بيع العين المستأجرة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
بعد أن كان مقتضى
الإجارة وحكمها الأصلي
تمليك المنفعة لا العين فيمكن اجتماعها مع
البيع في مال واحد وعليه دعوى
الإجماع من غير واحد من الفقهاء؛
لأنّ البيع تمليك للعين
والرقبة ، وهو يجتمع مع تملّك
المنفعة بالإجارة للمستأجر،
فتنتقل العين بالبيع إلى المشتري مسلوبة المنفعة مدة الإجارة مع
بقاء الإجارة للمستأجر على صحتها، ولا دليل على
تبعية المنافع للعين،
وهذا فيما إذا كان البيع من غير المستأجر واضح جداً؛ لأنّه مقتضى القاعدة- كما ذكرنا- وقد دلّت عليه بعض
الروايات الخاصة أيضاً، كمعتبرة
الحسين بن نعيم عن
أبي الحسن موسى عليه السلام، قال: سمعت أبي عليه السلام يقول: «قال
أبو جعفر عليه السلام: لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى، ولكن تبيعه على أنّ الذي اشتراه لا يملك ما اشترى حتى ينقضي السكنى كما شرط، وكذا الإجارة».
والمراد بقوله عليه السلام: «لا يملك» بقرينة صدر الرواية
الاستيلاء الخارجي والتصرف في العين لا الملك الشرعي. وهذا الذي تقدم كلّه واضح لا شبهة فيه، وإنّما البحث والخلاف في جملة من الموارد نشير إليها فيما يلي.
إذا كان بيع العين المستأجرة من المستأجر نفسه فقد وقع البحث عندهم في بقاء الإجارة أو انفساخها، فالمشهور
على عدم الانفساخ.
بل ادعى الإجماع عليه في
الخلاف والتذكرة حيث قال: «إذا آجر عيناً ثمّ باعها على المستأجر صحّ البيع إجماعاً؛ لأنّه عقد بيع صادف ملكاً فصحّ كغيره، ولأنّ ملك الرقبة خالص له، وعقد الإجارة إنّما وردت على المنفعة، فلا يمنع من بيع الرقبة... وإذا ثبت هذا فهل تبطل الإجارة أم لا؟ الحق عندنا أنّها لا تبطل...»،
لكن العلّامة في
الإرشاد استقرب
بطلان الإجارة على إشكال.
واستدلّ للانفساخ بأنّ مقتضى قانون التبعية ملكية المشتري للمنافع أيضاً، فلا يمكن بقاء الإجارة واجتماعها مع البيع في المنفعة، وإلّا لزم اجتماع علّتين على معلول واحد،
وهذا نظير نكاح
ملك اليمين ،
فكما أنّه لا يمكن للمالك معه
نكاح مملوكته بعد طرو الملك وأنّ النكاح ينفسخ بالبيع فكذا في ملك العين، فانّه يمنع عن عروض ملك المنافع وبقاءه.
واورد عليه: بأنّه قياس مع الفارق؛ لأنّ
الزوجية والملك اعتباران متغايران متضادان، فلا يمكن أن يجتمعا بخلاف البيع والإجارة.
وأمّا قانون التبعية فلا موضوع له في المقام بعد أن كانت العين عند البائع مسلوبة المنفعة.
قال
المحقق الثاني : «إنّ ملك العين يقتضي ملك المنافع تبعاً إذا لم يسبق ملكها سبب آخر لا مطلقاً... لأنّ جواز
الانتفاع بالبضع إنّما يكون مع الملك أو العقد، ويمتنع اجتماعهما؛ لظاهر قوله تعالى: «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» والتفصيل قاطع
للشركة ، والنكاح لا يقتضي ملك المنافع بل جواز الانتفاع، وللإجماع على حكم النكاح، بخلاف ما نحن فيه».
ومنه يظهر عدم لزوم اجتماع علّتين على معلول واحد، فإنّ البيع علّة لانتقال العين مسلوبة المنفعة في تلك المدة للمشتري، والإجارة علّة لانتقال المنفعة فيها إليه، فلم يلزم الاجتماع. على أنّ مثل هذه الاستدلالات في باب الأحكام الشرعية الاعتبارية أساساً في غير محلّه.
وقد يقرّب الانفساخ بأنّ عقد الإجارة متقوّم بالتسليط على العين للانتفاع بها دون تملّك الرقبة، ولا تعقل هذه الجهة الاستقلالية لملك المنفعة إلّا إذا كان البيع من غير المستأجر.
ومن هنا احتاط بعض الأعلام
في المقام فحكم بالتصالح بينهما.
إلّا أنّه قد تقدم في شرح حقيقة الإجارة الجواب على ذلك.
ويتفرّع على عدم انفساخ الإجارة بالبيع امور
:
منها: اجتماع
الثمن والاجرة على المستأجر المشتري للعين.
ومنها: بقاء ملك المستأجر للمنفعة لو فسخ البيع بأحد أسبابه.
ومنها: رجوع المستأجر بأُجرة المدة الباقية عند
تلف العين قبل انتهاء مدة الإجارة، وأمّا بناءً على الانفساخ فيرجع بالاجرة من حين البيع.
ومن ثمرات القول بعدم الانفساخ أنّ الزوجة ترث من المنفعة في تلك المدة لو مات زوجها- أي المستأجر- بعد شراء العين وإن كانت مما لا ترث الزوجة منها، بخلاف ما لو قيل بالانفساخ بمجرد البيع.
لو باع العين مسلوبة المنفعة ثمّ اتفق فسخ الإجارة فالمشهور بين الفقهاء
رجوع المنفعة في المدة المتبقية إلى البائع،
لكن في
المستمسك أنّ مقتضى قانون التبعية رجوع المنفعة إلى المشتري لا البائع، نظراً إلى أنّ المنافع إنّما كانت ملكاً للبائع بالتبعية لا بالعقد، والفسخ يقتضي رجوعها إلى مالك العين فعلًا، وهو المشتري بعد فرض انحلال الإجارة.
وقد اورد عليه: بأنّه إن اريد أنّ الفسخ في المقام يوجب رجوع المنفعة إلى ملك المشتري مع خروج عوضه من البائع، فهذا خلف معنى
الفسخ .
ولو اريد أنّه بعد أن تحققت ملكية المنفعة للمؤجر بالفسخ تنتقل منه إلى المشتري بقانون التبعية.
فالجواب عنه: أنّ قانون التبعية يستوجب انتقال المنافع المملوكة لمالك العين حين البيع إلى المشتري، لا المنافع التي ملكها بعد ذلك. بل لو قيل بأنّ الفسخ حلّ العقد من أصله- بحيث لا بد من ترتيب آثار عدم العقد من أوّل الأمر- فإنّه مع ذلك لم يصح الحكم برجوع المنفعة إلى المشتري؛ لأنّ وقوع البيع على العين مسلوبة المنفعة- بلحاظ الإيجار الواقع سابقاً- يكون بحكم استثناء تلك المنفعة في عقد البيع، فلا ينتقل إلى المشتري بقانون التبعية إلّا سائر المنافع حتى مع فرض فساد الإجارة، فضلًا عمّا إذا كانت صحيحة ثمّ فسخت، وهذا هو مقتضى
السيرة العقلائية وسيرة المتشرّعة أيضاً.
لو اعتقد البائع والمشتري بقاء مدة الإجارة إلى زمان معيّن تكون فيه العين مسلوبة المنفعة أو اشترطا سلب المنفعة بناءً على ذلك الاعتقاد ثمّ تبيّن خطأ ذلك الاعتقاد وعدم كونها مسلوبة المنفعة في تلك المدة أو بعضها، فهل يكون ذلك بحكم استثناء تلك المدة بحيث يترتّب على ذلك عدم انتقال المنفعة في تلك المدة إلى المشتري بقانون التبعية أم لا؟
فيه أقوال:
القول بالتفصيل
بين اعتقاد سلب المنفعة وبين اشتراطه.
ففي صورة الاعتقاد يستحق المشتري المنفعة- بحكم تبعيتها للعين في الملكية- ما لم تخرج بعقد سابق عليها، أو شرط المالك خروجها، وكلاهما منتف في المقام.
أمّا في صورة الاشتراط تكون المنفعة في تلك المدة للبائع لخروجها بالشرط والاستثناء حتى مع فرض كون منشأ الاشتراط الاعتقاد خطأً.
وهو ما ذهب إليه جملة من الفقهاء
من رجوع المنفعة إلى المشتري حتى في صورة الاشتراط والاستثناء؛ نظراً إلى أنّ الاشتراط المذكور بمنزلة التوصيف لا الاستثناء،
فإذا تبيّن أنّ العين ليست مسلوبة المنفعة كانت ملكاً للمشتري مع منافعها بمقتضى التبعية، بل في المستمسك: إنّ «محض الاستثناء أيضاً بمنزلة التوصيف لا يقتضي ثبوت المنفعة للبائع، وإنّما الذي يقتضي ذلك انشاء كونها للبائع، لكنه لا يتيسّر ذلك مع اعتقاد أنّها للمستأجر».
ما ذكره بعض المحققين
من الرجوع إلى البائع في كلتا الصورتين؛ لعدم ثبوت دعوى تبعيّة المنافع للعين في الملكية
بآية أو
رواية وإنّما الوجه فيها أنّ المقتضي لملكيّة العين- الذي هو في بادئ الأمر عبارة عن
الاستيلاء والحيازة ونحوهما من الأسباب المملّكة- يستوجب ملكية المنفعة المستتبعة بملاك واحد وبعد ذلك ينتقل إلى غيره، إمّا بسبب اختياري كالبيع أو غير اختياري
كالارث .
هذا فيما إذا كان السبب المزبور مقتضياً للتعميم، وأمّا إذا فرض اختصاصه بالعين وعدم شموله للمنفعة- ولو للاعتقاد خطأً بكون المنفعة للغير- فالملكيّة لم تنشأ من الأوّل إلّا بالاضافة إلى العين خاصّة.
هذا ولكن يمكن أن يقال
: إنّ التبعيّة- خصوصاً في المنافع
والنماءات المتّصلة- ليست بين الملكيتين بل بين المالين، فلا حاجة إلى لحاظ مستقلّ لها، وإنّما استثناؤها بحاجة إلى ذلك بصيغة الاشتراط أو التوصيف، فعلى هذا اعتقاد البائع غلطاً بوجود توابع للعين ومنافع- بعد انشاء التمليك بجميع ما للعين من الشئون والتوابع حقيقةً- لا يوجب التقييد في متعلّق البيع في مقام الانشاء، فيكون نظير تصوّر البائع عدم حمل الحيوان ثمّ يتبيّن بعد البيع الخلاف.
كما أنّ البائع- في فرض الاشتراط- قد لا يريد الاستثناء حقيقة، بل كان يقصد بيان أنّ المنفعة في تلك المدة للغير، فيكون ذلك منه بحكم التوصيف.
ثمّ انّه على تقدير ثبوت المنافع للمشتري فهل يكون الخيار للبائع؟ فيه وجهان
.
لو اتفق
البيع والإيجار في زمان واحد كما إذا باع المالك أو
وكيله العين وآجرها لآخر، فهل يصح البيع والإجارة معاً فينتقل المبيع إلى المشتري مسلوب المنفعة، والمنفعة إلى المستأجر أو يبطلان كذلك؟
أو يصح بيع العين مسلوبة المنفعة في تلك المدة وتبطل الإجارة وتبقى المنفعة في تلك المدة على ملك البائع؟ وجوه، بل أقوال:
ذهب جملة من الأعلام
إلى الأوّل، واختار الثالث بعض المحقّقين.
ومبنى القول
بالبطلان وقوع التزاحم بين
الإيجار والبيع حيث لا يمكن الحكم بصحتهما معاً باعتبار تنافيهما بالنسبة لملك المنفعة.
ومبناهم في القول الأوّل- أي صحتهما معاً- عدم وجود
تزاحم بين العقدين لاختصاص تبعية ملك العين لملك المنفعة بفرض عدم إعمال
السلطنة في نقل المنفعة، وأنّ شأن البيع تمليك العين، كما أنّ شأن الإجارة تمليك المنفعة، فهما في عرض واحد، ولا تزاحم بينهما بما هما كذلك، وإنّما تنشأ المزاحمة من تمليك المنفعة في مورد البيع، وحيث إنّه بمناط التبعيّة فلا جرم يكون بمرتبة متأخّرة من تمليك العين، فتؤثّر الإجارة الواقعة في عرض البيع أثرها، ولا تبقي مجالًا للملكيّة التبعيّة الواقعة في مرتبة متأخّرة.
لكن اورد عليه
:
بأنّ ملكيّة المنفعة- بناءً على التبعيّة- إنّما تكون متأخّرة عن البيع وملكيّة العين رتبةً لا عن الإجارة وتمليك المنفعة، إلّا على القول بأنّ ما مع المتقدم متقدم وما مع المتأخّر متأخّر، وقد ثبت بطلانه في محلّه؛ لأنّه ليس كلّ شيئين تقدّم أحدهما على ثالث لجهة من الجهات يحكم بتقدّم الآخر عليه أيضاً بعد أن كان فاقداً لتلك الجهة.
بأنّا لو سلّمنا تأخّر
تمليك المنفعة في البيع عن الإجارة في المرتبة فانّه لا يجدي في دفع المزاحمة؛ لأنّ ملاك التنافي والتزاحم باجتماع الملكيتين في زمان واحد، سواء كانا في رتبتين أم في رتبة واحدة.
بأنّ سبب ملكيّة المشتري
للمنفعة ليس إلّا إطلاق بيع العين، فلا طولية بين نقل العين والمنفعة، بل هما في عرض واحد، فلو صادف وقوع البيع والإجارة على مال واحد وفي زمان واحد وقع التزاحم بينهما حينئذٍ في نقل المنفعة؛ إذ لا موجب لترجيح إطلاق دليل الصحة في أحد السببين على إطلاقه في الآخر، فيسقطان معاً وتبقى المنفعة مدة الإجارة على ملك البائع؛ لعدم المخرج بعد الابتلاء بالمزاحم، أمّا تمليك العين المجرّدة عن المنفعة فلا مزاحم له، ومن ثمّ يحكم بصحة بيعها وانتقالها إلى المشتري مسلوبة المنفعة.
ولا يقاس المقام بموارد إيجار المالك ماله قبل البيع أو حينه، فانّه يحكم بالاستثناء والتخصيص؛ لكون البيع والإيجار من شخص واحد، فيستكشف أنّ قصده ذلك.
نعم، لو فرض في المقام وجود قرينة حالية على عدم إرادة المالك نقض ما فعله
الوكيل - بمعنى عدم انعقاد الإطلاق للمنفعة بعقد البيع في تلك المدة- كانت الإجارة صحيحة، والعين مبيعة مسلوبة المنفعة.
وبهذا يتضح مبنى القول الثالث، وأنّه مقتضى القاعدة.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۱۱۸-۱۲۵.