تنجيز عقد الإجارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
والمعروف اشتراطه في
الإجارة بل في جميع
العقود .
والتنجيز يراد به تارة ما يقابل
التعليق ، واخرى ما يقابل
الترديد ، وثالثة يراد به ما يقابل اضافة
المنفعة إلى المستقبل، فلا بد من ملاحظة ثلاثة امور يأتي فيما يلي.
اتّفق
الفقهاء على أنّه لا يجوز أن يكون العقد معلّقاً على شيءٍ،
بأن يقصد المتعاقدان انعقاد المعاملة في صورة وجود ذلك الشيء لا في صورة عدمه، فلو علّق عليه العقد بطل. والمتيقّن من
البطلان عندهم ما إذا كان تعليقه على أمر قادم ممّا يكون مشكوك الحصول، وليست صحّة العقد معلّقة عليه في الواقع. أمّا ما كان معلوم الحصول حين العقد أو كانت صحّة العقد معلّقة عليه فالظاهر أنّ التعليق عليه غير قادح.
أمّا ما كان معلوم الحصول في المستقبل وهو المعبّر عنه بالصفة فالظاهر أنّه داخل في معقد اتّفاقهم على عدم الجواز وان كان تعليلهم للمنع باشتراط الجزم لا يجري فيه. فالعمدة في المسألة هو
الإجماع .
وهذا البحث لا يختص بالإجارة بل شرط عام في العقد.
ثمّ إنّ القادح هو تعليق
الإنشاء ، وأمّا إذا أنشأ من غير تعليق صحّ العقد وإن كان المنشئ متردداً في ترتّب الأثر عليه
شرعاً أو عرفاً كمن يُنشئ الإجارة وهو لا يعلم أنّ المال له أو أنّ العين ممّا يصحّ إجارته، أو أنّ المشتري راضٍ حين
الإيجاب أم لا. إلّا أنّ التعليق في الانشاء في مثل هذا لا ضير فيه؛ لأنّه مما يكون صحة العقد متوقفاً عليه في نفسه، فيصح أن يقول: إن كان
المال لي فقد أجرتك.
أمّا الشرط في ضمن العقد فإنّه ليس من التعليق في العقد بل من تعليق
الوفاء بالعقد على الشرط أو الوصف، بمعنى تعليق
الالتزام بالعقد على وجود الوصف خارجاً الراجع إلى جعل
الخيار كما في شرط كون الأجير كاتباً، أو تعليق العقد على الالتزام الذي نتيجته جواز المطالبة والالزام بالوفاء كما في الإجارة بشرط الخياطة أو
قراءة القرآن .
الترديد في الإجارة على صور:
الترديد في الاجرة مع وحدة المنفعة كما إذا قال: (آجرتك الدار بعشرين ديناراً أو أربعين).
والظاهر عدم الخلاف في بطلانه؛ لأنّه- مضافاً إلى لزوم
الغرر والجهالة - يلزم فيه الترديد في العقد؛ لأنّ الفرد المردّد لا وجود له في الخارج؛ إذ الخارجية تساوق التشخّص، ولا يقاس بمورد جعل الجامع بينهما هو الاجرة.
الترديد في المنفعة مع وحدة الاجرة كما إذا قال: (آجرتك هذه الدابة إمّا للحرث أو للركوب بكذا).
والإجارة باطلة في هذه الصورة أيضاً، إلّا أنّه استثنى من ذلك بعضهم ما إذا كان الغرض من الترديد الاستئجار للقدر المشترك،
إلّا أنّ ذلك إنّما يصح إذا كانا متقاربين في المالية واريد الجامع بينهما، وعندئذ يصح في طرف الاجرة أيضاً. وكذا اتفقوا
على البطلان فيما إذا تردّدت العين المستأجرة؛ لاستلزامه الجهل بالمنفعة والتردّد فيها.
ولكن حاول بعض المحققين
حمل كلماتهم على ما إذا كان الاختلاف بين الأعيان موجباً لاختلاف الرغبات المؤدّي طبعاً إلى جهالة المنفعة، أمّا إذا اتحدتا من جميع الجهات فلا بأس بالترديد، ويكون مرجع هذا الإيجار إلى إجارة الكلّي المعيّن لا إيجار الفرد المردّد، وهو خروج عن البحث.
الترديد في
الاجرة والمنفعة معاً بحيث لا تتعيّن اجرة كلّ منفعة، كأن يقول المؤجر: (آجرتك هذه العين أو تلك بكذا أو كذا) فهذه الإجارة باطلة إجماعاً.
الترديد في الاجرة أو المنفعة لكن مع تعيين اجرة كلّ منفعة، كأن يقال: (إن خطته فارسيّاً فلك درهم وإن خطته روميّاً فلك درهمان)، أو يقال: (إن عملت في هذا اليوم فلك درهمان وإن عملت غداً فلك درهم).
وقد اختلفت كلمات الفقهاء وأنظارهم في الصورة الأخيرة:
ذهب
الشيخ في
الخلاف إلى الصحة في كلا المثالين وقال: «إذا استأجره ليخيط له ثوباً بعينه، وقال: إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم صحّ العقد فيهما، فإن خاطه في اليوم الأوّل كان له الدرهم، وإن خاطه في الغد كان له نصف درهم».
لكن قال في
المبسوط : «فإن خاطه في اليوم الأوّل كان له الدرهم، وإن خاطه في الغد كان له
اجرة المثل وهو ما بين الدرهم والنصف الذي سمّى ولا يبلغ الدرهم، وقال قوم: إنّ هذا باطل» إلّا أنّه نسب هذا القول في الخلاف
إلى
أبي حنيفة .
وكذا جماعة من الفقهاء كالمحقق
والعلّامة في
التحرير والشهيد وغيرهم.
ويدلّ عليه- مضافاً إلى
الآية الشريفة في إجارة
موسى عليه السلام
والأخبار الواردة
في مسألة اشتراط نقص الاجرة فيما إذا تأخّر الإيصال عن يوم معيّن- عمومات لزوم الوفاء بالشروط والعقود وصحتها مع عدم مانع في البين.
ذهب
ابن إدريس إلى القول بالبطلان وقال: «الذي يقتضيه اصول مذهبنا أنّ الإجارة باطلة؛ لأنّ الاجرة غير معيّنة ولا مقطوع عليها وقت العقد؛ ولأنّ المستأجر لم يستحق على المؤجر في الحال عملًا بعينه».
وهو صريح كلمات عدة من الفقهاء
كابن سعيد والعلّامة في
المختلف وفخر المحقّقين والمحقق الثاني والشهيد الثاني والمحقق النجفي .
وذهب فقهاؤنا المعاصرين
أيضاً إلى القول بالبطلان في كلا المثالين إذا وقع العقد بعنوان الإجارة المردّدة.
ثمّ تصدّى بعضهم لتصحيح المعاملة بأحد نحوين:
أحدهما: بارجاعها إلى
الجعالة ،
بل قيل
: إنّه الظاهر من المثالين.
ثانيهما: إرجاعها إلى وقوع الإجارة على الأقل مع كون الأكثر على سبيل الاشتراط.
وأنّ ما يمكن أن يستدلّ به على بطلان الإجارة في المقام أحد الوجوه التالية:
الأوّل: الجهالة
في العمل المملوك والاجرة المملوكة، وهي توجب البطلان حتى إذا لم تكن موجبة للغرر.
واورد عليه: أنّه لا جهالة في المقام؛ لأنّ متعلّق كلّ من الإجارتين معلوم، كما أنّ اجرته معلومة كذلك.
هذا مضافاً إلى أنّه لا دليل على مبطليّة مطلق الجهالة ما لم يلزم منها الغرر.
الثاني: عدم تعيّن العمل الواقع عليه العقد
وإبهامه وتردّد ما يستحقه كلّ من المتعاقدين على الآخر، حتى في الواقع؛
لأنّه عبارة عن احدى الخياطتين لا كلتاهما؛ إذ لا يمكن اجتماعهما معاً، وأحدهما المردّد لا وجود له في الخارج؛ لعدم تعيّن له حتى في صقع الواقع ولو بنحو الاشارة الإجمالية بالعنوان الذي يستحقّه الأجير خارجاً؛ لإمكان عدم صدور عمل من الأجير في الخارج إلى الأبد، فلا يملك الأجير المردّد حتى يملّكه المستأجر.
وإنّما صحّت الجعالة؛ لأنّ
التمليك يحصل فيها عند أداء العمل،
ومعه يكون متعيّناً، فيتعيّن العوض أيضاً، فلا ترديد ولا إبهام في البين.
واجيب عنه: أنّ الإجارة بحسب الحقيقة تقع على أحد العملين، والجامع بينهما مع كون
الاختيار بيد العامل، وأيّهما فعل استحق ما عيّن له من الاجرة، فلا
إهمال ولا ترديد ولا تعليق ولا دليل على لزوم التعيين أكثر من هذا المقدار في العقود ولا في الإيجار.
الثالث: أنّ المستفاد من
الروايات الواردة في بطلان
البيع بثمنين- نقداً بكذا ونسية بكذا- لزوم تعيين العوض والمعوّض في العقد.
واجيب عنه بأنّ مفاد هذه الروايات النهي عن الترديد في الثمن بلحاظ الزمان بجعل الزيادة إزاء
التعجيل ، وهذا هو روح
الربا أو شبيهه، وأين هذا من المقام الذي يكون التغيير في الاجرة على أساس الاختلاف في نوع العمل وماليته، بل لا يمكن التعدّي حتى إلى المثال الثاني وهو أن يخيط له اليوم بدرهمين وغداً بدرهم؛ لأنّ زيادة الدرهم بازاء التعجيل لا
التأجيل .
هذا مضافاً إلى وجود الخلاف في البيع، وعدم الدليل على التعدي منه إلى الإجارة،
مع فرض وجود أحكام خاصة بباب البيع في
النقد والنسيئة وفي المفاضلة والربا.
ثمّ إنّه لو فرض البطلان بأحد الوجوه المذكورة فهو يختصّ بفرض الترديد، بأن كانت الإجارة واحدة وكان متعلّقها مردّداً بين أمرين، لا ما إذا كان هناك إنشاءان عرضيان بالنسبة للعملين معاً، والأجير يقبل أحدهما المعيّن فيتعيّن ويلغو الثاني.
أمّا إذا قبل كليهما معاً ابتداءً مع إرادة تعيين أحدهما بعد ذلك، فقد قال
السيد الخوئي ببطلانه أيضاً نظراً إلى عدم قدرة الأجير على الجمع بين المنفعتين المتضادّتين في وقتٍ واحد، فوجوب
الوفاء بالإجارتين متعذّر، وترجيح إحداهما على الاخرى بلا مرجّح.
نقل في
العروة التفصيل والقول بالصحة في الترديد بلحاظ الزمان كالخياطة بدرهم في يومين وبدرهمين في يوم، دون الترديد بلحاظ النوع كالترديد بين الدرز الفارسي والرومي، والوجه فيه يمكن أن يكون أحد أمرين:
۱- دعوى كون العملين في الثاني من باب المتباينين عرفاً لا
الأقل والأكثر؛ لاختلاف الدرز الواحد في الخياطة الرومية عن الدرز في الخياطة الفارسية بالخصوصية
والقيمة . بخلاف المثال الأوّل فإنّه يحتمل رجوع الإيجار فيه على أصل العمل، وجامعه مع اشتراط أنّه إذا وقع في اليوم زاد في الثمن، فلا جهالة في متعلّق الإجارة بل في الشرط، وإنّما هو من التعليق في الشرط، وهو لا يقدح في الصحّة.
۲- أقربيّة المثال الأوّل إلى مورد النصوص الواردة في صحة اشتراط نقص الاجرة إذا تأخّر
الإيصال دون الثاني.
أمّا الوجه في احتمال عكس هذا التفصيل في المثالين المتقدمين فمن جهة أن الخياطة بدرزٍ أو درزين مرجعه إلى الأقل والأكثر فيكون من الإيجار بدرزٍ بدرهم وجعل الدرهم الثاني بإزاء الدرز الثاني، ولا إشكال فيه. وهذا بخلاف الخياطة في يومين نظراً إلى أنّ الزمان بالنسبة إلى العمل يُعدّ كالمقوّم في نظر
العرف ، فيكون في الترديد بين المتباينين.
•
الإجارة المضافة، لا إشكال في أنّ
المنفعة التي تملك بالإجارة إذا كانت تتقدّر وتتعيّن بالزمان فلا بد من تعيين الزمان والمدة، وعندئذٍ قد تكون المنفعة المتعلّقة للإجارة حالية- بمعنى أنّها متصلة بزمان الإجارة وبمدة معيّنة كما إذا قال: آجرتك الدار هذا الشهر بدرهم- واخرى تكون استقبالية- بأن يستأجر الدار في الشهر القادم بدرهم- فتكون الإجارة مضافة إلى منفعة مستقبلية، وقد تكون المنفعة مطلقة وكلية بلحاظ المستقبل إمّا بنحو الشمول أو البدلية .
ولا إشكال في صحة الإجارة في الصورة الاولى، وقد وقع البحث في صحّة الصورة الأخيرة.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۳۵-۵۶.