زمان حق المطالبة في الإجارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
استحقاق
الأجرة أو المنفعة في
الإجارة بمعنى انتقال
ملكيتهما إلى كلّ من المتعاقدين وهو يحصل بالعقد، ويجب
تسليمهما على كلّ منهما إلى الآخر، والكلام هنا في توقّف
المطالبة من كلّ منهما على تسليم ما في يده.
ذهب قدماء الأصحاب إلى عدم
وجوب تسليم الاجرة إلّا بعد تسليم العين، كما قال
الشيخ : «إنّما يستحق الاجرة إذا تسلّم العين».
ويظهر من العلّامة
الإجماع عليه،
ونفى في
الرياض الخلاف عنه قال:
«لا فرق بين ملكية الاجرة والمنفعة إلّا من حيث إنّ تسليم الاجرة يتوقّف على تمام العمل أو دفع العين المستأجرة، ولا كذلك المنفعة، فانّه يجب تسليمها مع المطالبة بتسليم العمل أو العين التي وقع عليها الإجارة».
ولذا قال
السيد العاملي : «إن تمّ إجماع التذكرة ونزّلنا بقية العبارات عليه وقلنا: إنّ ذلك منهم في مقابلة العامة القائلين بأنّها لا تلزمه عاجلًا كانوا مطبقين على وجوب تقديم تسليم العين».
ومستند ذلك بعد الإجماع الأصل ونفي الضرر عن المستأجر بتعجيل دفع الاجرة؛ لاحتمال تعذّر استيفاء المنفعة بالموت وشبهه حيث يكون للمستأجر التأخير إلى زمان التسليم، إلّا أن يوجد ما يقتضي التعجيل من عادة ونحوها.
ونوقش الأصل بمعارضته بمثله في طرف الآخر.
وأمّا احتمال تعذّر
الاستيفاء فموجود حتى بعد تسليم العين وقبل استيفاء جميع المنافع. وكذا يدفع الضرر بامكان استيفاء المنفعة بورثته، مضافاً إلى أنّه خلاف مقتضى سائر المعاوضات.
ومن هنا ذهب غير واحد من متأخّري الفقهاء
إلى توقّف جواز المطالبة لكلّ منهما على تسليم ما عليه من الاجرة، والمنفعة كما في عقود المعاوضة،(ويمكن استفادته أيضاً من عبائر بعض الفقهاء حيث قالوا: «لا يجب تسليم الاجرة إلّا بتسليم العين».
) وأنّ من حق أحدهما الامتناع عن ذلك لو امتنع المتعاقد الآخر عن التسليم، فلا يجب عليه البدء بالتسليم، بل يكون تسليم كلّ منهما مقابل تسليم الآخر، فلو امتنعا عليه معاً أثما وأجبرهما الحاكم عليه؛ لأنّه وليّ الممتنع أو يكون له خيار تخلّف الشرط على ما تقدم في ذلك.
وكيف كان فوجوب التسليم على كلّ منهما ليس مشروطاً أو معلّقاً على تسليم الآخر، ولو كان كذلك للزم عدم إثمهما وتخلّفهما لو لم يسلّما معاً؛ لانتفاء موضوع الوجوب حينئذٍ كما هو واضح البطلان.
نعم، يحق لأحدهما
الامتناع لو امتنع عنه الآخر، فيكون التخلّف في الامتناع عن التسليم من غير ناحية امتناع الآخر عنه
حراماً عليهما، وهو معنى كون التسليم واجباً.
هذا، وقد تقدم ما ذكره الفقهاء للحكم بوجوب التسليم، من أنّه من مقتضيات الملك لا من مقتضيات العقد، ومن أنّه بمقتضى الشرط الضمني، ومن أنّه الغرض النوعي عند
العرف والعقلاء في باب المعاوضات.
وهذا في كل نوع معاوضة بحسبه ففي إجارة الأعيان يكون تسليم الاجرة في قبال تسليم العين وفي إجارة الأعمال يكون في قبال تسليم العمل والذي يكون بالقيام به فلا يجب تسليم الاجرة قبل القيام بالعمل بلا خلاف،
بل عليه الإجماع من غير واحد،
كما أنّه المصرح به في كلمات جملة من الفقهاء.
فلو كان المستأجر وصياً لم يجز له التسليم قبل ذلك إلّا
باذن صريح من الموصي أو مع شاهد حال عليه، وإلّا فانّه يكون ضامناً.
كلّ ذلك لما تقدم من وجوب تسليم المنفعة والاجرة حال تسليم الآخر، بلا فرق في ذلك بين الأعيان والأعمال إلّا من ناحية أنّ العمل وإن كان مستحقاً بالعقد إلّا أنّ تسليمه لا يتحقق إلّا بفعله وايجاده خارجاً، فإن تحقق وجب دفع الاجرة عملًا بمقتضى العقد
مضافاً إلى ما رواه
هشام بن الحكم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في الصحيح أو الحسن قال: «لا يجف عرقه حتى تعطيه اجرته».
وأيضاً مما روي عن
شعيب عنه عليه السلام قال: «أعطهم اجورهم قبل أن يجف عرقهم».
والظاهر أنّ جفاف العرق كناية عن التعجيل في الدفع، وفيه نوع إشعار بعدم وجوب تسليم الاجرة قبل العمل.
بلا فرق في ذلك بين عمل لا يتوقّف على بذل المال كالصلاة وبين ما يتوقّف عليه
كالحج ،
فإذا لم يأمن الأجير من المستأجر لاحتمال إيجاد العمل وامتناع المستأجر بعد اتمام العمل، فله
الاستيثاق بوضع الاجرة على يد ثالث لنفس الوجه الذي اقتضى التسليم المعاوضي. وهذا أيضاً يقتضي تحصيل الأمن من طرف المستأجر عند إقدامه على تسليم العمل بايجاده بتمامه.
هذا كلّه فيما إذا لم يشترط تعجيل الاجرة أو تأجيلها، ولم تكن هناك عادة تقوم مقام الاشتراط، وإلّا فالمتبع ذلك.
ويظهر من
الحلّي خلاف ما ذكرنا في إجارة الأعمال حيث قال: «يستحق المؤجر الاجرة على المستأجر في الحال، ولا يقف على تسليم الأعمال والفراغ منها، بل باطلاق العقد يستحق المؤجر الاجرة على المستأجر سواء كان عملًا يمكن تسليمه أو لا يمكن تسليمه، إلّا أن يشترط المستأجر التأخير حال العقد، فيكون على ما شرطا واتفقا عليه».
وظاهره وجوب تسليم الاجرة قبل العمل والفراغ منه، إلّا أن يحمل الاستحقاق في كلامه على الاستحقاق الملكي؛ لأنّ الاجرة والعمل مملوكان بنفس العقد كما تقدم، فيمكن التوفيق بينه وبين المشهور سيما مع عدم حكاية الخلاف عنه في كلمات الفقهاء، إلّا أنّ هذا الحمل لا يتناسب مع عقد المستثنى والمستثنى منه الواردين في ذيل عبارته؛ لأنّ اشتراط التأخير يرجع إلى استحقاق
المطالبة لا الملكية.
هذا، ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب تسليم الاجرة بمجرّد إتمام العمل فيما لا يكون له أثر في العين
كالصوم والصلاة،
وكذا فيما له أثر في مال المستأجر إذا كانت العين تحت يد المستأجر أو في داره لمكان استيلائه عليها.
إلّا أنّ
المحقق الكركي خالف في الأخير فاشترط التسليم وإن وقع العمل في دار المستأجر، وتبعه على ذلك
الشهيد الثاني أيضاً.
وقد وقع الخلاف بين الفقهاء في العمل الذي له أثر في مال المستأجر ولكنه بيد الأجير فهل يكفي مجرّد إيجاده فيستحق الاجرة بعد العمل وقبل تسليم العين أو أنّ تسليمه بتسليم ما فيه الأثر نحو الثوب
والخاتم فلا يستحق الاجرة إلّا بعد تسليم العين؟
ذهب بعض الفقهاء إلى توقّف استحقاق الاجرة- بمعنى حق المطالبة لا الملك- على تسليم مورد العمل إن كان في ملك الصانع كما قال الشيخ: «إن كان العمل في ملك الصانع لا يستحق الاجرة حتى يسلّم».
واستقربه العلّامة في بعض كتبه
( لكنه لم يرجح أحد القولين في
التحرير ) وصحّحه
فخر المحققين والمحقق الكركي
وغيرهما،
فلا يستحق الأجير المطالبة بالاجرة ما لم يمكّنه من تسليم العين، بمعنى أنّه لا يجوز له
حبس العين حتى يتسلّم الاجرة، بل يجب عليه عرض العين على المستأجر
كي يتحقّق التقابض في الاجرة والعين معاً، وليس مرادهم من تسليم مورد العمل تقدم تسليم الثوب المخيط مثلًا على قبض الاجرة- وإن جعله السيد العاملي هو المتبادر من كلامهم، ثمّ استشكل عليهم بنقض قانون المعاوضة
- فيجب على كلّ منهما التسليم للأمر
بالوفاء وغيره، فإذا تعاسرا اجبرا معاً على التقابض، أمّا لو بذل أحدهما وامتنع الآخر ولم يمكن جبره كان للباذل الحبس حتى يدفع إليه العوض قضاءً لحق المعاوضة
كما تقدم نظيره في إجارة الأعيان.
وقد استندوا في ذلك بجملة امور:
أنّ متعلّق الإجارة هو الهيئة الحاصلة في العين أو الوصف العارض فيها، وأنّ مناط مالية العمل إنّما يكون باعتبار تلك الصفة الحاصلة فيها كالخياطة والقصارة ونحوهما. وأمّا العمل فهو مقدمة إلى تحصيلها، فالأثر الناشئ من العمل يلحق بالعين، ويملك تبعاً لتملّك العمل، ويتوقّف تسليمه على تسليم العين المعمول فيها.
ونوقش فيه
: بأنّ المناط في مالية العمل يكون باعتبار نفس صدوره من العامل، وأنّ المملوك بعقد الإجارة هو نفس العمل لا الصفة والأثر المتولّدين من العمل.
نعم، يُملك الأثر تبعاً لملكية العمل، إلّا أنّ هذا المقدار لا يستوجب كون الأثر موضوعاً للمعاوضة المأخوذة في حاق الإجارة. مضافاً إلى أنّ تملّك الأثر بالتبعية لا يتوقّف على كون مالية العمل بلحاظ ترتبه، فإنّه لو كانت مالية العمل بلحاظ نفسه وكان يترتّب عليه أثر عيني خارجي أيضاً يكون مملوكاً للمالك.
وهو عبارة عن التمسك بالشرط الضمني الارتكازي، فقد ذهب
السيد الخوئي - بعد تصريحه بوقوع الاجرة إزاء نفس العمل دون الصفة، وبأنّ المستأجر عليه إنّما هو الخياطة- مثلًا- لا صفة المخيطية- إلى أنّه ليس للأجير المطالبة بالاجرة قبل تسليم العين، قال: «لا تنافي بين الأمرين- أعني وقوع الاجرة بإزاء نفس العمل وعدم جواز المطالبة قبل التسليم- والوجه فيه أنّ التسليم والتسلّم وإن لم يكن دخيلًا في الملكية في أكثر المعاوضات ما عدا اليسير منها
كبيع الصرف والسلم ... إلّا أنّه مع ذلك لا يجب على أحدهما التسليم ما لم يسلّم الآخر؛ لما تقدم من الشرط الضمني الارتكازي الثابت ببناء العقلاء وهو في مثل هذه الأعمال لا يكون بنظر العرف إلّا بتسليم مورد العمل».
التمسك ببناء العقلاء في الغرض النوعي من المعاوضات، فإنّ متعلّق الإجارة وإن كان هو العمل دائماً في إجارة الأعمال كالخياطة التي هي تحقيق وإيجاد لما فيه منفعة المستأجر، إلّا أنّ تسليم المنفعة إنّما يتحقق بتمكين المستأجر من
الانتفاع وهو يتحقق في إجارة الأعيان بتسليم العين المستأجرة، وفي الأعمال المحضة-
كالصلاة والحج- بنفس صدور العمل واتمامه خارجاً كما تقدم بيانهما.
أمّا بالنسبة للأعمال التي تكون المنافع في نتائجها فتسليمها لا يكون إلّا بتسليم تلك الأعيان وجعلها تحت
استيلاء المستأجر، فإذا بقي الثوب- مثلًا- تحت يد الأجير لا يتحقق معه تسليم العمل؛ لأنّه الغرض النوعي المقصود في باب المعاوضات.
وفي قبالهم ذهب جمع من الفقهاء إلى جواز مطالبة الأجير بالاجرة من دون تسليم مورد العمل، كما قال المحقق في مسألة الخياطة: «يستحق الأجير الاجرة بنفس العمل سواء كان في ملكه أو ملك المستأجر ولا يتوقّف تسليم أحدهما على الآخر».
وقال العلّامة: «يستحق الأجير الاجرة بالعمل وإن كان في ملكه، ولا يتوقّف على التسليم»،
وهو صريح غيرهما أيضاً،
بل لعلّه ظاهر كلّ من أطلق استحقاق الأجير اجرته باكمال العمل كما في
الجواهر .
ومستند الحكم عندهم
هو تحقق متعلّق الإجارة- وهو فعل الخياطة- الذي معه تحصل صفة المخيطية أيضاً، فيكون تسليمه بنفس إيقاعه وتحققه خارجاً، فيجب دفع الاجرة بحكم المعاوضة والوفاء بالعقد وقاعدة
السلطنة ، فإنّه ليس في يد الأجير سوى الثوب وصفة المخيطية الحاصلة في الثوب، ولا شيء منهما متعلّق لعقد الإجارة ليجري حكم المعاوضة عليه.
بل لا تعقل المعاوضة في الصفات والهيئات مستقلًا ليتوهم وجوب تسليمها بتسليم العين.
ومن ثمّ ليس لأحد أن يملّك غيره صفة من صفات العين بهبة ونحوها، ضرورة أنّ شأن الصفات برمتها إنّما هو زيادة قيمة العين أو نقصها، من غير أن تكون في نظر العقلاء أموالًا مستقلة، ومن هنا لا يملك الأجير سوى عمله للمستأجر، ولا يملك المستأجر عليه شيء إلّا ذلك.
هذا مضافاً إلى أنّ الأجير قد ملك الاجرة بالعقد، فيستحق المطالبة بها ولا مانع إلّا إكمال العمل لمكان
الإجماع ، وخلوّ الأخبار عن وجوب تسليم العوض إلّا بعد إكماله وقد حصل، والأصل عدم مانع غيره، مضافاً إلى إطلاق قوله عليه السلام:
«لا يجف عرقه». وتنزيل يد الأجير منزلة يد المستأجر؛ لأنّه
وكيل عنه ومأذون من قبله فيتحقق التسليم وكأنّه عمل وسلّم الثوب إلى وكيل المستأجر.
وتظهر ثمرة القولين في صورة
تلف الثوب أو إتلافه مثلًا بعد العمل وقبل تسليمه فانّه بناءً على عدم وجوب تسليم العين يستحق الأجير الاجرة بعد العمل، ولا يسقط بعدم التسليم شيء من الاجرة المستحقة بالعمل،
فإذا تلفت العين لم يكن عليه شيء؛ لأنّ العين في يد الأجير أمانة لا يضمنها إلّا مع
التعدي والتفريط .
ولو أتلفها ضمن قيمة العين بعد العمل أي مع وصف المخيطية لا قيمة ما قبلها، وله اجرة المسمّى.
وأمّا بناءً على وجوب تسليمها ففي صورة التلف يكون كتلف المبيع قبل قبضه من مال مالكه أي يكون ضمان العمل عليه فيكون من مال الأجير، ولا يستحق شيئاً من الاجرة.
ولو أتلفها الأجير- مثلًا- تخيّر المستأجر بين تضمينه إيّاه تامّاً بعد العمل مع دفع الاجرة إليه، وبين تضمينه إيّاه قبل العمل مع
فسخ الإجارة وعدم دفع شيء من الاجرة.
إلّا أنّه ذهب آخرون إلى تضمينه إيّاه غير معمول فقط، فتكون الصفة التي هي عمل الأجير بمنزلة المبيع وقد تلفت قبل قبضها فلا تذهب من مال المستأجر كالمبيع، بل يضمن الأجير الثوب غير معمول، ولا يضمنه معمولًا بدون دفع الاجرة،
وسيأتي بحثه مفصّلًا.
كما تظهر
الثمرة أيضاً في عدم جواز حبس العين بعد إتمام العمل إلى وقت استيفاء الاجرة بناءً على مجرد إتمامه، فتكون بيده أمانة؛ لعدم كون العين ولا هي مع الصفة مورداً للمعاوضة، فلو حبسها ضمن، بخلافه على القول الآخر.
هذا، ولكن ذكر بعض المحققين
جواز حبس الأجير للعين بعد
الاتمام حتى يستوفي تمام الاجرة على كلا القولين، وحينئذٍ فلو حبسها فتلفت من غير تفريط لم يضمن.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۱۹۵-۲۰۳.