الانصراف
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو ردّ الشيء من حالة إلى حالة أو
إبداله بغيره، استعمله الفقهاء في معناه اللغوي كالانصراف من الصلاة أو الوضوء أو الحج أو أيّ فعل آخر واستعمل في
الأصول إلى
انتقال ذهن السامع إلى أحد مصاديق اللفظ ومعانيه، كما في انصراف لفظ العالم- في الأوساط الدينية- إلى عالم الدين.
الانصراف: هو التحوّل عن الشيء وتركه.
وصرفتُ الرجل عنّي فانصرف.
وصرفت الصبيان: قلبتهم، وصرف اللَّه عنك الأذى: قلبه عنك وأزاله. وانصرف: سال في مجرىً، وانصرفت المياه: ذهبت، ومضت.
والصرف: التوبة، يقال: لا يقبل منه صرف ولا عدل، أي
توبة و
فدية .
استعمله الفقهاء في معناه اللغوي كالانصراف من الصلاة أو الوضوء أو الحج أو أيّ فعل آخر، ولا تترتّب عليه عندهم أحكام خاصة، بل يندرج في ضمن الترك أو
الانتهاء أو
الإتمام أو غيرهما، ممّا يراجع في مصطلح: (إتمام، انتهاء،
انقضاء ، تجاوز). نعم، يضاف إلى ذلك المعنى الاصولي للانصراف، وهو
انتقال ذهن السامع إلى أحد مصاديق اللفظ ومعانيه، كما في انصراف لفظ العالم- في الأوساط الدينية- إلى عالم الدين.
لم يتعرّض الفقهاء للانصراف بعنوانه في الأبحاث الفقهية بحيث تكون له خصوصية، وما يمكن ذكره ما يلي:
يستحبّ تلقين الميّت بعد انصراف الناس عنه وبعد دفنه بلا خلاف في ذلك، بل ادّعي عليه
الإجماع . وهو التلقين الثالث بعد موته،
فقد ورد في خبر
جابر بن يزيد عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «ما على أحدكم إذا دفن ميّته وسوّى عليه وانصرف عن قبره أن يتخلّف عند قبره، ثمّ يقول: يا فلان بن فلان، أنت على العهد الذي عهدناك به من شهادة أن لا إله إلّا اللَّه، وأنّ محمّداً
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّ عليّاً
أمير المؤمنين عليه السلام إمامك، وفلان وفلان حتى تأتي على آخرهم؛ فإنّه إذا فعل ذلك قال أحد الملكين لصاحبه: قد كفينا الوصول إليه ومسألتنا إيّاه، فإنّه قد لقّن حجّته، فينصرفان عنه ولا يدخلان إليه».
وليكن
التلقين بأرفع الصوت؛
لقول
الإمام الصادق عليه السلام : «ينبغي أن يتخلّف عند قبر الميّت أولى الناس به بعد انصراف الناس عنه، ويقبض على التراب بكفّيه ويلقّنه برفيع صوته، فإذا فعل ذلك كُفي الميّت المسألة في قبره».
يبحث الاصوليون الانصراف بمناسبة بحثهم
الإطلاق والتقييد، وأهمّ ما يذكرونه هناك ما يلي:
من المعروف عند الاصوليين أنّه عندما يطلق المتكلّم كلامه ولا يقيّده بقيد- مع قدرته على التقييد وكونه في مقام البيان من هذه الجهة التي نلاحظ عدم ذكره للقيد فيها- يؤخذ بإطلاق كلامه ويحكم وفقه، وتسمّى هذه الشروط، أي عدم ذكر القيد، وكونه في مقام البيان، وقدرته على التقييد- بمقدّمات الحكمة.
وعند حديثهم عن عدم ذكر المتكلّم للقيد ذكر بعض الاصوليين أنّ انصراف اللفظ المطلق إلى بعض مصاديقه كالانصراف إلى بيض الدجاج عند إطلاق كلمة (بيض)، يمنع من التمسّك بالإطلاق، حتى لو كانت مقدّمات الحكمة متوفّرة فيه.
لكن هناك من رفض أن يكون هذا الكلام صحيحاً على إطلاقه مؤكّداً أنّه إنّما يصحّ إذا كان الانصراف ناشئاً من ظهور اللفظ في المقيّد؛ بمعنى انصرافه إليه لكثرة استعماله فيه وشيوع إرادته منه، فيكون بذلك كالمقيّد بالتقييد اللفظي، ومعه لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق، بعد كونه في قوّة ذكر القيد، فيختلّ بذلك أحد أركان مقدّمات الحكمة، ومعه فلا يتمسّك بالإطلاق؛ لكون مرجعه إلى
أصالة الظهور .
وأمّا إذا كان الانصراف غير ناشئ من اللفظ، بل من أسباب اخرى- كغلبة وجود المنصرف إليه أو تعارف الممارسة الخارجية له- فيكون لذلك مألوفاً قريباً إلى الذهن من دون أن يكون للفظ تأثير في هذا الانصراف، كما في انصراف الماء في العراق- مثلًا- إلى ماء دجلة أو الفرات، فإنّه لا
أثر لهذا الانصراف في المنع من انعقاد الإطلاق؛ لأنّ هذا الانصراف قد يجتمع مع القطع بعدم
إرادة المقيّد بخصوصه من اللفظ، فالانصراف في هذه الحالة دوريّ غير مستقرّ يزول بمجرّد التأمل ومراجعة الذهن، في مقابل الانصراف المستقرّ الذي لا يزول بعد التأمل والمراجعة.
لكن المشكلة في صعوبة التمييز بين هذين الانصرافين، فقد يحتاج أحياناً إلى ذوقٍ عال وسليقة مستقيمة؛ إذ قلّما تخلو آية مباركة أو حديث شريف في مسألة فقهية عن دعوى الانصراف فيها، فلابدّ من التضلّع باللغة وفقهها و
آدابها ، وهو باب يكثر
الابتلاء به، وله تأثير كبير في
استنباط الأحكام من أدلّتها، ففي قوله تعالى: «وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»
- مثلًا- قد يدّعى انصراف المسح فيها إلى
باطن اليد لا بظهرها، ولكن قد يشكّ في
استناد هذا الانصراف إلى اللفظ؛
لاحتمال استناده إلى تعارف المسح بباطن الكفّ؛ لسهولته وموافقته لطبع
الإنسان في المسح، وليس له علاقة باللفظ، ولذا أفتى جملة من الفقهاء بجواز المسح بظهر الكفّ أيضاً؛ تمسّكاً بإطلاق الآية، وإن احتاط آخرون بعدم ترك المسح بباطنها فقط؛ لكونه هو
القدر المتيقّن من المسح،
مضافاً إلى احتمال انصراف المسح إليه.
ذكر الاصوليّون أقساماً متعدّدة للانصراف، بعضها بملاك نوعه وقوّته و
استقراره ، وبعضها الآخر بملاك مناشئه المسبّبة له، نحاول فيما يلي التعرّض لها:
ينقسم الانصراف بحسب قوّته وشدّته إلى أقسام:
الأوّل:
الانصراف الخطوري ، وهو ما يخطر في الذهن بسببه بعض أفراد المطلق وأصنافه من دون أن يكون موجباً للشكّ والتردّد أصلًا، كخطور ماء الفرات من لفظ الماء لمن كان في
أطراف الفرات. وهذا الانصراف لا يقيّد الإطلاق؛ للقطع بعدم كون المنصرف إليه مراداً.
الثاني:
الانصراف البدوي الموجب لانصراف الذهن مع الشكّ في إرادة خصوص المنصرف إليه، كالشكّ في
إرادة رجل الدين من كلمة العالم، وهذا الانصراف هو الآخر لا يقيّد المطلق؛ لزواله بالتأمّل.
ويفهم من ظاهر بعض الكلمات عود هذا النوع من الانصراف إلى ما سبقه تحت عنوان واحد وهو الانصراف البدوي.
الثالث:
الانصراف المستقرّ ، وهو الانصراف الذي يستقرّ في الذهن ولا يزول بالتأمل كما لا يعرضه الشك، وهذا هو الانصراف الذي يوجب المنع عن
انعقاد الإطلاق.
ينقسم الانصراف بحسب مناشئه إلى عدّة أقسام، هي:
الأوّل: الانصراف الناشئ عن التشكيك في الماهية في متفاهم العرف بحيث يحكم العرف بخروج الفرد المنصرف عنه عن مصاديق المطلق، كانصراف كلمة (ما لا يؤكل لحمه) عن الإنسان وعدم شموله لها بنظرهم، فتصير كلمة (ما لا يؤكل لحمه) ظاهرة في غير الإنسان؛ ولذا جوّز الفقهاء الصلاة في شعره وظفره.
ولا إشكال في كون هذه الانصراف مقيداً للإطلاق بغير المنصرف عنه؛ لكون المطلق مع هذا
التشكيك كاللفظ المحفوف بالقرينة اللفظية المتّصلة في المنع عن الظهور للمطلق في الإطلاق، وموجب لظهوره في المنصرف إليه.
نعم، لو كان التشكيك في خروج الفرد بالانصراف عن مصاديق المطلق، كانصراف لفظ الماء عن ماء الزاج والنفط، فإنّ هذا الانصراف وإن لم يكن موجباً لظهور اللفظ في المنصرف إليه- كما في الفرض السابق- إلّاأنّه موجب لاحتفاف اللفظ بما يصلح للقرينية، ومعه لا يكون اللفظ ظاهراً في الإطلاق؛
لاشتراطه بعدم
احتفاف الكلام بالقرينة أو بما يصلح للقرينيّة، فيكون الانصراف في هذا الفرض وفي الفرض الذي سبقه مانعاً عن انعقاد الإطلاق، غاية
الأمر أنّ المطلق في الأوّل ظاهر في المنصرف إليه، وفي الثاني مجمل يؤخذ فيه بالمنصرف إليه من باب القدر المتيقّن لا من باب الظهور اللفظي.
القسم الثاني: الانصراف الناشئ عن بلوغ غلبة
الاستعمال في فرد خاص بنفس الحدّ الذي يبلغه المجاز المشهور عند تعارضه مع الحقيقة المرجوحة، فإنّ المجاز هناك محكوم بالتوقّف، والإطلاق هنا محكوم بالتقييد، لفقدان شرط الإطلاق وهو عدم احتفافه بما يصلح للتقييد.
القسم الثالث: الانصراف الناشئ عن بلوغ شيوع المطلق وغلبة استعماله في المنصرف إليه حدّ
الاشتراك بين المعنى الحقيقي الإطلاقي وبين المعنى المنصرف إليه، وهنا ذهب بعضهم إلى عدم حمل المطلق على أحدهما إلّا بالقرينة المعيّنة، فإذا فرض أنّ كلمة (الصعيد) وضعت لمطلق وجه
الأرض ، ثمّ استعملت كثيراً في خصوص التراب الخالص بحيث صار مشتركاً بينهما، فلو قال المولى في هذه الحالة: (تيمّم بالصعيد)، فإنّه لا يحمل على المطلق ولا على المعنى الخاص إلّا بالقرينة.
خلافاً لما ذهب إليه البعض الآخر من حمل اللفظ على المنصرف إليه؛ لتوقّف الإطلاق على عدم ما يصلح للقرينة، وهو شرط مفقود هنا.
القسم الرابع: الانصراف الناشئ عن بلوغ كثرة الاستعمال حدّ النقل ومهجورية المعنى المطلق، وحمل اللفظ على المعنى المنصرف إليه في هذه الصورة أولى من السابقة.
القسم الخامس: الانصراف الناشئ من غلبة الوجود لا الاستعمال، كانصراف لفظ الماء إلى ماء نهرٍ بعينه، وقد سبق أن ذكرنا أنّ هذا الانصراف لا يهدم الإطلاق.
ولابدّ من
الإشارة إلى ما ذكره بعضهم من أنّ في بعض الأقسام المتقدّمة خلاف بين الاصوليّين،
ولعلّه إشارة إلى القسم الثالث منها الذي ذكر أنّ فيه قولين.
الموسوعة الفقهية، ج۱۸، ص۲۴۹-۲۵۳.