حكم الاستحاضة القليلة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يجب على المستحاضة بالاستحاضة القليلة أمران: الأوّل- تبديل القطنة لكلّ صلاة، الثاني- الوضوء لكل صلاة.
وهذا هو المشهور بين الفقهاء.
قال
الفاضل الإصفهاني : «وبه قطع أكثر الأصحاب»،
بل عليه دعوى
الإجماع .
واستدلّ على الوجوب بما يلي:
أنّ دم
الاستحاضة من الدماء غير المعفوّ عنها فيجب عليها تبديل القطنة لتصحّ صلاتها. ويرد عليه:
أوّلًا: أنّه- على تقدير
تسليم عدم العفو عن الاستحاضة قليلة كانت أو كثيرة، وعدم الفرق بين ما لا تتمّ فيه الصلاة وغيره- لا تكون القطنة من قبيل الملبوس الذي تكون نجاسته مانعة في الصلاة؛ إذ لا يصدق أنّها صلّت في القطنة، بل تكون من قبيل المحمول الذي لا تكون نجاسته مانعةً في الصلاة.
وثانياً: أنّه- على تقدير تسليم مانعيّة دم الاستحاضة ولو فيما إذا كان محمولًا- لا يجدي تبديل القطنة هنا
لإزالة الدم عنها؛ لأنّها تتلوّث به بعد التبديل أيضاً.
على أنّ الدم إنّما يكون مانعاً عن الصلاة فيما إذا كان خارج
البدن لا باطنه كما هو المفروض هنا، فحاله حال النواة حيث إنّها ما دامت في الجوف فهي غير مانعة عن الصلاة وإن علم بملاقاتها للنجاسة في الجوف.
بما ورد من الأخبار في وجوب تبديلها في المتوسّطة والكثيرة؛ إذ لا فرق في ذلك بين أقسام الاستحاضة بعد ورود النصّ في قسم منها. ويرد عليه: أنّه- على تقدير تسليم دلالة تلك الأخبار على وجوب التبديل في المتوسّطة والكثيرة- لا وجه لإلحاق القليلة بهما؛ إذ
الإلحاق يحتاج إلى دليل وهو مفقود في المقام، وأمّا دعوى عدم الفرق بين القليلة والمتوسّطة والكثيرة فمردودة؛ لثبوت الفرق بينهما؛ لأنّه يجب الغسل في المتوسّطة والكثيرة ولا يجب في القليلة، فمن الجائز أن تكون القليلة مغايرةً لهما في الأثر من حيث الخبثيّة أيضاً؛ بأن يكون تبديل القطنة واجباً فيهما دون القليلة.
وذهب بعض الفقهاء إلى وجوب التبديل على سبيل
الاحتياط اللزومي، بل على سبيل الجزم والفتوى، لكن لا للأدلّة والوجوه المتقدّمة، بل لأنّ الحكم بالوجوب حكم مشهور بين الفقهاء، والشهرة في الفتوى دليل على ثبوت الحكم الشرعي عنده.
ومن هنا قال
الإمام الخميني : إنّ «التبديل والتطهير مبنيّ على الاحتياط وإن لا يخلو من قوّة».
وفي قبال القول بالوجوب ثمّة من أنكره من الفقهاء مناقشاً فيه بأنّ الشهرة الفتوائيّة ليست دليلًا على الحكم الشرعي، وأنّه لا وجه للاستدلال بها في المقام، كما لا وجه للاستدلال بغيرها من الأدلّة، وعليه فلا دليل على الحكم بالوجوب، بل هناك دليل على عدم الوجوب، وهو أنّ تبديل القطنة في الاستحاضة الصغرى لو كان واجباً في حقّها لُاشير إليه في الأخبار الواردة في مقام البيان، فعدم تعرّضها وسكوتها عن ذلك أقوى شاهد على عدم الوجوب.
المشهور بين الفقهاء أنّه يجب عليها الوضوء لكل صلاة، بل ادّعي عليه الإجماع.
وفي قبال ذلك حكي عن
ابن أبي عقيل أنّه لا وضوء عليها ولا غسل؛ لأنّ الاستحاضة القليلة عنده ليست بحدث،
وعن
ابن الجنيد أنّ عليها في اليوم والليلة غسلًا واحداً.
وخالف
المحقّق الخراساني المشهور هنا أيضاً حيث ذهب إلى أنّ الدم إن كان حمرةً ولم يثقب القطنة فعليها غسل واحد والوضوء لكلّ صلاة، وإن ثقب القطنة فعليها الأغسال الثلاثة سواء تجاوز أو لم يتجاوز، وإن كان صفرةً فإن كانت قليلةً عرفاً فعليها الوضوء خاصّة وإن كانت كثيرةً فعليها الأغسال الثلاثة.
وهناك من ذهب إلى أنّه يجب على المستحاضة الغسل مطلقاً، من دون فرق في ذلك بين الأقسام الثلاثة للاستحاضة، وإنّما يجوز الجمع بين الفرضين لمن استمرّ بها الدم
إرفاقاً شرعيّاً.
واستدلّ للقول المشهور ببعض الأخبار كما في صحيح
معاوية بن عمّار عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «... وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضّأت ودخلت المسجد وصلّت كلّ صلاة بوضوء».
فإنّ هذه الجملة شرطيّة، وظاهر الجملة الشرطيّة أنّ الجزاء متفرّع على الشرط، بمعنى أنّ حدوث الجزاء إنّما يكون عند حدوث الشرط، وأنّ الجزاء مستند إلى تحقّق شرطه لا إلى أمر آخر، وعليه فتدلّ هذه الجملة على أنّ وجوب الوضوء مستند إلى رؤية دم الاستحاضة لا إلى سبب آخر من أسباب الوضوء، وعلى هذا فالاستحاضة القليلة تكون حدثاً، خلافاً للمحكيّ عن ابن أبي عقيل. مع أنّ الوضوء لو كان مستنداً إلى سائر الأسباب لم يجب عند كلّ صلاة بل يكفيها الوضوء مرّة واحدة في جميع صلواتها ما دامت لم تنقضه، ومن ذلك يظهر أنّ موجب الوضوء في حقّها ليس هو سائر الأسباب، بل الموجب هو رؤية دم الاستحاضة وأنّه حدث موجب للوضوء عند كلّ صلاة.
والمراد من الوضوء في قوله عليه السلام: «وصلّت كلّ صلاة بوضوء» هو المعنى المصطلح فيه، كما أنّه هو المراد من قوله عليه السلام: «توضّأت»، ولا يلزم من ذلك التكرار في الخبر؛ لأنّ قوله عليه السلام: «وصلّت كلّ صلاة بوضوء» إنّما هو لبيان أنّ المستحاضة ليست كبقيّة المكلّفين في جواز اكتفائها بوضوء واحد في جميع صلواتها، بل يجب عليها أن تتوضّأ لكلّ صلاة، وليس معناه وجوب أصل
الوضوء عند حدث الاستحاضة ليلزم التكرار. وبذلك يظهر أنّ ما ذهب إليه ابن أبي عقيل من عدم حدثيّة دم الاستحاضة مخالف لمدلول هذا الخبر الصحيح ونحوه من الأخبار.
وعلى كلّ حال فقد استدلّ عليه:
بأنّه يظهر من الأخبار الواردة في حصر نواقض الوضوء،
أنّ الاستحاضة ليست من الأحداث الموجبة للوضوء؛ لأنّها واردة في مقام بيان ما هو ناقض للوضوء، ومع ذلك لم تذكر الاستحاضة في عداد النواقض.
ويرد عليه: أنّ غاية ما هناك أنّ دلالة هذه الأخبار على الحصر إنّما هي بالإطلاق والسكوت في مقام البيان، ومثله لا مانع من رفع اليد عنه بما يدلّ على أنّ الاستحاضة من نواقض الوضوء، مع أنّ النظر في أخبار حصر النواقض إنّما هو إلى النواقض العامّة غير المختصّة بطائفة، ولا سيّما بلحاظ أنّ السائل من الرجال، ولا نظر فيها إلى النواقض المختصّة بالنساء، حيث إنّ الاستحاضة مختصّة بهنّ، فلا تنافي بينها وبين ما يدلّ على أنّ الاستحاضة من نواقض الوضوء.
بما في صحيح
زرارة وهو قوله عليه السلام: «... فإن جاز الدم الكرسف تعصّبت واغتسلت ثمّ صلّت الغداة بغسل، والظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وإن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد».
فإنّه بصدد بيان أحكام المستحاضة ومع ذلك سكت عليه السلام عن بيان حكم الوضوء على المستحاضة، فلو وجب الوضوء عليها كالغسل لتعرّض لبيانه، ويستكشف من عدم تعرّضه لوجوب الوضوء عدم وجوبه عليها.
ويرد عليه: أنّ هذا الخبر ظاهر في عدم وجوب الوضوء على المستحاضة عند ما يكون الغسل واجباً عليها، وأمّا حيث لا يكون واجباً عليها كما إذا كانت مستحاضة بالاستحاضة القليلة فلا دلالة له على عدم وجوب الوضوء عليها؛ لأنّ الخبر ليس وارداً لبيان ذلك.
وعلى هذا فلا بدّ من تقييد
الإطلاق المقامي فيها بما يدلّ على وجوب الوضوء على المستحاضة بالاستحاضة القليلة؛ إذ لا تنافي بينه وبين هذا الخبر.
واستدلّ لقول ابن الجنيد بصحيح زرارة المتقدّم، فإنّ مقتضى إطلاق قوله عليه السلام: «وإن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد» عدم الفرق بين القليلة والمتوسّطة. ويرد عليه: أنّه لا بدّ من تقييد هذا الإطلاق بصحيح معاوية بن عمّار المتقدّم ونحوه ممّا يدلّ على وجوب الوضوء فقط على المستحاضة بالاستحاضة القليلة، فتحمل هذه الجملة على بيان حكم المتوسّطة.
وأمّا قول المحقّق الخراساني في المسألة فاستدلّ له بما يلي:
أمّا بالنسبة إلى الدم الأحمر فقد استدلّ- على ما فصّله فيه- ببعض الأخبار كموثّق سماعة حيث قال: قال عليه السلام: «المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكلّ صلاتين وللفجر غسلًا، وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكلّ يوم مرّة والوضوء لكلّ صلاة».
فإنّ قوله عليه السلام: «إذا ثقب الدم الكرسف» يدلّ بإطلاقه على وجوب الأغسال الثلاثة مع الثقب، من دون فرق في ذلك بين ما إذا جاز الدم الكرسف أم لا. وأمّا قوله عليه السلام: «وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل...» فهو تصريح بالمفهوم المستفاد من الجملة السابقة، ومعناه إن لم يثقب الدم الكرسف فعليها الغسل والوضوء لكلّ صلاة. وعليه فليس هناك قسم ثالث- خلافاً للمشهور- في دم الاستحاضة
الأحمر أو
الأسود منه يجب معه الوضوء، بل أمره دائر بين أمرين؛ لأنّه إمّا أن لا يثقب فالواجب فيه غسل واحد لكلّ يوم، وإمّا يثقب فالواجب فيه الأغسال الثلاثة سواء كان متجاوزاً أو لا.
ويرد عليه:
أوّلًا: أنّ الجملة الثانية ليست صريحة في بيان مفهوم الجملة المتقدّمة عليها، بل الظاهر أنّها مقيّدة للجملة الاولى؛ إذ يقتضي إطلاقها وجوب الأغسال الثلاثة مع الثقب تجاوز أو لم يتجاوز، والجملة الثانية بيان ومقيّد لهذا الإطلاق، فإنّها تدلّ على أنّ وجوب الأغسال الثلاثة إنّما هو إذا ثقب الدم وتجاوز، وأمّا إذا ثقب ولم يتجاوز فالواجب غسل واحد. فالخبر حينئذٍ نظير قوله تعالى: «وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» المقيّد لقوله تعالى: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»
الشامل للجنب وغيره. ونتيجة ذلك هو أنّ وجوب الوضوء إنّما هو في حقّ غير الجنب، وأمّا الجنب فيجب عليه أن يتطهّر.
وثانياً: أنّه- مع
تسليم كون الجملة الثانية مفهوماً للجملة الاولى- يدور الأمر بين
ارتكاب أحد أمرين كلاهما خلاف الظاهر؛ لأنّ المفهوم هو عبارة عن نفي ما ورد في المنطوق، ومنطوق الجملة الاولى: «إذا ثقب الدم الكرسف» والمذكور في الثانية: «وإن لم يجز الدم...»، والمفروض أنّه مفهوم الجملة الاولى، فلا يمكن إبقاؤهما على حقيقتهما والعمل على
أصالة الحقيقة في كليهما، فاللازم التصرّف في إحدى الجملتين، فكما يحتمل أن يكون عدم تجاوز الدم بمعنى عدم الثقب كما رجّحه المحقّق الخراساني، كذلك يحتمل أن يكون الثقب في الجملة الاولى بمعنى تجاوز الدم، وعليه فالموثّق يدلّ على أنّ الدم إذا تجاوز الكرسف وجبت فيه الأغسال الثلاثة، وإذا لم يتجاوز وجب فيه غسل واحد وهو ما ذهب إليه المشهور في الدم المتجاوز والدم الثاقب غير المتجاوز، ويكون مدلوله حينئذٍ على خلاف ما ادّعاه المحقّق الخراساني.
وبما أنّه لا قرينة هنا على تعيين أحد الاحتمالين يكون الموثّق حينئذٍ مجملًا، بل يمكن القول برجحان
الاحتمال الثاني؛ لدلالة بعض الأخبار- كصحيح زرارة المتقدّم- على أنّ وجوب الأغسال الثلاثة إنّما هو مع تجاوز الدم عن الكرسف لا مع كون الدم ثاقباً فقط، فإنّ التجاوز أو الثقب لو كان مجملًا فإنّما هو كذلك في الموثّق المذكور، وأمّا بقية الأخبار فلا إجمال في شيء منها؛ إذ لا يحتمل أن يكون التجاوز بمعنى الثقب. وعليه فيرتفع
إجمال الموثّق بهذه الأخبار، فيحمل الثقب في الجملة الاولى منه على معنى التجاوز، وعليه فيوافق مذهب المشهور.
وأمّا بالنسبة إلى الدم الأصفر فاستدلّ- لما ذهب إليه المحقّق الخراساني من التفصيل فيه بين ما إذا كان كثيراً عرفاً وبين ما إذا كان قليلًا عرفاً- بما ورد في جملة من الأخبار من أنّ
المرأة إذا رأت الدم الأصفر وجبت عليها الأغسال الثلاثة،
وما ورد من أنّها إذا رأت صفرة تتوضّأ وتصلّي،
وهما متعارضان بالتباين؛ لدلالة الطائفة الاولى على وجوب الأغسال الثلاثة مع الصفرة مطلقاً ودلالة الاخرى على وجوب الوضوء معها مطلقاً، إلّا أنّ هناك شاهد جمع، وهو ما رواه محمّد بن مسلم مرسلًا في الحامل قد استبان حبلها ترى ما ترى الحائض من الدم، قال: «تلك الهراقة من الدم إن كان دماً أحمر كثيراً فلا تصلّي، وإن كان قليلًا أصفر فليس عليها إلّا الوضوء»،
حيث دلّ على وجوب الوضوء مع كون الدم قليلًا أصفر، وأمّا إذا كان كثيراً فالواجب في حقّها
الاغتسال ، وبهذا يرتفع التعارض بين الطائفتين.
ويرد عليه:
أوّلًا: أنّه لا يصلح خبر ابن مسلم أن يكون شاهداً على الجمع المذكور؛ لضعف سنده
بالإرسال .
وثانياً: أنّ ظاهر التعبير بالصفرة في هذه النصوص
إرادة الاستحاضة القليلة بالمعنى المشهور؛ لظهوره في كون الدم لقلّته لا يرى إلّا لوناً محضاً بلا جوهريّة له، فلا إطلاق له يشمل النافذ فضلًا عن السائل حتى يتكلّف للجمع بينه وبين غيره بالحمل على القليل العرفي.
وثالثاً: أنّ لازم الجمع المذكور هو حمل النصوص الدالّة على وجوب الوضوء فقط على خصوص الدم الأصفر، وهو مخالف لدلالة تلك النصوص؛ لأنّها كالصريحة في أنّ موضوعها هو موضوع الغسل، وأنّ
الاختلاف في الحكم إنّما هو من جهة النفوذ وعدمه.
وبعبارة اخرى: أنّ النصوص المذكورة صريحة في أنّه لا عبرة بحمرة الدم وصفرته، وإنّما المدار على ثقب الدم وعدمه، وأنّ الدم الذي تجب معه الأغسال الثلاثة مع الثقب هو الدم الذي يجب معه الوضوء مع عدم الثقب.
ثمّ إنّه على تقدير تسليم دلالة الأخبار المتقدّمة المتضمّنة لعنوان الصفرة على تأثير الحمرة والصفرة في اختلاف الحكم وكونها بصدد بيان الضابطة على أساس الكيفيّة لا الكمّيّة، وقلنا بعدم تماميّة الجمع المذكور؛ لضعف سند خبر
ابن مسلم، فالطائفتان المتقدّمتان تتعارضان بالتباين كما تقدّم؛ لأنّ إحداهما تدلّ على وجوب الأغسال الثلاثة مع الصفرة مطلقاً، والاخرى تدلّ على وجوب الوضوء معها مطلقاً.
وقيل في علاج
التعارض : إنّ الطائفتين وان كانتا متعارضتين بالتباين كما مرّ، إلّا أنّ الطائفة الاولى الدالّة على وجوب الاغتسال مع الصفرة لا بدّ من حملها على ما إذا كانت الاستحاضة- أي الدم الأصفر- كثيرةً بحسب
الاصطلاح بأن ثقبت الكرسف وتجاوزت عنه؛ إذ لو كانت قليلة- أي غير ثاقبة أصلًا- لا يحتمل كونها موجبةً للأغسال الثلاثة؛ لأنّ الصفرة لا تزيد على الدم الأحمر، والدم الأحمر غير الثاقب- أي الاستحاضة القليلة- لا توجب الأغسال الثلاثة فكيف توجبها الصفرة؟! وكذا الحال في الدم الأصفر- أي الاستحاضة المتوسّطة بحسب الاصطلاح على مسلك المحقّق الخراساني- لأنّها على مسلكه لو كان دمها أحمر لم تكن موجبة للأغسال الثلاثة فكيف تكون الاستحاضة مع الصفرة موجبة للأغسال الثلاثة؟! فهذه القرينة الخارجيّة- أعني العلم بعدم كون الدم الأصفر أشدّ من الدم الأحمر بحسب الحكم- توجب
اختصاص الأخبار الآمرة بالأغسال الثلاثة بالكبيرة- أي الصفرة فيما إذا كانت كثيرةً بحسب الاصطلاح- ومعه تنقلب النسبة من التباين إلى العموم المطلق.
فالطائفة الثانية تدلّ على وجوب الوضوء مع الصفرة في جميع الأقسام الثلاثة المتقدّمة، والطائفة الاولى تدلّ على وجوب الغسل في الدم الأصفر الكثير، ومعه فالقاعدة تقتضي تخصيص الاولى بالثانية والحكم في المستحاضة الكثيرة عند الصفرة بوجوب الأغسال الثلاثة، وأمّا في المتوسّطة والقليلة فيجب فيهما الوضوء.
إلّا أنّ تلك الطائفة الآمرة بالوضوء في المتوسّطة والقليلة معارضة بصحيحة
عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سألت
أبا إبراهيم عليه السلام عن
امرأة نفست فمكثت ثلاثين يوماً أو أكثر ثمّ طهرت وصلّت ثمّ رأت دماً أو صفرةً؟ قال: «إن كانت صفرة فلتغتسل ولتصلّ ولا تمسك عن الصلاة».
فإنّها تدلّ على وجوب الغسل مع الصفرة من غير تقييده بالمرّة الواحدة أو بثلاث مرّات ولا بشيء من أقسام الاستحاضة، والنسبة بينهما عموم من وجه؛ لأنّ الصحيحة المذكورة وإن كانت مطلقة، إلّا أنّه لا بدّ من
إخراج المستحاضة القليلة عن إطلاقها؛ وذلك للقرينة المتقدّمة الدالّة على أنّ الصفرة لا يحتمل أن يكون حكمها أشدّ من الأحمر، وقد تقدّم أنّ الاستحاضة القليلة في الدم الأحمر لم تكن موجبة للاغتسال فكيف بالاستحاضة في الدم الأصفر؟! فالصحيحة تختصّ بالاستحاضة الكبيرة والمتوسّطة، كما أنّ الأخبار الدالّة على الوضوء مختصّة بالمتوسّطة والقليلة، فالاستحاضة المتوسّطة بالأصفر تكون مورداً للتعارض بين الروايتين، فإنّ الصحيحة تدلّ على وجوب الغسل فيها، والطائفة الثانية تدلّ على وجوب الوضوء فيها.
فإن أمكن الجمع بينهما بالأخذ بكلتا الطائفتين أخذ بهما ووجب الغسل والوضوء في المتوسّطة إن كان الدم أصفر كما هو مسلك المشهور، وتكون النتيجة بعد الجمع بين الأخبار وجوب الأغسال الثلاثة في الاستحاضة الكثيرة، ووجوب الغسل الواحد والوضوء في المتوسّطة، ووجوب الوضوء خاصّة في القليلة. وإن لم يمكن الجمع بينهما- نظراً إلى أنّ الصحيحة تدلّ على جواز
الاقتصار على الغسل في صحّة الصلاة وإن لم تتوضّأ، والطائفة الثانية تدلّ على جواز الاقتصار على الوضوء فحسب وإن لم تغتسل- فلا مناص من الحكم بتساقطهما؛ لأنّا نرجع بعد تعارضهما بالإطلاق وتساقطهما إلى صحيحة معاوية بن عمّار المتقدّمة بعد تقييدها بصحيحة زرارة المتقدّمة.
وهما تدلّان على أنّ العبرة في الاستحاضة بكمّيّة الدم لا بكيفيّته من الحمرة والصفرة، فإذا ثقب الكرسف مع التجاوز- أي كان كثيراً سواء كان أحمر أو أصفر- ففيها الأغسال الثلاثة، وإذا ثقب من غير تجاوز ففيها غسل واحد، وإذا لم يثقب ففيها وضوء واحد، وأنّ الروايتين لا معارض لهما بعد تساقط الطائفتين المتقدّمتين بالتعارض، ونتيجة ذلك صحّة مذهب المشهور.
وأمّا القول بأنّ الاستحاضة تكون موجبة للغسل مطلقاً فهو ما ذهب إليه بعض الفقهاء- كما تقدّم- ومستنده في ذلك مدلول الروايات والأخبار في هذا الباب فإنّه قال: «(إنّ محصّل الروايات في الباب) أنّ الدم إذا تبيّن خروجه فعليها الغسل وهو (خروج الدم)- (خ) حال وضع الكرسف- بالنفوذ والثقب والغمس و- في حال إلقاء الكرسف- بالسيلان، و
الأمر بالوضوء مع عدم النفوذ والثقب مرجعه إلى
الاستغناء عن الغسل مع عدم تبيّن الخروج، فالصلاة لا بدّ فيها من أحد أمرين: الغسل أو الوضوء، فإرجاع أمرها إلى الوضوء لكلّ صلاة تصريح بعدم وجوب الغسل، وأنّها ما لم تعلم بالخروج فهي بحكم الطاهر. هذا مفاد ما دلّ على الوضوء مع عدم الثقب.
وأمّا ما دلّ على أنّ عليها غسلًا واحداً للفجر خاصّة أو في اليوم والليلة فمرجعه إلى أنّ الدم إذا خرج ثمّ احتشت وتعصّبت وتلجّمت واستثفرت- أي استوثقت من نفسها كما هو صريح بعض الأخبار- ولم تر دماً بعد ذلك فليس عليها إلّا غسل واحد لذلك الخروج المفروض، فإنّها استمرّ بها الدم، فالغالب
إلقاء الكرسف في أوّل اليوم لقضاء الحاجة. وأمّا إذا كان الدم صبيباً لا يرقأ- أي أنّ
الاستيثاق بالوجوه المذكورة لم يمنع من الخروج- فلا بدّ لكلّ صلاة من غسل إلّا مع الجمع، فإنّه يكتفى حينئذٍ بغسل واحد توسعة وإرفاقاً».
ثمّ تعرّض لروايات الباب وفصّل الكلام في مدلول كلّ منها، كما تعرّض إلى قوله عليه السلام في صحيح معاوية بن عمّار: «... وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضّأت ودخلت المسجد وصلّت كلّ صلاة بوضوء»،
فقال: «معناه أنّها ما لم تعلم بخروج الدم؛ لعدم ثقب الكرسف، فليس عليها غسل وإنّما عليها ما على غيرها من الوضوء لكلّ صلاة، وذلك أنّ التفريق بين الصلوات كما كان ديدنهم في تلك الأزمنة لا ينفكّ غالباً عن الحاجة إلى الوضوء لكلّ صلاة؛ لتخلّل الحدث الأصغر غالباً، لا أنّ هذا الوضوء للاستحاضة القليلة».
ويرد عليه: ما اورد على ابن أبي عقيل من أنّ ظاهر الجملة الشرطيّة المذكورة هو تفرّع الجزاء على الشرط، فهي تدلّ على أنّ وجوب الوضوء مستند إلى رؤية دم الاستحاضة وخروجه لا إلى سبب آخر من أسباب الوضوء، وإن كان معنى الجملة ما ذكره، فالوضوء حينئذٍ مستند إلى الأسباب الاخرى لا إلى خروج دم الاستحاضة، وهو على خلاف ظاهر الجملة الشرطيّة المزبورة. والحاصل: أنّ ظاهر الرواية أنّها في مقام بيان وظيفة المستحاضة عند خروج الدم إذا لم يثقب الكرسف بحيث تكون هذه القضيّة سالبة بانتفاء المحمول لا بانتفاء الموضوع، وحينئذٍ يتمّ ما استفاده المشهور من الرواية من أنّ الاستحاضة القليلة- وهو الدم الذي لا يثقب القطنة- تكون موجبة للوضوء لكلّ صلاة.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۹۴- ۱۰۵.