصحابه، وقد الّف کتاباً فی مواضیع فقهیّة مختلفة من قبیل الوضوء، الصلاة، وسائر ابواب الفقه.
وحسب نقل الشیخ الطوسیّ انّه الّف کتاباً فی قضاء
امیر المؤمنین علیه السلام.
وقد ذکره النجاشیّ عند ذکره للطبقة الاولی من کتّاب الحدیث، وانّ ربیعة بن سمیع، جمع کتاباً عن امیرالمؤمنین (علیهالسّلام) یتحدّث فیه عن زکاة البقر والابل والغنم.
وکان الائمّة الطاهرون بعد الامام علیّ (علیهالسّلام) والی زمان
الامام الباقر علیه السلام، یعیشون التحدّیات الصعبة والضغوط الشدیدة التی یفرضها الواقع السیاسیّ علیهم، ومن هذه الجهة لم ینقل عنهم ولا عن اصحابهم کتاباً فی الفقه رغم انّ جماعة من اصحاب الائمّة نقلوا روایات عنهم فیما یتعلّق ببعض المسائل الفقهیة، ومع هذا الحال فقد ورد عن الامام السجّاد علیه السلام رسالة فی الحقوق، ویبحث قسم من هذه المجموعة احکام ومسائل فقهیّة وشرعیّة.
انّ «
رسالة الحقوق» للامام السجّاد (علیهالسّلام) والتی اوردها
الحسن بن شعبة فی «تحف العقول»، تتضمّن بیان خمسین حقّاً تقریباً، منها ما یتّصل بحقوق اللَّه علی الانسان وحقوق الانسان علی نفسه وحقوق العبادات کالصلاة والصوم والحج، علی الانسان.
ولکن منذ عصر الامام الباقر (علیهالسّلام) فما بعد، تمّ تدوین کتب عدیدة من قبل اصحاب الائمة علیهم السلام. ویذکر المرحوم الشیخ الطوسی فی کتابه «الفهرست» اسماء ۹۰۰ من هؤلاء المصنّفین للکتب وربّما یکون لکلّ واحد تالیفات وتصنیفات عدیدة.
ونعلم انّ عمدة هذه الکتب قد کتبت فی عصر ائمّة اهل البیت (علیهمالسّلام) الی نهایة القرن الثالث، وهذا یشیر بصورة جیّدة الی اهتمام علماء الشیعة بامر التدوین والحدیث والفقه.
وممّا یجدر ذکره انّه وبسبب عدم انفصال الاحکام الفقهیة عن سائر العلوم، فانّ مجموعة کتب الحدیث تتضمّن روایات فقهیة وکلامیة وتفسیریة وما الی ذلک.
ولکن بعض هذه الکتب تختصّ بالمسائل الفقهیة من قبیل الکتب التی نقلت عن ابیرافع وابنیه، وکذلک بعض کتب الفضل بن شاذان ویونس بن عبدالرحمن (من اصحاب الامام الرضا علیه السلام) فانّها دوّنت کالکتب الفقهیة.
والشاهد علی هذا المطلب انّ المرحوم الشیخ الکلینیّ یذکر فی موارد متعدّدة آراءهم فی کتابه الکافی،
ومن جملة ذلک ما اورده فی باب الطلاق والمیراث والزکاة وامثال ذلک. وکذلک ما نقله
الشیخ الصدوق فی کتابة «المقنع»، فیمسالة انّ المراة کیف ترث من زوجها عن الفضل بن شاذان بدون ان یروی عنه روایة فی هذا المجال، وهذا یفید انّ الفضل بن شاذان کان لهکتاب فیالفقه لیس علی غرار الکتب الروائیة.وبالطبع انّ تجرید الفقه من شکله الروائیّ الی شکله الرسمیّ والشمولیّ قد تحقّق علی ید الشیخ الصدوق حیث سنذکره فی الکلام عن المرحلة الثانیة للفقه.
یقف
الامام علیّ بن ابی طالب (علیهالسّلام) علی راس سلسلة الفقهاء العظام فی هذا العصر(بالطبع فانّ اطلاق عنوان الفقهاء علی ائمّة اهل البیت لا یخلو من تسامحمن باب التماهی مع سائر الکتّاب الذین کتبوا فی «مراحل الفقه)(لانّ کلام الائمّة عند
فقهاء الشیعة نفسه یعتبر من منابع استنباط الاحکام. وان امکن القول فی حقّهم انّهم فقهاء من باب الخبراء بوجه اکمل فی الدین، وفی بعض الروایات یطلق علی احد الائمّة احیاناً الفقیه ایضاً، ومن هذا القبیل «کتب رجلٌ الی الفقیه علیه السلام...»
وتعبیر «قال الفقیه العسکری علیه السلام...»
.حیث کان افقه الناس بعد رسول اللَّه صلی الله علیه و آله. وقد کان للامام علیّ (علیهالسّلام) آراء فقهیة افتی بها فی مقام الاجابة عن اسئلة فی مجال الاحکام، او اظهرها فی مقام العمل، او فی ایّام خلافته وخاصّة ما صدر عنه من تعالیم واوامر لعمّاله. الامام علیّ (علیهالسّلام) هو باب مدینة علم رسول اللَّهالحدیث «انا مدینة العلم وعلیّ بابها» نُقل عن عشرات الکتب لاهل السنّة واتباع اهل البیت
وعلّمه رسول اللَّه الف باب من العلم یفتح له من کلّ باب الف باب، کما ورد فی الحدیث.
یقول
عمر بن الخطاب: «اقضانا علیّ»
وتقول
عائشة: «اعلم الناس بسنّة
رسول اللَّه، علیّ»
وتعتقد
الإمامیّة بانّ الامام علیّاً اعلم الناس بعد رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) بحیث انّ بحر علمه ومعرفته کان علی مدی التاریخ منهل العلماء ومشرعة الفقهاء. وبعد امیرالمؤمنین (علیهالسّلام) فانّ الائمّة من اهل البیت ایضاً کانت لهم آراء فقهیة، ولکن بین هؤلاء الائمّة برز الامام الباقر والامام الصادق علیهما السلام- وبسبب توفّر ظروف خاصّة- بان کانت لهم اکثر الآراء الفقهیة فی دائرة فقه اهل البیت علیهم السلام.
وقد کان الامام الباقر (علیهالسّلام) معروفاً ومضرباً للمثل فی سعة علمه ومعرفته بحیث انّه ورد ذکره فی الکتب المختلفة فیما یتعلّق بعلمه. وقد تحدّث علماء
اهل السنّة، سواءً المعاصرین لهذا الامام ام من جاء بعده، عن عظمة هذا الامام فی المجالات العلمیة والمعنویة. یقول
عبداللَّه بن عطاء المکّی: «ما رایت العلماء عند احد قطُّ اصغر منهم عند ابی جعفر» ثم قال: «رایتُ الحکم بن عتیبة (م ۱۱۴) مع جلالته فی القوم بین یدیه کانّه صبیٌّ بین یدی معلّمه».
طبقاً لنقل
یقول الذهبی: «
ابوجعفر الباقر، محمّد بن علی بن الحسین، امام ثقة مورد الاعتماد، الهاشمیّ العلویّ وکبیر بنیهاشم فی زمانه وعصره، اشتهر ب «الباقر» وهذا اللقب ماخوذ من «بقر العلم».
ویقول ابن خلکان فی «وفیات الاعیان: » «ابوجعفر محمّد بن
زین العابدین علیّ بن الحسین بن علیّ بن ابی طالب (رضی اللَّه عنهم اجمعین)، الملقّب بالباقر، احد الائمّة الاثنی عشر فی اعتقاد الامامیة وهو والد جعفر الصادق... کان الباقر عالماً سیّداً کبیراً، انّما قیل له الباقر لانّه تبقّر فی العلم، ای توسّع، والتبقّر: التوسّع، وفیه یقول الشاعر:
«یا باقر العلم لاهلِ التّقی وخیرَ مَن لبّی علی الاجبُلِ»
امّا
الامام جعفر الصادق (علیهالسّلام) فقد نقل عنه آراء فقهیة کثیرة، وکان له دور مهمّ فی ترشید وتنمیة الثقافة الاسلامیة وخاصّة ثقافة اهل البیت بحیث انّ مذهب الامامیة قد عرف ب «المذهب الجعفری»، وقد ذکره علماء کبار من اهلالسنّة من موقع المدح والثناء والتقدیر. یقول
مالک بن انس (امام المذهب المالکی) عن الامام جعفر الصادق علیه السلام: «وقد اختلفت الی جعفر بن محمّد زماناً فما کنت آراه الّاعلی احدی ثلاث خصال: امّا مصلّیاً وامّا صائماً وامّا یقرا القرآن... وما رات عینٌ ولا سمعت اذنٌ، ولا خطر علی قلب بشرٍ افضل من جعفر بن محمد الصادق، فضلًا ولاعلماً ولا عبادة ولا ورعاً».
(طبقاً لنقل)
(ورد قسم من هذا الکلام فی
ایضاً. یقول ابوحنیفة (امام المذهب الحنفی): «ما رایت افقه من جعفر بن محمّد. ثمّ اضاف: لمّا اقدمه المنصور الحیرة بعث الیَّ، فقال: یا
اباحنیفة! انّ الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمّد فهیّیء له من مسائلک الصّعاب فهیّات له اربعین مسالة، ثم بعث الیَّ ابو جعفر المنصور وهو بالحیرة فاتیته فدخلت علی المنصور وجعفر بن محمّدجالس علی یمینه فلمّا بصرت به (الامام الصادق) دخلنی من الهیبة لجعفر ما لم یدخلنی لابی جعفر-ای المنصور- فسلّمت علیه، فاوما الیّ فجلست، ثم التفت الیه فقال
المنصور: یا اباعبداللَّه! هذا ابوحنیفة. فقال الامام: نعم اعرفه. ثم التفت الیَّ، فقال: یا اباحنیفة! الق علی ابی عبداللَّه-ای الامام الصادق علیه السلام- من مسائلک، فجعلت القی علیه فیجیبنی ویقول: انتم تقولون کذا، واهل المدینة یقولون کذا، ونحن نقول کذا، فربّما تابعنا وربّما تابعهم وربّما خالفنا جمیعاً». حتی اتیت علی الاربعین مسالة فما اخلّ منها بشیء. ثم قال ابوحنیفة: «الیس انّ اعلم الناس اعلمهم باختلاف الناس» (یعنی ان جعفر بن محمّد کان اعلم الناس فی زمانه)».
وکذلک یقول ابوحنیفة: «لولا السَّنَتان لهلک النّعمان»
(لانّه استفاد من محضر الامام الصادق علیه السلام) النّعمان اسم ابوحنیفة. ویقول
ابن حجر الهیثمی عن الامام الصادق علیه السلام: «نقل الناس عنه-
[۵۷] جعفر الصادق- من العلوم ما سارت به الرکبان وانتشر صیته فی جمیع البلدان، وروی عنه الائمّة الاکابر کیحیی بن سعید، ابن جریح، مالک، والسفیانین-سفیان بن سعید الثوری و
سفیان بن عیینة الکوفی- وابیحنیفة، و
شعبة بن الحجّاج البصری و
ایّوب السجستانی».
( الفصل الثالث: حیث ورد فیه احادیث عن بعض اهل البیت علیهم السلام) ویقول الشهرستانی فی الملل والنحل:«جعفر بن محمّد الصادق، هو ذو علمٍ غزیر، وادبٍ کاملٍ فی الحکمة، وزهدٍ فی الدنیا، وورعٍ تامٍّ عن الشهوات».
یقول البستانی فی «دائرة المعارف» عن الامام جعفر الصادق: «جعفر الصادق وهو ابن محمد بن علیّ ابن زین العابدین بن الحسین بن علیّ بن ابی طالب، احد الائمّة الاثنی عشر علی مذهب الامامیة، وکان من سادات اهل البیت ولُقب بالصادق لصدقه فی مقالته وفضله عظیم».
ورد شبیه هذا التعبیر فی
مرّة اخری بعد الامام الصادق علیه السلام، وبسبب تثبیت حکومة بنی العبّاس، عادت اشکال الضغوط والممارسات التعسّفیة من قِبل السلطة الحاکمة ضد ائمّة اهل البیت علیهم السلام، ومن هنا فانّ مدرسة اهل البیت قد واجهت مشکلة صعبة فی هذه الفترة، ولکن مع ذلک فانّ
الامام الکاظم و
الامام الرضا (علیهماالسّلام) کانا یتحرّکان فی مثل هذه الظروف الصعبة من موقع اشاعة نشر ثقافة اهل البیت وفقه آل محمّد صلی الله علیه و آله. یقول السیّد ابن طاووس: «انّه کان جماعة من خاصّة ابی الحسن
الامام موسی (علیهالسّلام) من اهل بیته وشیعته یحضرون مجلسه، ومعهم فی کمامهم الواح ابنوس لطاف وامیال، فاذا نطق ابوالحسن (علیهالسّلام) بکلمة وافتی فی نازلة، اثبت القوم ما سمعوا منه ذلک».
یقول ابن حجر الهیثمی، العالم والمحدّث المعروف لدی اهل السنّة: «انّ موسی الکاظم وارث علوم ابیه، وله فضل وکمال، وکان یملک العفو والصفح والحلم الشیء الکثیر (فی مقابل الجهّال) ولذلک لقّب بالکاظم، ولم یصل احد فی زمانه بالنسبة للمعارف الالهیّة والعلم والحلم، الی مرتبته».
وبعد
الامام الکاظم (علیهالسّلام) استلم ابنه الامام الرضا (علیهالسّلام) مهمّة نشر علوم وفقه اهل البیت فی نهایة خلافة هارون وبدایة عصر
المامون العبّاسی، وکان لهذا الامام (علیهالسّلام) دور مهمّ فی ترتیب وتهذیب الاحادیث الشریفة مضافاً لتحرّکه فی مجال تقویة عقیدة اهل البیت (علیهمالسّلام) والمشارکة فی المناظرات المهمّة لاثبات احقّیّة الاسلام.
یقول الذهبی عن هذا الامام: «وکان من العلم والدّین والسُّؤدد بمکان»
«وقد کان علیّ الرّضا کبیر الشّان، اهلًا للخلافة».
وکذلک- طبقاً لنقل اعیان الشیعة- فانّ الحاکم النیسابوری یقول فی تاریخه عن هذا الامام: «وکان یُفتی فی مسجد رسولاللَّه وهو ابن نیفٍ وعشرین سنة».
وکتاب «فقه الرضا» ایضاً ینسب الی هذا الامام.
امّا
الامام الجواد (علیهالسّلام) فقد استطاع ایضاً وفی سنوات عمره القلیلة (۲۵ سنة) من نشر فقه مدرسة اهل البیت (علیهمالسّلام) بما تسمح له الظروف والحکّام فی ذلک العصر، ومن جملة ذلک انّه کان احیاناً یحلّ مشاکل الخلفاء الفقهیة واحیاناً اخری یشترک فی المناظرات ویحلّ مسائل فقهیة مهمّة( وللاطلاع علی مناظرات الامام الجواد مع یحیی بن اکثم، العالم المعروف فی عصر المامون العبّاسی، انظر:
(وکذلک فتوی هذا الامام فی کیفیّة قطع ید السارق، فی مجلس
المعتصم العبّاسی وفی حضور فقهاء ذلک العصر، وهذا دلیل واضح علی علم وفقه الامام علیه السلام).
وقد تحدّث علماء کبار من
اهل السنّة عن عظمة هذا الامام العلمیة وبرکاته الوجودیة، ومن ذلک ما ذکره ابن حجر الهیثمی حیث قال: «وقد اختاره المامون لکی یصاهره، لانّه مع صغر سنّه فانّه من حیث العلم والحلم فاق جمیع العلماء».
ویقول سبط بن الجوزی: «وکان علی منهاج ابیه فی العلم والتقوی والزهد والجود».
وبعد
الامام الجواد (علیهالسّلام) تولّی ابنه
الامام الهادی علیه السلام
۱. زمام
الامامة وزعامة
الشیعة حیث ازدادت فی عصره الضغوط وملاحقة
الشیعة اکثر من السابق، فلم یملک هذا الامام حرّیة للعمل والنشاط الثقافی والعلمی فی مساحة واسعة، ولکن مع هذه الظروف الصعبة فانّ هذا الامام قد ربّی تلامیذ واصحاباً کثیرین مضافاً الی اجابته عن الشبهات العقائدیة والاسئلة الفقهیة والروائیة، انّ ما ورد عن هذا الامام من الاجوبة المتعدّدة وحلّ المشاکل الفقهیة فی الفرص التی سنحت له، شاهد حیّ علی علم الامام الغزیر ومعارفه العمیقة(منها ما ورد فی فتوی الامام (علیهالسّلام) حول المسیحیّ الزانی الذی اسلم قبل اقامة الحدّ علیه ومخالفة الامام لرای یحیی بن اکثم وغیره من فقهاء البلاط).
(وکذلک هناک نموذج آخر فی نذر
المتوکّل واختلاف آراء الفقهاء فی کیفیة اجراء النذر وحلّ الامام (علیهالسّلام) هذه المشکلة).
وقد ازدادت الضغوط والممارسات التعسّفیة من قبل الحکومة العباسیة فی زمان
الامام الحسن العسکریّ (علیهالسّلام) بحیث انّ السلطة اضطرّت الی احضار الامام فی کلّ اسبوع مرّتین: الاثنین والخمیس فی البلاط لشدّة القلق والهاجس من نفوذ الامام فی قلوب الناس
ولکن مع هذا الحال فقد کان الامام (علیهالسّلام) یبعث بطلّابه ووکلائه الی المدن لنشر فکر وفقه مدرسة اهل البیت (علیهمالسّلام) وروایاتهم.
وبعد الامام الحسن العسکریّ (علیهالسّلام) انتقلت الامامة الی ولده
الامام المهدیّ علیه السلام، ولهذا الامام غیبتان،
غیبة صغری ذات مدّة قصیرة وقد استغرقت ۶۹ سنة، و
غیبة کبری بدات من انتهاء الغیبة الصغری وتستمرّ لحین ظهور هذا الامام. وبالرغم من انّ
الامام المهدیّ (علیهالسّلام) لم یستلم زمام الامامة للناس بصورة علنیة، ولکنّه ومن خلال نوّابه فی زمن
الغیبة الصغری، کان یتحرّک علی مستوی ارشاد وهدایة اتباع
مدرسة اهل البیت (علیهمالسّلام) ویحلّ لهم مشکلاتهم العلمیة والفقهیة، ومن جملة ذلک ما نجده فی جواب الامام عن اسئلة «
اسحاق بن یعقوب» فی مجالات مختلفة
وکذلک یمکن الاشارة فی هذا الصدد الی
توقیع الامام (علیهالسّلام) المطوّل فی جوابه عن اسئلة وکیل الناس فی قم، وهو
محمّد بن عبداللَّه بن جعفر الحمیری.
وقد شهدت هذه المرحلة من تاریخ فقه الامامیة ظهور فقهاء کبار قد تربّوا علی منهج ائمّة اهلالبیت (علیهمالسّلام) وکان لهم دورٌ مهم فی تقویة وترشید الفقه الاسلامی، مضافاً الی فقهاء اهل السنّة الذین اقتبسوا الکثیر من مدرسة اهل البیت.وفی هذا الفصل نبدا ببیان ترغیب الائمّة (علیهمالسّلام) وحثّهم علی الاجتهاد والتفقّه، ثم نستعرض عدداً من الفقهاء والمحدّثین الذین تتلمذوا فی مدرسة ائمّة اهلالبیت علیهم السلام.
لقد حثّ ائمّة اهل البیت (علیهمالسّلام) بعض طلّابهم البارزین الذین یملکون القدرة علی الاستنباط والاجتهاد، علی ممارسة هذا الفن واستخراج احکام الدین من خلال عملیة الاستنباط: فاحیاناً کانوا یصدرون امراً کلیّاً ویقولون: «انَّما عَلَیْنا انْ نُلْقِی الَیکُم الاُصُولَ وعلَیکُم ان تُفَرِّعوا»(وردت هذه الروایة عن الامام الصادق (علیهالسّلام) ومثله ایضاً عن الامام الرضا علیه السلام).
واحیاناً اخری یکلّفون بعض تلامیذهم البارزین لیفتوا للناس، واحد هذه الموارد ما نجده فی امر الامام علی (علیهالسّلام) لقُثم بن العبّاس والی مکّة من قِبل امیرالمؤمنین (علیهالسّلام) حیث قال له: «واجلِسْ لهم العَصْرَیْن فافْتِ المُستَفْتِی وعلِّمِ الجاهِلَ وذاکِرِ العالِمَ».
ونموذج آخر ما نراه فی توصیة الامام الباقر علیه السلام لابان بن تغلب حیث قال له: «اجلِس فی مَسجِد المدینة وافْتِ النّاسَ، فانّی احِبُّ ان یُری فی شِیعَتی مِثلُک».
واحیاناً یسمحون للناس ان یاخذوا مسائل دینهم من طلّابهم واصحابهم المعتمدین، کما هو الحال فی جواب
الامام الرضا (علیهالسّلام) حیث قال السائل: لا اکاد اصِلُ الیک عن کلّ ما احتاج الیه من معالم دینی، افیونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج الیه من معالم دینی؟ فقال علیه السلام: نعم».
واحیاناً اخری یعلّمون اصحابهم طرق واسالیب الاجتهاد ایضاً، واحد هذه الموارد ما نجده فی جواب الامام الصادق (علیهالسّلام) عن اسئلة عبد الاعلی، فی کیفیة المسح علی اصبع القدم المجروح وانّه یلفّ علیه خرقة ویمسح، حیث قال له الامام علیه السلام: «یُعرَف هذا واشباهُه من کتابِ اللَّه، قال اللَّه تعالی: «مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ
امسَحْ علَیه».
بالرغم من سعی خلفاء الجور لابعاد الناس عن اهل البیت (علیهمالسّلام) وصدّهم عن الاقتباس من علومهم، وعمل خلفاء بنی امیة وبنی العبّاس علی تشدید الضغوط علی ائمّة اهل البیت (علیهمالسّلام) لسلب ایّة فرصة من شانها ان تسمح بنشر تعالیم الدین وتربیة تلامیذ وعلماء لهذه المدرسة، لکنّ الائمّة (علیهمالسّلام) وفی بعض الفرص التی سنحت لهم، وخاصة فی عصر الامام الباقر والامام الصادق علیهما السلام- استطاعوا تربیة عدد کبیر من طلّاب العلوم الدینیة وفقه مدرسة اهل البیت علیهم السلام.
یقول الذهبی (م ۷۴۸) فی «میزان الاعتدال: » «فهذا (ای مذهب التشیّع) کثیر فی التابعین وتابعیهم مع الدین والورع والصدق؛ فلو ردّ حدیث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبویة وهذه مفسدة بیّنة».
ویتبیّن بصورة جلیّة من هذا الکلام الدور المهمّ لرواة مدرسة اهل البیت فی اوساط اصحاب الائمّه (علیهمالسّلام) فی حفظ العلوم النبویة و
الشریعة المحمّدیة، وفی نفس الوقت فانّ هذا الکلام یعکس کثرة جماعة واتباع اهل البیت بین العلماء والمحدّثین فی ذلک العصر.
یمکن الاشارة هنا الی بعض الفقهاء الممتازین من بین طلّاب مدرسة اهل البیت (علیهمالسّلام) والذین یمکن اعتبارهم بحقّ فقهاء وعلماء موثوقین ومعتمدین بشکل کامل. وقد تحدّث الامام الصادق (علیهالسّلام) عن اربعة من اصحابه باسماء: برید بن معاویة العجلی، زرارة بن اعین، محمّد بن مسلم، ولیث المرادی، حیث قال عنهم: «اربَعةٌ نُجباءُ، اُمناءُ اللَّهِ علی حَلالِه وحَرامِه، لَولا هؤلاءِ، انقطعت آثارُ النُّبُوَّةِ وانْدَرَسَت».
ویذکر المرحوم الکشّی ایضاً فی رجاله بعض هؤلاء البارزین من اصحاب الائمّة من موقع الاحترام والتبجیل، ثم یذکر اسماء ۱۸ شخصاً من هؤلاء المعروفین والبارزین. ومن جملة تلامذة ائمّة اهل البیت واصحابهم المرموقین فی هذه المرحلة،
الفضل بن شاذان النیسابوری (م ۲۶۰)، وقد کان من اصحاب الامام الجواد والامام الهادی (علیهماالسّلام) وقد روی ایضاً عن الامام الرضا (علیهالسّلام) وهو معروف جدّاً بین علماء الشیعة، ویقول عنه المرحوم الکشی: انّه الّف ۱۸۰ کتاباً.
وتبحث بعض هذه الکتب فی الفقه، مثل: کتاب الفرائض الکبیر، کتاب الفرائض الاوسط، کتاب الفرائض الصغیر، کتاب الطلاق، کتاب المُتْعتیْن: متعة النساء ومتعة الحجّ و... .
وکذلک هناک بعض الوجوه العلمیة والفقهیة المعروفة بین اصحاب الامام الرضا والامام الجواد (علیهماالسّلام) منهم احمد بن محمّد بن عیسی الاشعری، احمد بن محمّد ابی نصر البزنطی، زکریا بن آدم، محمّد بن اسماعیل بن بزیع، الحسین بن سعید الاهوازی وعلیّ ابن مهزیار.
ولبعض هؤلاء الاصحاب تالیفات فقهیة متعددة ایضاً. ومن جملة طلّاب اصحاب الامام الهادی (علیهالسّلام) البارزین:
ایّوب بن نوح،
عثمان بن سعید الاهوازی وعبدالعظیم الحسنی (المدفون فی مدینة الریّ) ولبعض هؤلاء آثار علمیة وفقهیة. ومن التلامیذ البارزین لمدرسة الامام الحسن العسکری (علیهالسّلام) ایضاً: احمد بن اسحاق الاشعری القمّی، ابوهاشم داود بن قاسم الجعفری،
عبداللَّه بن جعفر الحمیری، ابوعمرو عثمان بن سعید العمری، علیّ بن جعفر ومحمّد بن الحسن الصفّار.(وللوقوف علی شخصیاتهم المرموقة وآثارهم الجلیلة انظر: رجال الکشی، رجال النجاشی، الفهرست ورجال الشیخ الطوسی معجم رجال الحدیث لآیة اللَّه السید الخوئی).
۱. انّ هذه المرحلة تتمیّز بحضور ائمّة اهل البیت (علیهمالسّلام) الذین کان لهم دورٌ مهمّ فی بیان احکام الشریعة وصیانتها من عناصر التحریف والانحراف، ومن هنا کان الواجب علی الناس الرجوع الیهم واتّباعهم بشکل کامل.
۲. امکان وصول الناس للحکم الشرعی الواقعی بمراجعة ائمّة اهل البیت علیهم السلام.
۳. انّ التفقّه فی هذا العصر یتمثّل فی تعلم السنّة والاحادیث وحفظها ونقلها والافتاء علی اساس ما ورد فی نصوص الآیات القرآنیة والاحادیث الشریفة.
فی هذه المرحلة فانّ الاجتهاد بالمعنی المصطلح، وبسبب حضور ائمّة اهل البیت علیهم السلام، لم یکن سائغاً سوی فی بعض الموارد التی لا یتسنّی للمکلّف التوصّل الی هؤلاء الائمّة.
۵. اقتران الحدیث والفقه، حیث کانت المسائل الفقهیة تدوّن غالباً وبشکل غیر منظّم علی اساس الاحادیث مع ذکر اسنادها.
۶. تربیة آلاف الفقهاء والمحدّثین فی مدرسة اهلالبیت علیهم السلام.
بدات هذه المرحلة الفقهیة فی بدایة
الغیبة الصغری عام ۲۶۰ هجریة واستمرّت الی زمان انتقال
الشیخ الطوسی من بغداد الی
النجف وتاسیس
مدرسة الفقه والاجتهاد فی تلک الدیار (عام ۴۴۸ للهجرة).
فی هذه الفترة نری تغییراً ملحوظاً جری علی
فقه اهل البیت (علیهمالسّلام) الذی کان متناثراً وبدون تبویب وترتیب، فقد قام
فقهاء الشیعة بتبویب هذا
الفقه للناس، رغم انّ هذا التبویب فی اغلب الموارد لم یتجاوز حدود الروایات، سواءً من حیث الکمّام من حیث الالفاظ.
والمثال البارز لهذا الاسلوب ما نجده فی کتاب الشرائع لعلیّ بن بابویه القمّی (م ۳۲۹) الذی کتبه علی شکل رسالة لولده م
حمّد بن علیّ بن بابویه، المعروف بالشیخ الصدوق.
وللاسف فانّ هذا الکتاب لم یصل الینا ولکن من حیث الشکل وعدم تجاوزه فیالغالب دائرة
الروایات هو ما انعکس علی مقولة البعض حیث قالوا عنه: «کانت هذه الرسالة (یعنی کتاب الشرائع لعلیّ بن بابویه القمّی) مرجع الاصحاب عند اعواز
النصوص الماثورة المسندة».
وبالرغم من انّ عملیة الاجتهاد فی
الفقه قد تشکّلت فی هذه المرحلة، ولکنّ الفقه فی الواقع بقی هو
الفقه الماثور، واحیاناً کان هذا الفقه الماثور یدوّن بشکل مفصّل ومشروح مع ذکر متن الروایات واسنادها من قبیل (کتاب
الکافی للشیخ الکلینی) و (
من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق)؛ واحیاناً یقتصر علی مورد الفتوی من الروایة مع حذف الاسناد بل مع تقطیع متن الروایات، من قبیل ما نراه فی کتاب (الشرائع لابن بابویه) (المتوفّی ۳۲۹) وکتابی (الهدایة و
المقنع للشیخ الصدوق) (م ۳۸۱) و (النهایه للشیخ الطوسی) (م ۴۶۰). وقد کان هذا الاسلوب هو المعمول به والمتداول بین فقهاء ذلک العصر، ومع هذا الحال ظهر فقهاء کبار تجاوزوا الاسلوب السائد وتحرّکوا فی بیان المسائل الفقهیة من موقع
الاستدلال العقلیّ، مثل
العُمانی و
الاسکافی. والجدیر بالذکر انّ المرحلة الثانیة من فقه مدرسة اهل البیت (علیهمالسّلام) تتشکّل من ثلاث مدارس:
وقد کان فقهاء هذه المدرسة یتمسّکون فی بیان المسائل الفقهیة بالنصوص والروایات فحسب ولا یتجاوزونها لعملیة الاستدلال العقلیّ، ومن کبار هذه المدرسة یمکن الاشارة الی
الصدوقین الاب والابن. وقد کانت هذه المدرسة مقتدرة علمیاً ومورد اعتماد الاصحاب والفقهاء الی حدّ انّ سفیر
الناحیة المقدّسة الحسین بن روح انفذ کتاب التادیب الی
قمّ وکتب الی جماعة
الفقهاء بها وقال لهم: «انظروا فی هذا الکتاب وانظروا، فیه شیء یخالفکم؟».
وقد کان القائمون علی هذه المدرسة یستخدمون الاستدلال العقلیّ فی المسائل الفقهیة، الی درجة انّه نسب الیهم العمل
بالقیاس و
الاستحسان احیاناً. واحد علماء هذه المدرسة
الحسن بن علیّ بن ابی عقیل العمانی (م ۳۶۸)، وقد استلم زعامة الشیعة بعد مرحلة
الغیبة الصغری، وهو اوّل من استخدم
الاجتهاد بالمنهج المعروف فی
المباحث الفقهیة، وقد کتب کتاب «
المتمسّک بحبل آل الرسول» الذی یعرض فیه المسائل الفقهیة ویقیم علیها الادلة الفقهیة، ویفرع علیها
الفروع الفقهیة، ویعتبر هذا الکتاب بین العلماء من اهم الکتب التی یستفاد منها فی
القرن الرابع والخامس، وهذا الکتاب معروف بین اتباع هذه المدرسة الی حدٍّ قال عنه
النجاشی: «قیل: ما ورد الحاج من خراسان الّا طلب واشتری منه نسخ، وسمعت شیخنا اباعبداللَّ (النعماني)هوقيل ما ورد الحاج من خراسان إلا طلب واشترى منه نسخ. وسمعت شيخنا أبا عبد الله رحمهالله (العمانی) رحمه اللَّه یکثر الثناء علی هذا الرجل رحمه اللَّه».
وللاسف فانّ هذا الکتاب مفقود الآن، ولکنّ
ابن ادریس الحلّی (م ۵۹۸)؛ و
المحقّق الحلّی (م ۶۷۶) و
العلّامة الحلّی (م ۷۲۶) نقلوا بعض
الفتاوی من هذا الکتاب فی کتبهم. وقد قال ابن ادریس عن هذا الکتاب: «انّه کتاب حسن وعظیم وهو موجود عندی».
العالم الآخر الذی ادام هذا المنهج واحکم ارکانه هو ابو علیّ محمّد بن احمد بن الجنید الاسکافیّ (م ۳۸۱). ویقول عنه النجاشی: «محمّد بن احمد بن الجنید،
ابو علیّ الکاتب الاسکافی وجه فی اصحابنا، ثقة، جلیل القدر، صنّف فاکثر».
ویذکر النجاشی کتبه والتی منها کتابین فی الفقه وهما، «تهذیب الشیعة لاحکام الشریعة، و
الاحمدی للفقه المحمّدی».
یسمی هذا الکتاب باسم: مختصرالاحمدی فی الفقه المحمدی. وللاسف فانّ هذین الکتابین لم یصلا الینا رغم انّ الکتاب الثانی کان موجوداً الی زمان العلّامة الحلّی.
وهذه المدرسة افضل المدارس المذکورة، وهی مدرسة
الشیخ المفید (م ۴۱۳) وتلامذته، مثل السیّد المرتضی (م ۴۳۶) وغیره. وقد جمعت هذه المدرسة بین کلا المنهجین، ای التمسّک بالنصوص والاستدلال العقلیّ، ولعلّ ذلک کان بسبب انّ الشیخ المفید تتلمذ فیکلا المدرستین السابقتین، لانّه من جهة یعتبر من تلامیذ ابن الجنید، ومن جهة اخری فانّه درس عند جعفر بن محمّد بن قولویه (م ۳۶۸) ومدرسة القمّیین. وللشیخ المفید تآلیف وکتب متعدّدة فی الفقه منها: «المقنعة»، وهو ما شرحه الشیخ الطوسی فی کتابه: «تهذیب الاحکام».
۱. عرض الکتب الفقهیة بشکل مبوّب ولکن فی الغالب یقتصر علی استعراض الروایات مع استخدام الفاظ الروایات نفسها.
۲. انّ الاجتهاد فی هذه المرحلة کان بسیطاً وساذجاً حیث یتمّ توزیع الروایات علی ابواب فقهیة وبیان حکمها واستنتاج الحکم من متن الروایة.
۳. بدا فی هذه المرحلة تدوین اصول الفقه، وقد کتب الشیخ المفید فی البدایة رسالة اسمها «
التذکرة باصول الفقه»، ثم کتب تلمیذه
السیّد المرتضی کتاباً مفصلًا اکثر فی اصول الفقه وسمّاه «الذریعة الی اصول الشریعة».
۴. وتتمیز هذه المرحلة بانّها بدایة تدوین «الفقه المقارن» ایضاً؛ وذلک بان تذکر موارد الاختلاف فی المسائل الفقهیة مع المذاهب الاخری. وفی هذا المجال کتب الشیخ المفید کتاب «الاعلام» وکتب السیّد المرتضی کتابی «الانتصار و الناصریات».
وتبدا هذا المرحلة من عصر الشیخ الطوسی (م ۴۶۰)، وبالتحدید فانّها تبدا منذ ان اُجبر الشیخ الطوسی علی الهجرة من بغداد الی النجف الاشرف. ویعتبر شیخ الطّائفة محمّد بن الحسن الطوسی من التلامیذ البارزین للشیخ المفید والسیّد المرتضی، وقد تتلمذ علیهما مدّة مدیدة، فقد کان ملازماً للسیّد المرتضی مدّة ۲۳ عاماً، وبعد رحلة السیّد المرتضی استلم زعامة اتباع اهل البیت، حیث کانوا یقصدونه من جمیع المناطق. وقد کانت بغداد فی ذلک الوقت مرکز التشیع الی حین حدوث الفتنة ووقوع الاضطرابات فیها، وقد بدا الشیخ الطوسی ایضاً بکتابة کتبه الفقهیة علی منهج القدماء بشکل مختصر وبالاستفادة من الروایات والنصوص، وبدون ان یفرّع علیها فروعاً واسعاً، ومن جملة کتبه هذه «النهایة».
وبعد وقوع الاضطرابات فی بغداد وتهدید الشیخ الطوسی نفسه، تحرّک هذا الفقیه الکبیر فی عام ۴۴۸ للهجرة، وهاجر الی النجف الاشرف واسس حوزة علمیة هناک.(کتب ابن الجوزی عن هذه الحوادث فی هذه المرحلة وذکر فی عام ۴۴۸ فی مساجد بغداد، فی الاذان «حیّ علی خیر العمل» بدلًا عن «الصلاة خیر من النوم». وکتب علی ابواب البیوت «محمّد وعلی خیر البشر». فامر بقتل ابیعبداللَّه بن جلّاب، رئیس بیاعی الاقشمة فی «باب الطاق» فی بغداد.)(لانّه کان غالیاً فی الرفض. فقتل وصلب علی باب دکانه. وفرّ ابو جعفر الطوسی من بغداد وهدم داره.
وکتب ابن الاثیر ایضاً: فی سنة ۴۴۹.) (نهبت دار ابیجعفر الطوسی بالکرخ وهو فقیه الامامیّة، واُخذ ما فیها وکان قد فارقها الی المشهد الغربی (ای النجف)
وقد خلق الشیخ الطوسی، بما یتمتّع به من حذاقة ومهارة فی العلوم الاسلامیة المختلفة کالتفسیر، والرجال، والاصول والفقه، تحوّلًا جدیداً فی الفقه الاسلامیّ
وفی هذا العصر تغیّر منهج الکتب الفقهیة عمّا کان سائداً ومتداولًا علی شکل تدوین النصوص، واضیفت الی المسائل الفقهیة فروع جدیدة، وقد استخدم فی جمیع هذه الفروع والمسائل الاستدلال بالروایات وقواعد الاصول العقلیة بشکل کامل. وقد کانت بدایة هذا التحوّل من قِبل
الشیخ الطوسیّ وبتالیف کتاب المبسوط، . حیث کتب فی مقدّمة هذا الکتاب: «فانّی لا ازال اسمع معاشر مخالفینا المتفقّهة والمنتسبین الی علم الفروع یستحقرون فقه اصحابنا الامامیة یستنزرونه وینسبونهم الی قلّة الفروع وقلّة المسائل، ویقولون: انّهم اهل حشو ومناقضة، وانّ مَن ینفی القیاس والاجتهاد لا طریق له الی کثرة المسائل، ولا تفریع علی الاصول...» . ثم اضاف: «وکنت علی قدیم الوقت وحدیثه متشوّق النفس الی عمل کتاب یشتمل علی ذلک تتوق نفسی الیه، فیقطعنی عن ذلک القواطع وتشغلنی الشواغل، وتضعف نیّتی ایضاً فیه قلّة رغبة هذه الطائفة فیه، وترک عنایتهم به لانّهم الّفوا الاخبار وما رووه من صریح الالفاظ، حتّی انّ مسالة لو غیّر لفظها وعبّر عن معناها بغیر اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها، وکنت عملت علی قدیم الوقت کتاب النهایة، وذکرت جمیع ما رواه اصحابنا فی مصنّفاتهم واصولها فی المسائل وفرّقوه فی کتبهم، ورتّبته ترتیب الفقه وجمعت من النظائر، ورتبت فیه الکتب علی ما رتّبت، للعلّة التی بیّنتها هناک، ولم اتعرّض للتفریع علی المسائل ولا تعقید الابواب وترتیب المسائل وتعلیقها والجمع بین نظائرها، بل ارودت جمیع ذلک او اکثر بالالفاظ المنقولة حتی لا یستوحشوا من ذلک».
انّ کلمات الشیخ الطوسی هذه فی «
المبسوط» تشیر بوضوح الی انّه ومن اجل الانتقال من المرحلة الثانیة للفقه الی المرحلة الثالثة، قد قام بعمل کبیر واوجد تحوّلًا عظیماً فی مسار الفقه.
وهذه المرحلة تمتلك مجموعة من الخصائص منها:
کتابة وتدوین المسائل الفقهیة باسلوب جدید، فقد ترک المرحوم الشیخ الطوسی، سنّة القدماء فی تدوین الکتب الفقهیة وشرع بکتابة الفقه بالاستفادة من القواعد والاصول الکلیة فی تفرّع الفروع، وعدم التقید بمتن الروایة (لا بمحتواها) وبذلک فتح فصلًا جدیداً فی تدوین الکتب الفقهیة للامامیة.
یتّسم هذا العصر بالاهتمام بمسالة الفقه المقارن بشکل واسع. وبالرغم من تالیف بعض الکتب فی الفقه المقارن من قِبل الشیخ الطوسیّ، لکنّ الشیخ بتالیفه کتاب «الخلاف» دخل فی هذا المجال من بابه الواسع واهتمّ بعرض المسائل مورد الاختلاف بین مذهب الامامیة ومذاهب اهل السنّة.
ورود «الاجماع» الی میدان الادلّة الفقهیة. فحتّی زمان السیّد المرتضی لم یکن فقهاء الامامیة یستدلّون بالاجماع فی المسائل الفقهیة، واقتصر ذلک علی اهل السنّة، ولکن منذ عصر
السیّد المرتضی وخاصّة عصر
الشیخ الطوسی، فانّ الاجماع صار عند الامامیة احد الادلّة المقبولة فی عملیة الاستدلال الفقهی رغم انّهم یعتبرون حجّیته من باب «اللطف» وما الی ذلک.
ورود «علم اصول الفقه» بشکل واسع الی میدان الفقه. وقد فتح الشیخ الطوسی آفاقاً جدیدة بتالیف کتابه القیّم والمهمّ باسم «عدّة الاصول» فی علم الاصول.وقد کان هذا الکتاب ولمدّة سنوات مدیدة یستفاد منه فی التدریس فی الحوزات العلمیة للامامیة.یقول المرحوم
السیّد مهدی بحرالعلوم (م ۱۲۱۲) عن هذا الکتاب: «وهو احسن کتاب صنّف فیالاصول».
ومن الثمرات المهمّة لهذا الکتاب، اثبات حجّیة خبر الواحد، لانّه قبل
الشیخ الطوسیّ، کان الفقهاء یدّعون الاتفاق علی عدم جواز العمل الّابالخبر القطعیّ، ولکنّ الشیخ الطوسی هو اوّل من اثبت انّ اخبار الآحاد، اذا کان رواتها ثقات، حجّةٌ، وادّعی انّ عمل الاصحاب بالروایات کان مبتنیاً علی هذا الاساس.
توفّر عناصر اخری لازمة لعملیة استنباط الاحکام، فقد قام الشیخ الطوسیّ، مضافاً لتدوین کتاب فی علم الاصول، بتدوین کتب رجالیة وموسوعات حدیثیة وبذلک قدّم خدمة کبیرة للفقهاء فی مسیرة استنباط الاحکام.(دوّنت الکتب الرجالیة من قبیل الفهرست واختیار معرفة الرجال لغرض الارتباط برجال وعلماء ورواة
الشیعة وذکرت اسماؤهم فی الموسوعتین
التهذیب و
الاستبصار للحدیث.)
وتبدا هذه المرحلة من منتصف القرن الخامس وتستمر حتّی نهایة القرن السادس، وذلک بسبب عظمة الشیخ الطوسی العلمیة حیث خلّفهالة کبیرة عن وزنه العلمیّ بین فقهاء الامامیة بحیث انّه لم یبرز فی ذلک الوقت فقیه مستقلّ یفتی خلافاً لنظرات وآراء الشیخ. انّ القداسة العلمیة للشیخ ادّت الی عدم تجرّؤ احد من الفقهاء بالتصریح بمخالفة آرائه ولمدّة اکثر من مائة عام. وقد کان الفقهاء الذین جاءوا بعد الشیخ والّفوا کتباً فقهیة، یتّخذون من کتب الشیخ مرجعاً علمیاً لهم وینقلون آراءه فی کتبهم ببیان مختلف، ولهذا السبب فانّ هذا العصر یعدّ عصر التقلید لافکار الشیخ والرکود فی عملیة التفقّه والاجتهاد.
ویری بعض الکتّاب سبباً آخر للرکود الفقهی فی هذا العصر، وهو وجود الجوّ المشحون ضدّ
الشیعة والممارسات الوحشیة من القتل ونهب الاموال التی مورست ضدّهم، وقد بدات هذه الاضطرابات واعمال العنف منذ زمن الشیخ الطوسی حیث خرجت بغداد من سیطرة آل بویه وتسلّط «طغرل بک» علی تلک المنطقة وکان سنّی المذهب ومتعصّباً جدّاً، وقد عمل علی قتل الشیعة ونهب اموالهم حتی انّه امر بحرق مکتبة الشیخ الطوسی ایضاً.
وفی عام ۵۷۹ للهجرة قام صلاح الدین الایّوبی ایضاً بقتل الشیعة فی حلب واجبرهم علی اعتناق مذهب اهل السنّة وعقیدة الاشاعرة ومنع الخطابة والتدریس الّالاتباع المذاهب الاربعة. وقد ارتکب مثل هذه الاعمال فی مصر ایضاً.
ومن الطبیعی انّ هذه الاجواء المخوفة والمضطربة لا تمنح العلماء فرصة لعملیة الابداع الفقهی والنشاط العلمی.
ومع ذلک فانّ بعض الفقهاء فی هذا العصر- وان قلّوا- قد عملوا علی ابقاء مشعل فقه اهلالبیت (علیهمالسّلام) منیراً.
وقد عاش فی هذا العصر فقهاء کبار ایضاً مثل:
القاضی
ابن البرّاج الطرابلسی(م ۴۸۱)؛ مؤلّف کتاب «المهذّب»
.
ابو علیّ الطوسیبن الشیخ الطوسی (م ۵۱۵ تقریباً).
الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسی(م ۵۴۸) مؤلّف التفسیر القیّم «مجمع البیان». وقد کتب آراءه الفقهیة ذیل آیات الاحکام من هذا التفسیر.
ابوجعفر محمّد بن علیّ الطوسی المعروف ب «ابن حمزة» (م ۵۵۰ تقریباً) واسم کتابه الفقهی «الوسیلة الی نیل الفضیلة».
قطب الدین الراوندی (م ۵۷۳) مؤلّف کتاب «فقه القرآن».
ابو المکارم حمزة بن علیّ بن ابی المحاسن، المعروف ب «
ابن زهرة» (م ۵۸۵) واسم کتابه المعروف فی الفقه والاصول: «غنیة النزوع».
مجموعة خصائص لهذه المرحلة منها:
الرکود العلمیّ فی الفقه وتقلید آراء الشیخ الطوسیّ فی هذا المجال. وعلی هذا الاساس وتبعاً للشیخ طوسی نری اهتماماً خاصاً فی هذه المرحلة بعلم الاصول، وقد استخدم عنصر العقل فی عملیة الاستدلال الفقهیّ بشکل اکبر، وقد خصّص له ابن زهرة، قسماً من کتابه الغنیة لعلم الاصول. وقد اعتمد ابن زهرة فی مجالات مختلفة علی دلیل العقل بشکل واضح، وکذلک کتب
سدید الدّین الحمصی (م ۵۸۸) کتاباً باسم: «المصادر فی اصول الفقه».
الاهتمام بفقه القرآن. وقد کتب
قطب الدین الراوندی (م ۵۷۳) فی هذا المجال کتاباً باسم: «فقه القرآن»، وقد اهتمالشیخ الطبرسیّ بدوره بهذه المسالة فی تفسیره مجمع البیان.
بعد سنوات من سیطرة افکار الشیخ الطوسی وآرائه علی الفقه الشیعی، وبسبب النفوذ العلمی الکبیر للشیخ، فانّ احداً لم یتجرّا علی مخالفته فی هذه الفترة واستمرّ هذا الحال الی اواخر القرن السادس حیث انفتح باب نقد افکار الشیخ وشهدت المدرسة الفقهیة للشیعة عودة النشاط الفقهی وحرکة الاجتهاد مرّة اخری بواسطة جماعة من الفقهاء، وقد استمرّت هذه الحرکة الی القرن الحادی عشر (عصر سیطرة الاخباریین).
وبالرغم من ظهور علماء فی هذه الفترة مثل: سدید الدّین محمود بن علی الحمصی الرازی (م ۵۸۳) و
ابن زهرة الحلبی (م ۵۸۵) من الذین قاموا بنقد وتمحیص آراء الشیخ، ولکنّ رائد هذه النهضة الذی تحرّک فی هذا المجال وبشکل واسع هو محمّد بن ادریس الحلّی (م ۵۹۸).
وقد قدّم ابن ادریس خدمة کبیرة لحرکة الاجتهاد والتفقّه بنقده للشیخ الطوسی وافکاره العلمیة، وقد ادّی ذلک الی استمرار انفتاح باب الاجتهاد. ویصرّح ابن ادریس فی «السرائر: » «ولا اُقلّد الّا الدلیل الواضح والبرهان اللائح».
ثم یبیّن الطریق الصحیح للاجتهاد والتفقّه بقوله: «فانّ الحقّ لا یعدو اربع طرق: امّا کتاب اللَّه سبحانه او
سنّة رسول اللَّه (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) المتواترة المتّفق علیها، او الاجماع او دلیل العقل فاذا فُقد الثلاثة فالمعتمد فی المسائل الشرعیة عند المحقّقین الباحثین عن ماخذ التمسّک بدلیل العقل فیها، فانّها مبقاة علیه وموکولة الیه».
وخلافاً للشیخ الطوسی فانّه لم یعمل باخبار الآحاد.
وعلی ایّة حال، فانّ حرکة
الاجتهاد والتفقّه النامیة استمرّت بالرقیّ والرشد بواسطة جعفر بن الحسن بن یحیی بن سعید الحلّی، المعروف ب «المحقّق الحلّی» (م ۶۷۶) حیث ترعرعت شجرة الاجتهاد الفقهیّ بشکل کبیر.
وعندما یذکر «
المحقّق» بشکل مطلق، فهو المقصود من هذا اللقب، ویکفی فی فضله وعلمه انّه الّف کتاب «شرائع الاسلام» بحیث انّه ومنذ زمان تالیفه الی زماننا هذا یعدّ احد الکتب الدراسیة فی الحوزات العلمیة للشیعة الامامیة وقد کتبت علیه شروح کثیرة.یقال انّه کتب علیه مائة شرح
ومن کتبه الاخری یمکن الاشارة الی «المعتبر» و «
المختصر النافع». وقد قام المحقّق الحلّی بتهذیب آراء الشیخ الطوسی وعرضها بشکل واضح، وتحرّک للدفاع عن مدرسة الشیخ الطوسی من خلال الاستفادة من اعتراضات وانتقادات ابن ادریس.
ومن اهم اعمال المحقّق، ترتیب الفقه وتهذیب ابوابه، فقد قسّم الفقه تقسیماً جدیداً الی: العبادات، العقود، الایقاعات، الاحکام.(قبل هذا التقسیم والترتیب لم یکن هناک تقسیم وتنظیم لابواب الفقه بصورة کاملة، مثلًا ذکر الشیخ الطوسی فی المبسوط کتاب الارث (باسم کتاب الفرائض والمواریث) الی جانب کتاب الوصایا والنکاح، مع انّ کتاب الوصایا والنکاح من اقسام العقود، والارث من اقسام الاحکام. وکذلک یری فی موارد اخری فی الکتاب تفاوتاً فی التنظیم مع تقسیم المحقّق الحلّی فی ابواب الفقه.)
وقد شهدت هذه المرحلة فقهاء بارزین فی تاریخ فقه الامامیة حیث عملوا علی ترشید وتعمیق مسائل الفقه. فمضافاً الی ابن ادریس والمحقّق الحلّی- الذین تقدم ذکرهما- نشیر هنا الی طائفة اخری من الفقهاء البارزین لهذه الفترة:
احمد بن موسی بن جعفر بن طاووس، (م ۶۷۳). وقد قام بتدوین دورة فقهیة من ستّة اجزاء باسم «بشری المحقّقین» والّف دورة اخری من اربعة اجزاء باسم «الملاذ»
ولکن مع الاسف فانّه لم یصل الینا ایّ واحد من هذین الکتابین.
ابو منصور جمال الدین الحسن بن یوسف بن علیّ بن مطهّر الحلّی المعروف ب
العلّامة الحلّی (م ۷۲۶)، وعندما یذکر فی فقه الامامیّة «العلّامة» بشکل مطلق فانّ المقصود هو العلّامة الحلّی.
وقد سار العلّامة الحلّی علی منهج استاذه
المحقّق الحلّی فی الفقه، ولکنّه اضاف الیه بعض ابداعاته. وقد عمل العلّامة الحلّی علی توسعة الفقه وخاصة فی باب المعاملات وکان یعتمد علی القواعد الاصولیة، ومن کتبه المهمّة، «منتهی المطلب، مختلف الشیعة، تذکرة الفقهاء وقواعد الاحکام».
فخر المحقّقین محمّد بن الحسن الحلّی (م ۷۷۱).وهو ابن العلّامة الحلّی ومؤلّف کتاب «ایضاح الفوائد»، فی شرح کتاب «القواعد» لوالده العلّامة الحلّی.
محمّد بن مکّی العاملی، المعروف ب
الشهید الاوّل (استشهد فی ۷۸۶). وکان بدوره من اتباع مدرسة العلّامة الحلّی وکان عالماً ومحقّقاً ومتبحّراً فی الفقه الاسلامی.
ویعدّ کتابه المعروف ب «
اللّمعة الدّمشقیة» - وهو دورة فقهیة کاملة مع شرح الشهید الثانی الذی سمّاه «الروضة البهیة فی شرح اللّمعة الدّمشقیة» - یعدّ ولعدّة قرون من الکتب الدراسیة فی الحوزات العلمیة الامامیة. وامّا کتبه الفقهیة المعروفة الاخری فهی: «الذکری، الدروس فی فقه الامامیة، والبیان».
جمالالدین المقداد بن عبداللَّه السیوری الحلّی، المعروف ب «
الفاضل المقداد» (م ۸۲۶)، وقد کان من الفقهاء البارزین فی مدرسة اهل البیت (علیهمالسّلام) وجامع المعقول والمنقول، وکان محدّثاً ومتکلّماً. واهمّ کتبه فی الفقه باسم «التنقیح الرائع» وهو شرح «
المختصر النافع» للمحقّق الحلّی وکتاب «کنزالعرفان».
احمد بن محمّد بن فهد الحلّی، المعروف ب «
ابن فهد الحلّی» (م ۸۴۱). وقد وصفه الشیخ الحرّ العاملی بانّه: فاضل، عالم، موثّق، زاهد، عابد، متّقٍ ویتمتّع بجلالة القدر. واهم کتبه الفقهیة هو «المهذّب البارع» فی شرح «المختصر النافع» للمحقّق الحلّی.
علیّ بن الحسین العاملیّ الکرکیّ (م ۹۴۰). ویعرف باسم «المحقّق الثانی» و «
المحقّق الکرکی». وله کتب کثیرة، واهم کتبه الفقهیة التی وقعت مورد اهتمام الفقهاء هو «جامع المقاصد فی شرح القواعد».
زین الدّین بن علیّ بن احمد العاملی، المعروف ب الشهید الثانی (استشهد فی ۹۶۶). وقد کان من کبار فقهاء الشیعة ومعروفاً بالعلم والفضل والزهد والعبادة والتحقیق وجلالة القدر، وقد کتب هذا العالِم الکبیر کتباً عدیدة من اشهرها فی الفقه «مسالک الافهام فی شرح شرائع الاسلام» و «الروضة البهیة فی شرح اللّمعة الدّمشقیة» و «روض الجنان» شرح فیه «ارشاد الاذهان» للعلّامة الحلّی.
احمد بن محمّد الاردبیلی (م ۹۹۳). هذا الفقیه من جهة التحقیق والدقّة العلمیة معروف ب «المحقّق الاردبیلی» ومن جهة اخری وبسبب تقواه وزهده وقداسته معروف ب «المقدّس الاردبیلی». وقد خلّف لنا کتابین قیّمین فی الفقه احدهما: «مجمع الفائدة والبرهان فی شرح ارشاد الاذهان» وهو شرح کتاب «ارشاد الاذهان» للعلّامة الحلّی، وهو عبارة عن دورة فقهیّة کاملة، مع دقّة فی التحقیق، والآخر: «زبدة البیان فی احکام القرآن» حیث بحث المحقّق الاردبیلی فی هذا الکتاب آیات الاحکام من موقع التحقیق والعمق.
محمّد بن علیّ بن الحسین الموسوی العاملی، المعروف ب «صاحب المدارک» (م ۱۰۰۹). وکان عالماً کبیراً ومحقّقاً دقیقاً وجامعاً لعلوم مختلفة، واهمّ کتاب فقهیّ له «مدارک الاحکام فی شرح شرائع الاسلام».
(ویعدّ «صاحب المدارک» وکذلک «صاحب المعالم» (وهو الشیخ حسن بن زین الدّین، م ۱۰۱۱) من اتباع مدرسة المحقّق الاردبیلیّ. وهذان العالمان کانا یتشدّدان، کالمحقّق الاردبیلیّ، فی الاستدلال بالروایات، ولا یقبلان روایة الّا اذا ثبتت عدالة الراوی بشاهدین عدلین، ولم یقبلا شهادة عادل واحد او متخصّص فی علم الرجال یشهد بوثاقة هذا الراوی).
محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواری (م ۱۰۹۰). وهو مؤلّف کتاب «کفایة الاحکام» و «ذخیرة المعاد» وقد تاثّر فی منهجه الفقهیّ والاجتهاد بالمحقّق الاردبیلیّ.
۲. تالیف وتدوین المتون الفقهیة بکثرة. فقد تحرّک الفقهاء فی هذا العصر من موقع کتابة المتون الفقهیة بشکل واسع، وقد خلّفوا لنا الکثیر من هذه الکتب واهمّها: «الشرائع» و «القواعد» و «اللمعة».
۳. تالیف دورات فقهیة مفصلّة فی عدّة اجزاء.
۴. اهتمام الفقهاء باصول الفقه بشکل جدید. فمن الکتب الاصولیة المهمّة فی هذا العصر یمکن الاشارة الی «معارج الاصول» للمحقّق الحلّی و «نهایة الوصول الی علم الاصول» للعلّامة الحلّی.
۵. ابداع جدید فی ترتیب وتقسیم الابواب الفقهیة. وهذا العمل تمّ علی یدالمحقّق الحلّی الذی یقسّم الفقه الی اربعة اقسام: العبادات، العقود، الایقاعات، الاحکام.
۶. تدوین کتب جدیدة فی الرجال بشکل دقیق، ومن هذه الکتب یمکن الاشارة الی کتاب «الرجال» للعلّامة الحلّی و «رجال ابن داود» (م ۷۴۷).
واوّل کتاب فی هذا المجال یدوّن بشکل مستقلّ ومشروح، هو کتاب «کنز العرفان» للفاضل المقداد، وبعده الّف المرحوم المحقّق الاردبیلی کتاب «زبدة البیان» فیما یتعلّق بهذه المسالة. والمراد من «آیات الاحکام» هو دراسة الآیات القرآنیة التی یستفاد منها حکم فقهیّ.
تدوین بعض الکتب فی
القواعد الفقهیة.(ومن هنا تعرف انّ القواعد الفقهیة «هی احکام عامة فقهیة تجری فی ابواب مختلفة» وموضوعات وان کانت اخصّ من المسائل الاصولیة الّاانّها اعمّ من المسائل الفقهیة، فهی کالبرزخ بین الاصول والفقه، حیث انّها امّا تختص بعدّة من ابواب الفقه لا جمیعها، کقاعدة الطهارة الجاریة فی ابواب الطهارة والنجاسة فقط، وقاعدة لا تعاد الجاریة فی ابواب الصلاة فحسب، وقاعدة ما یضمن وما لا یضمن الجاریة فی ابواب المعاملات بالمعنی الاخص دون غیرها، وامّا مختصة بموضوعات معینة خارجیة وان عمّت ابواب الفقه کلّها، کقاعدتی «لا ضرر» و «لا حرج»، فانّهما وان کانتا تجریان فی جلّ ابواب الفقه او کلّها، الّاانّهما تدوران حول موضوعات خاصة، وهی الموضوعات الضرریة والحرجیة، وهذا بخلاف المسائل الاصولیة، فانّها امّا لا تشتمل علی حکم شرعی اصلًا بل تکون واقعة فی طریق استنباطه، ککثیر من مسائله، وامّا تتضمن حکماً عاماً کالبراءة الشرعیة الجاریة فیما لا نصّ فیه- علی ما عرفت- من غیر اختصاص بموضوع دون آخر، بل تجری فی جمیع الموضوعات اذا فقد فیها النص. ولا یقال: انّها تختص ایضاً بموضوعات خاصّة هی ما لا نصّ فیه، فانّا نقول: انّ هذه الخصوصیة لیست خصوصیة خارجیة من قِبل ذات الموضوع، وانّما هی خصوصیة ناشئة من ملاحظة حکم الشرع کما لا یخفی علی الخبیر.)
فقد الّف الشهید الاوّل کتاباً باسم «القواعد والفوائد» وکذلک ابن فهد الحلّی فی کتابه «نضد القواعد الفقهیّة» والشهید الثانی فی کتابه «فوائد القواعد».(والملفت للنظر انّ الکتب المذکورة لم یتمّ تدوینها طبقاً لتعریف «القواعد الفقهیة. )
مع تشکیل الحکومة الصفویّة فی
ایران فی بدایة القرن العاشر، والاعلان عن
المذهب الشیعیّ کمذهب رسمیّ للبلاد، شهد
الفقه الشیعی تحوّلًا آخر، لانّ ملوک الدولة الصفویة قاموا بدعوة علماء الشیعة للاشراف علی مسائل وقضایا الحکومة، وحینئذٍ تشکّل فقه الحکومة بصورة عملیة، ومن جملة من کانت له انجازات مهمّة فی هذه المجال هوالمرحوم «المحقّق الکرکیّ» (م ۹۴۰) وقد اهتمّ الفقهاء فی تلک الفترة بالتحقیق فی مواضیع ولایة الفقیه وحدودها وبحث الخراج والمقاسمة وصلاة الجماعة وامثال ذلک. وفی الحقیقة انّ الفقهاء اهتمّوا منذ بدایة القرن العاشر بالفقه الاجتماعی والحکومی وتجاوزوا الاحکام والمسائل الشخصیّة.
وتبدا هذه المرحلة من اوائل
القرن الحادی عشر وتستمرّ الی اواخر القرن الثانی عشر. فقد ظهرت
الحرکة الاخباریة بعد عدّة قرون من نموّ ورشد
الفقه الامامیّ والاستفادة من دلیل العقل فی حرکة الاستنباط وتقدّم علم الاُصول والاستفادة منه فی الفقه، فقامت الحرکة الاخباریة بالغاء دور العقل فی حرکة الاستنباط. وقد تشکّلت هذه الحرکة فی وقت کان للعقل دور مهمٌّ فی استنباط الاحکام الشرعیة من خلال ما بذله المحقّقون، ومنهم المحقّق الحلّی واتباعه کصاحب «المدارک»، والمحقّق السبزواری وصاحب «المعالم». وتحرّک الاخباریون من موقع الهجوم علی العقل و
العلوم العقلیة، فلم یعتبروا ایّ قیمة وشان للعقل، لا فی العلوم العقلیة ولا فی العلوم النقلیة، وقالوا ببطلان الاجتهاد والتقلید وطعنوا بمن یسلک هذا المسلک.
انّ رائد هذه الحرکة هو
محمّد امین الاسترآبادی (م ۱۰۳۳) الذی نشر افکاره هذه فی کتاب «
الفوائد المدنیّة» عندما کان مقیماً فی المدینة.
( وکتبوا انّ
الاشاعرة و
اهل الحدیث کانوا مسیطرین علی الحوزات العلمیة فی
الحرمین الشریفین فی عصر
الاسترآبادی وکانت عقائد الظاهریین فی
الحجاز رائجة. وکانوا یعتبرون ظاهر الروایات و
الاحادیث حجّة ویخالفون الاجتهاد و
الرای و
القیاس. وقد تاثّر
المیرزا محمّد الاسترآبادی وتلمیذه محمّد امین الاسترآبادی بهذه الاجواء واسّس الحرکة الاخباریة فی داخل الثقافة الشیعیة).
( وبالرغم من الاختلاف الواسع فی الاجتهاد بین
اهل السنّة و
الشیعة. فالاخباریّون مثل اهل الحدیث فی
اهل السنّة یخالفون الاجتهاد)
۱. انّ
ظواهر کتاب اللَّه غیر حجّة، الّاما ورد فی تفسیر الآیات من روایات
المعصومین علیهم السلام.
۲. وبالنسبة للمسائل الاصولیة فلا حجّیة لحکم العقل، ولا ملازمة بین حکم العقل والنقل.
۳. انّ الاجماع غیر حجّة مطلقاً، سواء کان اجماعاً محصّلًا او منقولًا.
۴. انّ جمیع روایات الکتب الاربعة قطعیة الصدور، ولذلک فالفقیه لا یحتاج فیها للتحقیق فی اسنادها.
۵. اذا لم یرد حکم فی الکتاب والسنّة علی مورد خاص کحکم التدخین، فینبغی فی هذا المورد التوقّف وعدم اصدار ایّ
حکم شرعیّ، وبالطبع ففی مقام العمل ینبغی الاحتیاط.
وبالرغم من انّ مؤسس المدرسة الاخباریة هو محمّد امین الاسترآبادی، لکنّ البعض یعتقد انّه یفهم من کلامه انّه متاثّر باستاذه المیرزا محمّد الاسترآبادی (م ۱۰۲۸).
وکان محمّد امین الاسترآبادی صهر استاذه ایضاً وقال فی کتابه باللغة الفارسیة «
دانشنامه شاهی»:(توجد نسخة من هذا الکتاب فی
مکتبة آیة اللَّه المرعشی فی مدینة قم. وقد الّف هذا الکتاب باللغة الفارسیة فی مکّة المکرّمة).«عندما تعلّمت علم الحدیث عند المیرزا محمّد الاسترآبادی، قال لی: علیک باحیاء طریقة الاخباریین ورفع الشبهات الموجودة فی هذا المنهج!».
ویبدو انّ اهم سبب لظهور
الفکر الاخباریّ هو تشدّد جماعة من الفقهاء فی امر الحدیث واهتمامهم بالعقل والاستدلالات العقلیة. وفی الحقیقة انّ المیل الشدید للاخبار یمکن ان یکون بمثابة ردّة فعل لعقلانیة
المحقّق الاردبیلی واتباعه وتلامیذه.
فی السابق کانت طائفة من الفقهاء تهتم فی عملیة الاستنباط بالکتاب والسنّة فقط، فکانوا یجتنبّون استخدام العقل فی البحوث الفقهیة، من اجل الابتعاد عن العمل بالقیاس، ولکنّ طائفة اخری من الفقهاء کالعمانی و
الاسکافی، کانوا یستخدمون الاستنباط العقلیّ فی المسائل الشرعیة والفقهیة، الی ان جاء
الشیخ المفید و
الشیخ الطوسیّ واوجد تعادلًا بین هذین المنهجین من خلال الاستفادة من کلیهما، وقد استمرّت الحرکة الفقهیة فی مسیرها علی هذا الخط لعدّة سنوات ولکن فی القرن العاشر ظهرت رؤیة ایجابیة جدیدة للعقل مع التشدّد فی التمسّک بالاحادیث والروایات وعلی راس هذه
الحرکة العقلانیة هو
المحقّق الاردبیلی. وبعده سار علی هذا الطریق صاحب «المدارک»، وصاحب «المعالم» و
المحقّق السبزواری، وعملوا علی تکریس وتقویة هذا الخطّ والمنهج. وفی مثل هذه الاجواء ظهر الاسترآبادی الذی کان مقیماً فی الحجاز وفی جوّ مشحون بالاحادیث والتزام السنّة، فکان ان سیطر علیه الفکر الحدیثی والاخباریّ وتحرّک من موقع انکار العقل والتزام الاخبار والتشدّد فی ذلک، وبالنتیجة رفض منهج الاصولیین والعقلیین وایجاد منهج عملیّ فی التمسّک بالاخبار.
(وللمزید من الاطلاع حول ظهور الحرکة الاخباریة انظر).
انّ الفقهاء والعلماء الاخباریین الذین جاءوا بعد محمّد امین الاسترآبادی یختلفون فی تشدّدهم وتعصّبهم لهذه المدرسة، فانّ افکار وعقائد الکثیر من فقهاء المذهب الاخباری تختلف عن افکار وعقائد المرحوم الاسترآبادی، مثلًا صاحب «الحدائق» هو فقیه اخباریّ، ولکنّه یقف موقف الاعتدال والانصاف، وفی نفس اعتداله وانصافه کان محقّقاً متتبعّاً، وفی الحقیقة انّ موقفه هذا ادّی الی انتهاء العصر الاخباریّ. علی ایّة حال فانّ اهم فقهاء الاخباریین هم:
کان المولی
محمّدتقی المجلسیّ(م ۱۰۷۰) (المجلسیّ الاوّل) رجلًا محقّقاً، عالماً، زاهداً، عابداً وفقیهاً متکلّماً. ومن کتبه المعروفة «روضة المتّقین»، الذی یعدّ من افضل الشروح علی کتاب «
من لا یحضره الفقیه» ویدلّ علی مهارته وتخصّصه فی الادب والرجال والفقه والحدیث.
الملّا محسن الفیض الکاشانی (م ۱۰۹۱). وکان عارفاً حکیماً ومحدّثاً فقیهاً، وقد جمع احادیث الکتب الاربعة فی کتابه القیّم «الوافی» وکذلک دوّن کتاباً فی الفقه باسم «مفاتیح الشرائع».
محمّد بن الحسن الحرّ العاملی (م ۱۱۰۴) وکان عالماً متبحّراً ومحدّثاً جلیل القدر، وهو صاحب الکتاب النفیس «
وسائل الشیعة» الذی جمع فیه احادیث الکتب الاربعة وکتب مهمّة اخری للشیعة باسلوب جدید.
العلّامة
محمّد باقر المجلسیّ (م ۱۱۱۱) بالنسبة لعلم وزهد وتقوی العلّامة المجلسیّ وجامعیته للعلوم فانّه اکبر من ان یعرّف، ویکفیه فخراً انّه الّف دائرة المعارف الکبیرة باسم «
بحار الانوار» للشیعة الامامیة حیث لم یسبقه فی ذلک ایّ عمل من هذا القبیل، ومن تالیفاته القیّمة الاخری کتاب «
مرآة العقول» فی شرح کتاب «الکافی». وقد الّف المجلسیّ کتباً کثیرة، وکان اوّل من کتب باللغة الفارسیة کتباً مفصّلة فی المعارف الدینیة علی اساس مذهب اهل البیت علیهم السلام.
الشیخ یوسف البحرانیّ (م ۱۱۸۶) وهو محدّث کبیر وفقیه ماهر، ذو احاطة کاملة بالفقه والحدیث، وقد الّف کتباً کثیرة، اشهر ها «
الحدائق الناضرة» فی ۲۵ جزءً. ویعدّ هذا الکتاب دورة فقهیة استدلالیة مع نقل الاقوال والنصوص فی کلّ مسالة،
وبالرغم من انّ الشیخ یوسف البحرانی یعدّ من الاخباریین، ولکنّه بموقفه المعتدل ورفضه للکثیر من مبانی المدرسة الاخباریة، استطاع ان یوقف هذه الحرکة(وللاطلاع اکثر علی موقفه الاعتدالی بل عدول الشیخ یوسف البحرانی عن کثیر من مبانی الاخباریین، انظر کتابه: الحدائق الناضرة، وبالاخصّ المقدّمة الثانیة عشرة). وفی هذا العصر وهو العصر الاخباریّ الذی رفع رایته امین الاسترآبادی واستمرّ الی ما یقارب قرن ونصف قرن، الی زمان ظهور العلّامة
الوحید البهبهانی الذی عمل علی تحطیم ارکان هذا المنهج، ظهر علماء ومجتهدون لم یبالوا بالظاهرة الاخباریة ولم یذعنوا لتحدّیاتها واستمرّوا علی السیر فی خطّ الاجتهاد بالرغم من قلّة عددهم.
سلطان العلماء (م ۱۰۶۴)؛ مؤلّف التعلیقة علی معالم الاصول وعلی زبدة الشیخ البهائی.
الفاضل التونی (م ۱۰۷۱)؛ مؤلّف کتاب الوافیة فی اصول الفقه.
جمال الدین الخوانساری (م ۱۱۲۵)؛ ومن تالیفاته یمکن الاشارة الی تعلیقاته علی شرح اللمعة.
الفاضل الهندی (م ۱۱۳۷).
وکتابه المعروف فی الفقه «کشف اللثام» فی «شرح القواعد» للعلّامة الحلّی. وکان هذا الکتاب مورد اعتماد صاحب الجواهر کثیراً، حیث قیل انّه لو لم یکن عند صاحب الجواهر هذا الکتاب فانه لا یکتب الجواهر.
لقد ادّت
الحرکة الاخباریة الی جمود
النشاط الاجتهادی فی الفقه، والتحرک باتجاه الاخبار والاحادیث، وقد خلّفت هذه الحرکة آثاراً سلبیة وایجابیة ایضاً.
ترتبت على الحرکة الاخباریة مجموعة من الآثار السلبية منها:
انّ حرکة الاخباریین وظهور الظاهرة الاخباریة فی
فقه الامامیة جعلت العلماء الاخباریین یتحرّکون علی مستوی توجیه النقد الشدید للمجتهدین الاصولیین. حیث یعتقد العلماء الاخباریّون انّ العلماء الاصولیین لا شیء لدیهم من انفسهم بل یقتاتون علی مائدة الآخرین، ومن جهة اخری فانّ الاصولیین یتّهمون الاخباریین بالجمود والتحجّر. وهذا بنفسه ادّی الی الفرقة والتشتّت بین
فقهاء الامامیة.
فالحرکة الاخباریة مع ظهور بعضالمسائل مهدّت الارضیة لنزاعات وسجالات واسعة، مثلًا مسالة التدخین التی تعدّ مسالة مستحدثة ولمیکن لها وجود فی السابق، فقد صارت مورداً للجدل والنزاع بین الاخباریین والاصولیین، الی حدّ انّ مسالة تحریم شرب التبغ «التدخین» صارت شعاراً للاخباریین، کما انّ جواز التدخین صار شعاراً للاصولیین.
الموقف السلبیّ من الادلّة العقلیة فی مجال استنباط المسائل الفقهیة.
ونظراً الی انّ مرجع الاستنباط الوحید لدی الاخباریین هو الکتاب والسنّة حیث لا اعتبار للعقل و
الاصول العقلیة عندهم، ولذلک لم یکونوا یهتمّون باصول الفقه، ولم یؤلَّف کتاب مستقلّ فی هذه الفترة فی علم الاصول سوی کتاب «الوافیة» للفاضل التونی، وتدور تالیفات العلماء غالباً حول محور «زبدة الاصول» للشیخ البهائی حیث کتبوا علیها شروحاً وتعلیقات کثیرة.
ترتبت على الحرکة الاخباریة مجموعة من الآثار الإيجابية منها:
بعد تدوین الکتب الاربعة التی تعتبر المرجع الروائی لدی الفقهاء فانّه لم تدوّن موسوعة روائیة بعد ذلک، ولکنّ الاخباریین الذین کانوا یهتمّون کثیراً بالاخبار والاحادیث اقدموا فی هذه المرحلة علی تدوین جوامع حدیثیة، ومن جملة تالیفاتهم فی هذه الفترة:
وسائل الشیعة،
الوافی و
بحار الانوار.
ومن هذا النوع من التفاسیر فی هذا العصر یمکن الاشارة الی تفسیر «
البرهان فی تفسیر القرآن» تالیف
السیّدهاشم البحرانی (م ۱۱۰۷) وتفسیر «
نورالثقلین» تالیف
الشیخ عبدعلی العروسیّ الحویزیّ من علماء القرن الحادی عشر.
وتبدا هذه المرحلة من اواخر القرن الثانی عشر الی ۱۲۶۰ ه. بالرغم من استمرار جماعة من العلماء الاصولیین فی حرکتهم وسعیهم فی عصر شیوع الفکر الاخباریّ ولکنّ الفکر الاخباریّ کان مسیطراً علی الثقافة الشیعیة بحیث انّه لمیسمح لرشد ونموّ افکار المجتهدین الاُصولیین.
وقد ظهر فی اواخر سلطة الاخباریین، الذین سلک علماؤهم طریق الاعتدال فی هذه المدّة، عالم محقّق ومتعمّق هو العلّامة الوحید البهبهانی (م ۱۲۰۶) وتصدّی للفکر الاخباریّ، وقد قدم من
النجف الاشرف الی کربلاء التی تعدّ مرکز الاخباریین الذین یتزعّمهم المرحوم
الشیخ یوسف البحرانی مؤلف کتاب «الحدائق الناضرة».
وقد تحرّک
المحقّق البهبهانی علی مستوی نقد مبانی الاخباریین وتقویة مبانی المجتهدین الاصولیین. وکان العراق، وخاصّة مدینتی کربلاء والنجف، مرکز الاخباریین، ومع ظهور النهضة الفکریة والعلمیة للمحقّق البهبهانی فرغت الساحة من وجود هؤلاء الاخباریین.
هنا نستعرض اهم الاجوبة الدقیقة والعلمیة للعلّامة البهبهانی علی مبانی الاخباریین:
۱. یعتقد الاخباریون انّ العمل بظواهر القرآن هو من التفسیر بالرای (الّا ما ورد تفسیره بواسطة المعصومین علیهم السلام) ومن هنا فهو مشمول للروایات الناهیة عن التفسیر بالرای.
ویجیب المحقّق البهبهانی انّ التمسّک بظواهر القرآن بعد الفحص عن المخصّص والمقیّد والناسخ وامثال ذلک ممّا ورد عن المعصومین (علیهمالسّلام) هو فی الحقیقة عمل بالقرآن، ویعدّ من جملة التدبر، فی القرآن، وهذه المسالة تختلف عن التفسیر بالرای اختلافاً فاحشاً، لانّ ظواهر الالفاظ حجّة فی عرف المتشرّعة.
۲. ویری الاخباریون انّ الکتاب والسنّة هما الحجّة فقط فی مقام استنباط الاحکام، ویعتقدون بانّ العقل لادور له اطلاقاً فی استنباط الاحکام الشرعیة لانّه قد ورد فی الروایات «انّ دِینَ اللَّهِ لا یُصابُ بالعُقولِ».
وقد کتب المحقّق البهبهانی فی هذا المجال رسالة فی الحسن والقبح العقلیین واثبت فیها
حجّة العقل فی
المستقلّات العقلیة، واوضح انّ تلک الروایات هی فی الواقع ناظرة للاحکام الظنّیة للعقل من قبیل:
القیاس و
الاستحسان وامثال ذلک. والّا فانّه فی الاحکام القطعیّة للعقل التی لا یشکّ فیها ایّ انسان ذی فطرة سلیمة، فانّ حکم العقل فیها حجّة من قبیل «قبح العقاب بلا بیان» او «الاشتغال الیقینی یقتضی الفراغ والبراءة الیقینیة» ونظیر ذلک، وقد ورد فی روایات المعصومین (علیهمالسّلام) التاکید علی حجّیة العقل ایضاً.
۳. انّ الاخباریین لا یرون
حجّیة الاجماع فی عملیة استنباط الاحکام، ویعتقدون بانّ الاجماع هو دلیل لدی علماء اهل السنّة لا فی عقیدة علماء
الشیعة، وقد اوضح المحقّق البهبهانی انّ الاجماع مشترک لفظیّ بیننا وبین علماء اهل السنّة، والّا فانّ الاجماع الذی نعتقد بحجّیته یختلف اختلافاً جوهریاً عن الاجماع الذی یعتقد به اهل السنّة.انّ اهل السنّة یرون الاجماع حجّة فی نفسه، ولکنّ علماء اهل البیت (علیهمالسّلام) یعتقدون انّ الاجماع طریق لتحصیل قول ونظر المعصوم علیه السلام. وقد ذکرت شروط تحصیل نظر المعصوم بواسطة الاجماع فی علم الاصول.
۴. ویعتقد الاخباریون انّ جمیع الاحادیث الواردة عن المعصومین (علیهمالسّلام) فی الکتب المعروفة والمعتبرة کالکتب الاربعة، قطعیّة ولا تحتاج الی علم الرجال للتحقیق فی اسنادها. وقد ردّ
المحقّق البهبهانی هذا المبنی ایضاً فی رسالة «الاجتهاد والاخبار» واثبت الحاجة لعلم الرجال، مضافاً الی ذلک، فقد فتح البهبهانی بما وضعه من ابداع فی علم الاصول، فصلًا جدیداً فی هذا العلم حیث ادّی الی تقویة ونمو هذا العلم.
هذا وقد قام العلّامة الوحید البهبهانی، مضافاً للردّ علی مبانی الاخباریین ونقدها، بتربیة تلامیذ کبار وتقدیمهم للمجتمع الاسلامیّ وقد تحرّکوا بعد وفاة استاذهم فی سنة ۱۲۰۶ ه، فی الخطّ الفکری لاستاذهم من موقع التحقیق والدقّة والتعمّق، واهم هؤلاء:
۱.
الملّا مهدی النراقی (م ۱۲۰۹) مؤلف کتاب «معتمد الشیعة فی احکام الشریعة».
۲.
السیّد محمّدمهدی بحرالعلوم (م ۱۲۱۲) مؤلّف کتاب «الفوائد الرّجالیة».
۳.
الشیخ ابو علیّ الحائری (م ۱۲۱۶) مؤلّف کتاب «منتهی المقال».
۴.
الشیخ جعفر کاشف الغطاء (م ۱۲۲۷) مؤلّف کتاب «کشف الغطاء».
۵.
المیرزا ابو القاسم القمّی (م ۱۲۳۱) مؤلّف کتاب «غنائم الایّام» و «جامع الشتات».
۶.
السیّد علیّ الطباطبائی (م ۱۲۳۱) الذی قام بتدوین الموسوعة الفقهیة «
ریاض المسائل».
۷.
السیّد جواد العاملی (م ۱۲۲۶) مؤلّف الموسوعة الفقهیة «
مفتاح الکرامة».
وعشرات التلامیذ الآخرین. وهناک طائفة اخری من فقهاء الامامیة الکبار هم تلامذة المحقّق البهبهانی بالواسطة، وهؤلاء ایضاً من اتباع مدرسة ذلک الفقیه الکبیر، مثل:
۱.
الملّا احمد النراقی (م ۱۲۴۵) مؤلف کتاب «مستند الشیعة».
۲.
الشیخ محمّد حسن النجفی (المعروف بصاحب الجواهر) (م ۱۲۶۶) مؤلف الموسوعة الفقهیة العظیمة المنقطعة النظیر «
جواهر الکلام» فی ۴۳ جزءاً.
انّ اهمّ خصائص ومعطیات هذه المرحلة الفقهیة کالتالی:
۱. خلق نشاط ورغبة للدراسات الفقهیة وکسر حاجز الجمود والتحجّر، والعودة الی العقل فی میدان الاستدلال والاستنباط الفقهیّ.
۲. انتهاء سیطرة الفکر الاخباریّ بحیث انّه لم یبق منهم فی الحوزات العلمیة الشیعیة سوی عدد قلیل، وقد تحرّک زعیمهم فی ذلک العصر الشیخ یوسف البحرانی علی مستوی التقرّب تدریجیاً من الاصولیین وترک الدفاع عن المذهب الاخباریّ، وقد اعترف بذلک فی المقدّمة الثانیة عشر من کتاب: «الحدائق الناضرة».
۳. تالیف الموسوعات الاصولیة والفقهیة. ففی علم الاصول قام المرحوم
المیرزا القمّی بتدوین «
قوانین الاصول» وکذلک الّف السیّد ابراهیم القزوینی (م ۱۲۶۴) کتاب «ضوابط الاصول» والّف الشیخ
محمّد ابراهیم الکلباسی (م ۱۲۶۱) کتاب «اشارات الاصول». وفی الفقه ایضاً تمّ تدوین موسوعات مهمّة وقیمة، وقد تقدم ذکر اسمائها.
۴. ظهور ابداعات مهمّة ومؤثّرة فی علم الاصول علی ید العلّامة الوحید البهبهانی حیث خلق تحوّلًا فی مسار علم الاصول والفقه.
وتبدا هذه المرحلة من منتصف القرن الثالث عشر، وتتمثّل فی استمرار عملیة الحرکة الجدیدة والابداع الفقهیّ للمحقّق البهبهانیّ حیث ساعد علی ظهور حرکة علمیة جدیدة مع ابداع اسلوب جدید ومناهج جدیدة فی الفقه والاصول.
انّ رائد هذه الحرکة البدیعة فی الفقه والاصول هو الشیخ مرتضی الانصاری (م ۱۲۸۱)
وقد تتلمذ علی ید فقهاء عظام کالسیّد محمّد بن السیّد علیّ (المعروف بالسیّد المجاهد) (م ۱۲۴۳) مؤلّف کتاب «المناهل فی الفقه»
وشریف العلماء المازندرانی (م ۱۲۴۵)
والملّا احمد النراقی (م ۱۲۴۵) والشیخ علی بن الشیخ جعفر کاشف الغطاء (م ۱۲۵۴) و الشیخ محمّد حسن النجفی (صاحب الجواهر) (م ۱۲۶۶).
وبعد رحیل
صاحبالجواهر، انتقلت المرجعیة العامة للشیعة الی
الشیخ مرتضی الانصاری الذی تصدّی لزعامة الحوزات العلمیة ومرجعیة الشیعة مدّة ۱۵ سنة.وقد الّف الشیخ الانصاری کتابه الاصولی المعروف «الفرائد» وهو المشهور ب «
الرسائل» ویعدّ من الکتب الدراسیة فی الحوزات العلمیة الشیعیة منذ اکثر من قرن کامل، وقد عرض فیه ابداعات اصولیة کثیرة، امّا فی الفقه فقد کتب کتابه القیّم «
المکاسب» الذی یعتبر ایضاً من الکتب الدراسیة فی الحوزات العلمیة. وهذا الکتاب یبحث فی احکام المکاسب المحرّمة، احکام البیع والشراء، احکام الخیارات، الشرط الشرعی وغیر الشرعی، واحکام القبض والنقد والنسیئة. وقد ضمّنه مناهج وابداعات جدیدة فی استنباط الاحکام الفقهیة.
ربّت مدرسة
الشیخ الانصاری علماء مقتدرین وقدّمتهم للعالم الاسلامیّ، ومن مشاهیرهم:
۱.
السیّد حسین الکوه کمری (م ۱۲۹۹).
۲.
المیرزا محمّد حسن الشیرازی (م ۱۳۱۲).
وهو من اشهر تلامذة
الشیخ الانصاری الذی تزعّم مرجعیة الشیعة بعد رحیل الشیخ، وبعد حدوث بعض المشاکل فی النجف، انتقل الی سامراء واسس حوزة علمیة کبیرة هناک.
۳.
المیرزا حبیباللَّه الرشتی (م ۱۳۱۲).
۴.
الشیخ محمّد حسن الآشتیانی (م ۱۳۱۹).
۵.
الشیخ محمّدرضا الهمدانی (م ۱۳۲۲)؛ صاحب کتاب «مصباح الفقیه».
۶.
الشیخ محمّد کاظم الخراسانی (م ۱۳۲۹).
وقد اشترک
الآخوند الخراسانی بعد وروده الی
النجف بدروس
الشیخ الانصاری، وبعده حضر فی دروس
المیرزا الشیرازی، ویعتبر
الآخوند الخراسانی من کبار علماء الشیعة، فقد استفاد من الافکار والآراء السامیة للشیخ الانصاری واضاف الیها ابداعات ونظریات جدیدة فی «اصول الفقه».ویعدّ
الآخوند الخراسانی من الاساتذة الماهرین حیث کان یحضر درسه اکثر من الف شخص، ویعتبر کتابه الاصولیّ «
کفایة الاصول» من الکتب الدراسیة فی السطوح العالیة فی الحوزات العلمیة منذ مدّة قرن تقریباً.
وکان لمدرسة الشیخ الانصاریّ بما خلقته من تیّار فکریّ وخطّ علمیّ، ثمرات وبرکات کثیرة، فمضافاً لتلامیذ هذه المدرسة المباشرین، فانّ طائفة من العلماء والفقهاء المعروفین قد تربّوا فی هذه المدرسة واستفادوا فی علومهم من تلامذة الشیخ الانصاری.
لقد ظهر فقهاء کبار فی هذا العصر تتلمذوا فی مدرسة الشیخ الانصاری، وکانت لهم آثار وبرکات وابداعات کثیرة، بل انّ بعضهم کان صاحب مدرسة ومنهج علمیّ فی حرکة الفقه الاسلامی، ومن هؤلاء:
۱. السیّد محمّدکاظم الیزدی (م ۱۳۳۷) صاحب الکتاب المعروف «العروة الوثقی» وکان من المراجع الکبار فی عصره.
۲. الشیخ عبدالکریم الحائری (م ۱۳۵۵) مؤسّس الحوزة العلمیة الجدیدة فی قمّ، وقد ربّی بدوره تلامذة وعلماء کبار مثل: الامام الخمینی؛ آیةاللَّه الکلبایکانی وآیة اللَّه الاراکی قدس سرهم.
۳. المیرزا محمّد حسین النائینی (م ۱۳۵۵) الذی قدّم آثاراً ومصنّفات کثیرة للمجتمع الاسلامی ومدرسة اهل البیت علیهم السلام. والکثیر من آثاره قد کتبها تلامذته منها: «فوائد الاصول» بقلم الشیخ محمّد علی الکاظمی (م ۱۳۶۵). - «منیة الطالب فی احکام المکاسب»، بقلم الشیخ موسی الخوانساری (م ۱۳۶۵). - «اجود التقریرات»، بقلم الفقیه المقتدر آیة اللَّه الخوئی (م ۱۴۱۳).
۴. الشیخ ضیاء الدین العراقی (م ۱۳۶۱) الذی ربّی بدوره تلامذة کبار مثل آیة اللَّه السیّد محسن الحکیم (م ۱۳۹۰).
۵. الشیخ محمّد حسین الاصفهانی (م ۱۳۶۱).
وقد کان الاصفهانی ایضاً من طلّاب المرحوم الآخوند الخراسانی، وقد ربّی تلامذة بارزین منهم:
ا)
الشیخ محمّد رضا المظفر (م ۱۳۸۴) مؤلّف کتاب «اصول الفقه» (المعروف باصول المظفر) وهو من الکتب الدراسیة فی الحوزات العلمیة الشیعیة.
ب) آیة اللَّه
السیّد محمّدهادی المیلانی (م ۱۳۹۴) الذی کان مرجعاً وزعیماً للمسلمین فی منطقة خراسان.
ج) العلّامة
السیّد محمّد حسین الطباطبائی (م ۱۴۰۱) صاحب التفسیر المعروف والمشهور «
المیزان فی تفسیر القرآن» المطبوع فی ۲۰ جزءاً.
۶. آیة اللَّه
السیّد ابو الحسن الاصفهانی (م ۱۳۶۵). وله کتاب «وسیلة النجاة» الذی یمثّل دورة فقهیة یشمل جمیع ابواب الفقه، سوی القضاء والشهادات والحدود والدیات.
۷. آیة اللَّه السیّد حسین البروجردی (م ۱۳۸۰).
وقد جاء آیة اللَّه
السیّد حسین البروجردی فی عام ۱۳۶۴ ه. ق الی مدینة قم واستلم زعامة الحوزات العلمیة ومرجعیة الشیعة فی ذلک الوقت وقد استمرت من المباحث العلمیة تمّ تنظیمها وعرضها بشکل خاص، وکنموذج بارز لذلک ما نراه فی اعمال وآثار الشیخ الانصاری والآخوند الخراسانی.وتقسّم المسائل الاصولیة فی هذه المرحلة الی: مباحث الالفاظ والمباحث العقلیة، وتبحث المباحث العقلیة بشکل مفصّل وواسع مع ابداعات مهمّة لم تکن فی السابق.
فی هذه المرحلة تمّ عرض الابواب الفقهیة بشکل جدید وبآفاق واسعة، حیث یمکن الاشارة فی هذا المجال لبحوث
الشیخ الانصاری الواسعة فی الفقه، والمحقّق الهمدانی فی «مصباح الفقیه».
بالرغم من انّ الفقه یتضمّن ابواباً عدیدة، کالعبادات والعقود والایقاعات والسیاسات؛ الّاانّ فقهاء هذا العصر، قد رکّزوا اکثر اهتماماتهم فی مورد العبادات والعقود. وهذا ما نراه فی کتاب «المکاسب» للشیخ الانصاری (فی قسم المعاملات) و «مصباح الفقیه» للمحقّق الهمدانی و «العروة الوثقی» لآیة اللَّه
السیّد محمّد کاظم الیزدی (ویبحث فی الاصل حول العبادات) وغیر ذلک، ویتمیّز فقهاء هذه المرحلة بانّ لهم تالیفات فی احد هذین البابین او کلیهما.
بالرغم من انّ «التقریرات» تشبه «الامالی» التی کانت سائدة بین القدماء من العلماء، حیث یملی الاستاذ دروسه علی تلامیذه الذین یکتبون الدرس، ولکن مع فارق بینهما:
ا) انّ امالی الاستاذ کانت فی السابق تنشر باسم الاستاذ نفسه دون ان یکون هناک ذکر لاسم التلمیذ الکاتب، من قبیل «الامالی» للشیخ الصدوق و «الامالی» للشیخ المفید؛ ولکن فی هذا العصر، فانّ تقریرات الاساتذة تنشر باسم طلّابهم وتلامیذهم، مع ذکر اسم الاستاذ ایضاً، مثل «
اجود التقریرات» وهو مجموعة دروس لآیة اللَّه النائینی، حیث طبع باسم تلمیذه آیة اللَّه الخوئی، وهکذا عشرات التقریرات الاخری.
ب) فی «الامالی» فانّ الالفاظ والعبارات هی عبارات الاستاذ نفسه ویقوم التلمیذ بکتابة النصّ الذی املاه علیه استاذه وینشر بالتالی باسم الاستاذ، ولکن فی التقریرات فانّ مضمون الکتاب من الاستاذ، ولکنّ التلامیذ هم الذین یصوغون هذا المضمون بعباراتهم والفاظهم ویقومون بتبویب الکتاب بما یناسب ذوقهم وقریحتهم.
بالرغم من وجود رسائل للفتاوی بین الفقهاء القدماء لمراجعة المقلِّدین وعملهم بها، فانّ بعضاً من هذه الرسائل تمّ تالیفه تحت عنوان «المسائل» من قبیل: «المسائل الجیلانیّة» و «المسائل الرجبیّة» للشیخ الطوسی و «الجامع العبّاسی» للشیخ البهائی و «نجاة العباد فی یوم المعاد» لصاحب الجواهر؛ ولکن علی ایّة حال فانّ هذه الکتب کانت بحدود معیّنة ومختصرة، واحیاناً تخصّصیّة فی مضمونها وغیر قابلة للاستفادة من قِبل عامّة الناس. ولکن فی هذه المرحلة فانّ الرسائل العملیة «کتب الفتاوی»، التی تتضمّن جمیع المسائل الفقهیة التی یحتاج الیها الناس، تمّ تالیفها بدون الاشارة لادلّة الفتاوی، ومن جملة هذه الرسائل وکتب الفتوی «العروة الوثقی»، لآیة اللَّه السیّد محمّد کاظم الیزدی، و «وسیلة النجاة»، تالیف آیة اللَّه السیّد ابوالحسن الاصفهانی، و «منهاج الصالحین»، تالیف آیة اللَّه السیّد محسن الحکیم، «تحریر الوسیلة»، للامام الخمینی، و «منهاج الصالحین»، لآیة اللَّه السیّد ابوالقاسم الخوئی و«توضیحالمسائل» لمراجع التقلید المعاصرین.
بالرغم من وضوح العلاقة الوثیقة بین الفقه والحکومة (راجع بحث «رابطة الفقه والحکومة» فی هذا الکتاب) ولکن فقهاء الشیعة وبسبب ابتعادهم عن الحکومة، کانوا یهتمّون فی الغالب بالبحث فی ابواب فقهیة تتّصل بالحالات الشخصیة، وعندما یبحثون احیاناً فی بعض المسائل الحکومیة فهو من قبیل الاستطراد وبمنظار «فردی» فکان جلّ اهتمامهم وعنایتهم منصبّة فی دائرة سلوکیات وتصرفات المکلّف الشخصیة والفردیة.
یقول الشهید
السیّد محمّدباقر الصدر: «هذا العزل
السیاسیّ ادّی تدریجاً الی تقلیص نطاق الهدف الذی تعمل حرکة الاجتهاد عند
الشیعة لحسابه، وتعمّق علی مرّ الزمن شعورها بانّ مجالها الوحید الذی یمکن ان تنعکس علیه فی واقع الحیاة وتستهدفه، هو مجال التطبیق الفردی، وهکذا ارتبط الاجتهاد بصورة
الفرد المسلم فی ذهن الفقیه، لا بصورة
المجتمع المسلم. ولاذکر مثالین من الاصول والفقه تجدون خلالها کیف تسرّبت الفردیة من نظرة الفقیه الی هدفه، الی نظرته للشریعة نفسها:
امّا المثال الاصولی فناخذه من بحوث
دلیل الانسداد الذی یعرض الفکرة القائلة بانّنا ما دمنا نعلم بانّ فی
الشریعة تکالیف ولا یمکننا معرفتها بصورة قطعیة، فیجب ان یکون المتّبع فی معرفتها هو الظنّ... انّ هذه الفکرة یناقشها الاصولیون قائلین: لماذا لا یمکن ان نفترض انّ الواجب علی المکلّف هو الاحتیاط فی کلّ واقعة ادّی التوسّع فی
الاحتیاط الی الحرج فیسمح لکلّ مکلّف بان یقلّل من الاحتیاط بالدرجة التی تؤدّی الی الحرج.
انظروا الی الروح الکامنة فی هذا الافتراض، وکیف سیطرت علی اصحاب النظرة الفردیة الی
الشریعة، فانّ الشریعة انّما یمکن ان تامر بهذا النوع من الاحتیاط، لو کانت تشریعاً للفرد فحسب، وامّا حیث تکون تشریعاً للجماعة واساساً لتنظیم حیاتها، فلا یمکن ذلک بشانها لانّ هذا الفرد او ذاک قد یقیم سلوکه کلّه علی اساس الاحتیاط، وامّا الجماعة کلّها فلا یمکن ان تقیم حیاتها وعلاقاتها الاجتماعیة و
الاقتصادیة و
التجاریة و
السیاسیة علی اساس الاحتیاط.
وامّا المثال الفقهیّ فناخذ من الاعتراض الشهیر الذی اثاره الفقهاء حول قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» اذ قالوا: انّ هذه القاعدة تنفی وجود ایّ حکم ضرریّ فی الاسلام، بینما نجد فی الاسلام احکاماً ضرریة کثیرة کتشریع
الدیات و
القصاص و
الضمان والزکاة، فانّ فی تشریع هذه الاحکام اضراراً بالقاتل الذی یکلّف بالدیة وبالقصاص واضراراً بالشخص الذی یتلف مال غیره اذ یکلّف بضمانه، واضراراً بصاحب المال الذی یکلّف بدفع الزکاة.
انّ هذا الاعتراض یقوم علی اساس
النظرة الفردیة الی
التشریع، فانّ هذه النظرة هی التی اتاحت لهم ان یعتبروا هذه الاحکام ضرریّة، بینما لا یمکن ان تعتبر هذه
الاحکام ضرریة فی شریعة تفکّر فی الفرد بوصفه حرّاً من جماعة ومتربطاً بمصالحها، بل انّ خلوّ الشریعة من تشریع الضمان والضرائب یعتبر امراً ضرریاً».
ونقرا فی کتاب «
القواعد الفقهیة»
لآیة اللَّه مکارم الشیرازی ایضاً: «نمنع ان تکون هذه الاحکام کلّها او جلّها ضرریة بنظر العرف والعقلاء، فانّ اشباهها او ما یقرب منها متداولة ومعروفة بینهم، یحکمون بها ویرونها حقّاً نافعاً لا ضارّاً باطلًا، فانّهم لا یزالون یحکمون بلزوم بذل الخراج والعشور، وانّ فیها صلاح المجتمع الذی یقوم صلاح الافراد بصلاحه، ولا تنحفظ منافعهم الّا به.
وقد استدلّ امیرالمؤمنین (علیهالسّلام) بهذا الارتکاز العقلائی فی عهده المعروف الی مالک الاشتر، حیث قال: «فَانَّ الجُنودَ حُصونُ الرَّعِیَّةِ وَزَیْنُ الوُلاةِ وعِزُّ المُسْلِمینَ وَسُبُلُ الامْنِ» . ومن هذا المنطلق، ای فیما تعکسه المسائل الفقهیة من قضایا اجتماعیة، اجاب الامام الخمینی قدس سره عن سؤال مدیر شوری صیانة الدستور فی وقته، فقد ذکر الامام الراحل فی رسالته الجوابیة ما یلی:«لو فرضنا انّ المعادن والنفط والغاز کانت واقعة فی اراضٍ مملوکة لاشخاص (وهو فرض غیر واقعیّ) فانّ هذه المعادن فی الحقیقة تعود ملکیتها الی الشعوب فی الحال الحاضر والمستقبل وعلی امتداد الزمان ولذلک فهی خارجة عن تبعیة الاملاک الشخصیة، و
الحکومة الاسلامیة بامکانها استخراج هذه المعادن، ولکن یجب علیها دفع قیمة الاراضی التی تعود ملکیتها للاشخاص او تستاجرها منهم لیجوز لها التصرّف، حالها حال سائر الاراضی الاخری، بدون حساب
المعادن فی
الثمن او الاجرة، ولا یحقّ للمالک منع الحکومة من ذلک».
والملاحظة الاخری التی قلّما تکون مورد النظر والاهتمام فی مباحث الفقهاء، ما یتّصل باصل «
العدالة الاجتماعیة» فی فتاواهم.یقول
الشهید مرتضی المطهّری قدس سره فی هذه المجال: «انّ اصل
العدالة الاجتماعیة- مع اهمیته الکبیرة- وقع مغفولًا عنه فی فقهنا، فی حین انّ الآیات الشریفة مثل: «وَبِالْوَالِدَیْنِ اِحْسَاناً» و «اَوْفُوا بِالْعُقُودِ» تمثّل عمومات فقهیة للمسلمین، وبالرغم من شدّة تاکید
القرآن الکریم علی مسالة العدالة الاجتماعیة، فمع ذلک لم تستنبط قاعدة واحدة واصل عام فی الفقه فیما یتّصل بهذا الموضوع، وقد ادیّ هذا الی ضعف
التفکیر الاجتماعی لدی فقهائنا».
وبالرغم من تشکیل
الحکومة الشیعیة (لا حکومة المذهب الشیعی) فی
ایران فی زمن
الصفویین، وازدیاد اهتمام
فقهاء الشیعة بالمسائل
الحکومیة والسیاسیة فی
الاسلام، ولکن مع فتور العلاقة بین الحکّام والفقهاء، فانّ توجّه واهتمام الفقهاء انصرف مرّة اخری للمسائل الفردیة والعبادیة، ولکن ورود الاستعمار الغربی بوجهین جدیدین وفّر مجالات جدیدة لاهتمام الفقهاء بهذا الجانب، وهذان الوجهان للاستعمار اللذان سببا فی تحرّک الفقهاء نحو المیدان الاجتماعی عبارة عن:
۱. سعی المستعمرین للاستیلاء علی البلدان الاسلامیة.
۲. سعی الاستعمار الجدید للسیطرة الثقافیة والاقتصادیة والسیاسیة علی المسلمین باسالیب جدیدة ومن خلال الایادی والعملاء الداخلیین.
ففی المجال الاوّل فانّ حضور
المستعمرین فی
ایران و
العراق ادّی الی تصدّی
فقهاء الشیعة لهؤلاء المستعمرین، وکان ذلک عاملًا مهمّاً لتدخّل فقهاء
الشیعة فی
المجالات الاجتماعیة واصدار فتاوی تاریخیة فی هذا الشان، او التدخّل المباشر فی میدان
الجهاد ومواجهة المستعمرین.
ومن ذلک یمکن الاشارة الی فتوی آیة اللَّه
المیرزا محمّد تقی الشیرازی (م ۱۳۳۸) بالجهاد ضد
الاستعمار البریطانی ومشارکته مع فقهاء آخرین فی الجهاد ضدّ بریطانیا.
وفی المجال الثانی ایضاً یمکن الاشارة الی فتوی
المیرزا الشیرازی الکبیر (م ۱۳۱۲) بتحریم التدخین، لغرض ابعاد بریطانیا عن ایران، وکذلک مساعدة الآخوند الخراسانی (م ۱۳۲۹) والمیرزا النائینی (م ۱۳۵۵) للنهضة الدستوریة فی ایران، ومخالفتهم للاستبداد القاجاری، ویعدّ الکتاب «تنبیه الامة وتنزیه الملّة» للمیرزا النائینی الذی یقرّر ضرورة النهضة الدستوریة، علامة فارقة فی هذا المجال.
ویقع
الامام الخمینی قدس سره فی آخر حلقة من سلسلة هؤلاء الفقهاء حیث طرح مشروع
الحکومة الاسلامیة و
نظریة ولایة الفقیه، وبذلک شرع فی التصدّی للاستبداد الداخلی و
الاستعمار الخارجی، وادّت حرکته هذه الی اسقاط
النظام الملکّی فی ایران وتشکیل الحکومة الاسلامیة.
علی ایّة حال، فقد ولدت مواجهات هذه السلسلة من
فقهاء الشیعة لکلا وجهی الاستعمار واصطدام
الثقافة الاسلامیة مع
التمدّن الغربی، مساحات وسجالات جدیدة فی مجالات اجتماعیة وسیاسیة مختلفة، وخاصّة مع طرح مسائل جدیدة والقاء شبهات من قِبل المثقّفین المرتبطین فکریاً بعلماء الغرب، وفی مجال
الفقه ایضاً ظهرت رؤی جدیدة للمسائل الفقهیة بین الفقهاء، وبالتالی شهد الفقه تحوّلات جدیدة وعمیقة فی مجال
الاقتصاد والسیاسة والاحوال الشخصیة وامثال ذلک.
ومن الموارد التی افرزتها التحوّلات الجدیدة هو ما یتّصل بموضوع الحکومة الاسلامیة، ولایة الفقیه، الدیمقراطیة وحقّ الانتخاب، حکومة الشعب من وجهة نظر دینیة، الضمان الاجتماعی، المصارف، زرع الاعضاء، التلقیح، مصرف الدم، العلاقات الدولیة، حقّ ملکیة الدول بالنسبة للاجواء واعماق الارض والبحار، الملکیة المعنویة فیما یخصّ الاختراعات والاکتشافات، الآثار العلمیة والفنیة وامثال ذلک.
ومع تشکیل الحکومة الاسلامیة فی ایران علی اساس
فقه اهل البیت (علیهمالسّلام) فانّ هذه السلسلة من البحوث والمواضیع الجدیدة والجدّیّة منحت للفقه الشیعی رونقاً خاصّاً ونشاطاً جدیداً.
ویمکن عدّ الفقهاء والعلماء- ک
الامام الخمینی،
الشهید السیّد محمّد باقر الصدر،
العلّامة الطباطبائی، آیة اللَّه
مکارم الشیرازی،
الشهید مرتضی المطهّری- من روّاد واعلام هذه المجالات الفکریة المعاصرة.
انّ کتباً من قبیل «کشف الاسرار» و «ولایة الفقیه» للامام الخمینی، و «اقتصادنا» و «البنک اللاربوی» للشهید السیّد محمّد باقر الصدر، و «
تفسیر المیزان» للعلّامة الطباطبائی، و «
التفسیر الامثل»، و «مجلة مکتب الاسلام»، و «اطروحة الحکومة الاسلامیة» الجزء العاشر من نفحات القرآن لآیة اللَّه ناصر مکارم الشیرازی، و «نظام حقوق المراة فی الاسلام»، «مسالة الحجاب»، و «الاسلام ومقتضیّات الزمان» وغیرها للعلّامة الشهید مرتضی المطهّری، کلّها نماذج بارزة لاهتمام هؤلاء العلماء بالحاجات الاجتماعیة والاجابة عن الشبهات وادخال الفقه الاسلامی والمعارف الدینیة الی میدان المجتمع، وفی هذا الاطار نشهد اهتماماً بالمسائل الجدیدة فیما یتّصل بقضایا المجتمع فی دائرة الفقه.
وبعد انتصار
الثورة الاسلامیة فی ایران وتشکیل الحکومة الاسلامیة، فانّ رؤیة الفقهاء والمفکّرین من
اتباع مدرسة اهل البیت (علیهمالسّلام) تعمّقت فی مجالات
الفقه الاسلامی السیاسی الحکومی، وادّی ذلک لتالیف وتدوین عشرات الکتب فی المجالات والمواضیع
الاجتماعیة و
السیاسیة و
الاقتصادیة.
۱. استبدال النظرة الفردیة بالنظرة الاجتماعیة فی میدان الفقه والتفقّه.
۲. ورود الفقه لمیدان قیادة المجتمع الاسلامی فی مسیرة مواجهة الاستعمار الخارجی والاستبداد الداخلی.
۳. الاهتمام بالمسائل الدنیویة الجدیدة والامور التی نتجت من تلاقح الحضارات وتصادم الثقافة الاسلامیة مع التمدّن الغربی الجدید.
۴. امتداد المسائل الفقهیة الی میادین التقنین وتاثّر المجالس التشریعة والتقنینیة بالفقه الاسلامی وعلم الحقوق الاسلامی.
۵. تدوین الکتب فی مجالات الحکومة والسیاسة والاحوال الشخصیة والاقتصاد.
۶. تدوین الموسوعات الفقهیة بشکل جدید.
انّ الشکل الجدید لتدوین الموسوعات الفقهیة ینطلق من فهرسة جمیع الموضوعات والمسائل الفقهیة علی اساس حروف «الف باء»، ویمکن الاشارة فی هذا المجال الی نماذج من ذلک.
۱. موسوعة الفقه الاسلامی طبقاً لمذهب اهلالبیت علیهم السلام.
۲. الموسوعة الفقهیة المیسّرة.(وقد دوّن علماء اهل السنّة موسوعتین فقهیّتین مهمّتین علی اساس «الف باء» الاولی: موسوعة جمال عبدالناصر حیث صدر منها حتی الآن ۲۰ جزءاً.)(ووصلت الی کلمة «اقتناء» وبعد ذلک توقفت عن العمل، والآخری)
۳. دائرة معارف الفقه المقارن، تحت اشراف آیة اللَّه مکارم الشیرازی.
امّا خصوصیات دائرةالمعارف هذه فهی عبارة عن:
۱. یقوم تدوین هذه الموسوعة علی اساس الفقه المقارن وطبقاً للفتاوی المشهورة لفقهاء الشیعة واهل السنّة.
۲. التوجّه الخاصّ لاحکام المذاهب غیر الاسلامیة، والاحکام الحقوقیة فی العالم المعاصر والقوانین العالمیة.
۳. التوجّه الخاص للمسائل المستحدثة.
۴. ذکر القواعد الفقهیة، الاصولیة، والرجالیة فی مکانها المناسب.
۵. . الاجابة عن الشبهات فی ما یتّصل بالفقه.
۶. الاهتمام البالغ بآیات الاحکام.
۷. التوجّه الخاص لفلسفة الاحکام (فی کلّ باب یمکن التوصّل الیه).
والجدیر بالذکر انّ
دائرة المعارف هذه قد دوّنت علی اساس الترتیب السائد والتقلیدی لابواب الفقه ولیست علی شکل (الف باء)، بالرغم من وجود فهرسة الفبائیة للموضوعات فی نهایة کلّ جزء منها، وکذلک فی ختام دائرةالمعارف بشکل جامع، لیتمکن المحقّقون من تحصیل الموضوعات التی یحتاجونها بیسر.
انّ «
موسوعة الفقه الاسلامی المقارن» تدوّن بواسطة جماعة من العلماء الفضلاء تحت اشراف آیة اللَّه مکارم الشیرازی (مدّ ظلّه العالی). بامل ان تکون خطوة اساسیة فی نشر الفقه الاسلامی باسلوب جدید وشامل وجامع، وتکون مورد استفادة المحقّقین والباحثین (وهذا الکتاب هو احد عناصر دائرة المعارف هذه).
هنا نری من الضروریّ التذکیر بهذه النقطة، وهی انّ ورود الفقه فی فضاء الحکومة والمسائل الاجتماعیة المتعلّقة بها لیس بمعنی تسییس الاحکام الدینیة وخضوعها لظاهرة العلمنة، ای ان نتحرّک فی دراسة المسائل الفقهیة من موقع تطبیق الاحکام الشرعیة علی میول الافراد، وخاصّة المتاثّرین بالفکر الغربی، وبذلک یکون الفقه فی المرتبة الاولی سیاسیاً، ثمّ فی المرتبة الثانیة دینیاً واسلامیاً، او بعبارة اخری: انّ الکثیر من الاحکام الفقهیة والشرعیة تتعلّق بالزمان القدیم وینبغی استبدالها بما یتناسب من الاحکام والقوانین المعاصرة.
وللاسف فانّ بعض
العلماء المعاصرین الذین لا یملکون معرفة فقهیة عمیقة تورّطوا فی هذا المنزلق الفکریّ وشکّکوا فی اصالة
الفقه الاسلامی، وقد تنبّه الامام الخمینی قدس سره لمثل هذا الانحراف عن جادّة الفقه الاسلامی الاصیل ولذلک کان یؤکّد علی دراسة الفقه المعاصر علی اساس مبانی الفقه الجواهری (اشارة لکتاب «جواهرالکلام» للمرحوم الشیخ محمّد حسن النجفی رحمه الله) وابقاء الاصول والقواعد الفقهیة المحکمة علی حالها(ورد نص کلام الامام الخمینی قدس سره بهذه الصورة: «انی اعتقد بالفقهالمتداول والاجتهاد الجواهری، و لا اجوز التخلّف عنه» ).
ولا ینبغی التاثّر فی عملیة التفقّه بذوق واستحسان المتاثّرین بالغرب وافکارهم وسیاستهم.
انّ الوظیفة الالهیّة لجمیع فقهاء الاسلام هی حفظ الفقه الاصیل فی هذا العصر وفی ذات الوقت الاجابة عن المسائل المستحدثة ومقتضیات العصر والزمان. وسیاتی توضیح اکثر فی هذا المجال فی بحث دور الزمان والمکان فی الاجتهاد الفقهیّ من هذا الکتاب.
موسوعة الفقه الاسلامي المقارن المأخوذ من عنوان «خصائص فقه أهل البيت عليهم السلام» ج۱، ص۹۵-۱۰۲.