سعة دائرة الفقه
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
سعة دائرة الفقه: قيل أنّ
الفقه یمثّل
نظریة ورؤیة واقعیة وکاملة لادارة امور
الانسان و
المجتمع من
المهد الی
اللحد وهذه العبارة التی قالها احد
الفقهاء المعاصرین الکبار، هو ليس إلاّ
الامام الخمینی مؤسس
الحکومة الفقهیة و
الجمهوریة الاسلامیة وليست هذه المقولة قالها اعتباطیاً، لانّ الفقه یتکفّل ضمان
النظام التشریعی للدین فی فضاء الحیاة، وهو علم معرفة الشریعة،
الشریعة التی تمثّل نظاماً منسجماً ومتّسقاً، هذه المنظومة التشریعیة- مع الاخذ بنظر الاعتبار خاتمیة
الدین الاسلامی- قد نظّمت بشکل انّها تتمکّن من رفد الانسان والمجتمع البشری فی مختلف ظروفه ومراحله والی یوم القیامة، بالقوانین والمقرّرات اللازمة، بالاعتماد علی الاصول الکلّیة لهذه الشریعة.
هناک عبارة معروفة تقول: «انّ الفقه یمثّل نظریة ورؤیة واقعیة وکاملة لادارة امور الانسان والمجتمع من المهد الی اللحد» وهذه العبارة التی قالها احد الفقهاء المعاصرین الکبار، (الامام الخمینی مؤسس الحکومة الفقهیة والجمهوریة الاسلامیة)
لیست امراً اعتباطیاً، لانّ «الفقه» کما تقدّم فی بحث «الفقه فی اللغة والاصطلاح» یتکفّل ضمان
النظام التشریعی للدین فی فضاء الحیاة، وهو علم معرفة الشریعة، الشریعة التی تمثّل نظاماً منسجماً ومتّسقاً، هذه
المنظومة التشریعیة- مع الاخذ بنظر الاعتبار خاتمیة الدین الاسلامی- قد نظّمت بشکل انّها تتمکّن من رفد الانسان و
المجتمع البشری فی مختلف ظروفه ومراحله والی یوم القیامة، بالقوانین والمقرّرات اللازمة، بالاعتماد علی الاصول الکلّیة لهذه الشریعة.
اذا اهتمّ
الفقهاء- بدلًا من التدقیق فی المسائل والموضوعات المعروفة- بالبحث والتحقیق فی المسائل والموضوعات التی تتناول ابعاداً جدیدة من حیاة الانسان المعاصر، وعلی حدّ تعبیر الشهید المحقّق،
محمّد باقر الصدر: «انّ السیر العمودی للحرکة الفکریة لهؤلاء الفقهاء، الذی یتمیز بالحدّ الاعلی من الدقّة، لو استبدل بالسیر الافقی فی مسائل
الحیاة المعاصرة»
فسوف یتّضح انّ حدود دائرة الفقه تستوعب جمیع میادین الحیاة البشریة. انّ تبیین وتحلیل هذه المسالة یقتضی الاشارة الی عدّة نقاط:
اذا کانت
الشریعة الدینیة تتکفّل وضع قوانین فی جمیع مساحات الحیاة البشریة، فانّ علم الفقه الذی هو علم معرفة الشریعة، ایضاً یمکنه الدخول فی جمیع میادین الحیاة، وتکون
الرسالة العملیة والفتوائیة للفقهاء بمثابة رسالة الحیاة فی جمیع ابعادها. وعلی هذا الاساس، ومن اجل تعیین دائرة علم الفقه، لابدّ فی البدایة من معرفة دائرة وحدود الشریعة الاسلامیة، وذلک من خلال استعراض ثلاث نقاط فی هذا الصدد:
۱: ما هو المقصود من
الشریعة؟
۲: ما هو هدف
الدين؟
۳: ما هي الموارد التي يحتاج الإنسان فيها للدين؟
إنّ «الشريعة» عبارة عن
القوانين العملية التي وضعها الدين لتنظيم وهداية أعمال وسلوكيات الناس باتّجاه
المقاصد والأغراض العليا التي يريدها
الدين، بالطبع فإنّ هذه الشريعة تمتاز بأمرين أساسيين:
الأوّل: إنّها تشكّل الجانب الملموس والعيني من الدين، لأنّ
العقائد الدينية مع شدّة أهمّيتها فإنّها تتّصل بروح الإنسان وفكره، بجهة باطنية، بينما العمل بالأوامر والأحكام الشرعية يتميّز بجهة ظاهرية، بمعنى أنّها ترتبط مباشرة بالجانب العملي والسلوكي في
حياة الإنسان و
المجتمع البشري وتعمل على تنظيم أمور معيشتهم وحلّ التعقيدات الحقوقية في المجتمع البشري.
والآخر: إنّ الشريعة تمثّل أوسع قسم من أقسام الدين، لأنّه من الممكن أن يترتّب على أصل واحد من الأصول العقائدية آلاف الأعمال والسلوكيات، والإنسان قد يجد نفسه مكلّفاً وملزماً بآلاف الأعمال و
التكاليف في مقابل ذلك الأصل الواحد.
ب) ما هو هدف الدين؟
لا شكّ في أنّ الغاية الأساسية للدين غرس
الإيمان في واقع الإنسان بأصلين مهمّين هما:
المبدأ و
المعاد، وهذا الإيمان يمنح الحياة بعداً جديداً وتوجّهاً خاصّاً، ويرسم لحياة الإنسان نمطاً من المعيشة يتطلّب أحكاماً وقوانين و
واجبات و
محرّمات، وهذه القوانين هي التي تقود الإنسان بسلام في ممرّات الحياة، وتنقذه من منزلقات هذه الحياة والمآزق الخطرة التي تنبع أحياناً من وساوس الإنسان الباطنية، وأحياناً أخرى من العلاقات الإجتماعية المنحرفة، والتي بدورها تمدّ جذورها نحو الرغبات النفسانية السلبية في واقع الإنسان، فالغاية إنقاذ الإنسان من جميع هذه المنزلقات وإيصاله إلى ساحل الأمن والأمان، وهذا الأمر يتحقّق من خلال وضع مجموعة من القوانين والمقرّرات والواجبات والمحرّمات التي تقوم على أسس وقواعد عقائدية في
المنظومة الدينية.
وفيما يتعلّق بالسؤال الثالث، متى يحتاج الإنسان لهداية الدين، وبالتالي يحتاج لوضع قوانين وتكاليف دينية؟ فينبغي القول كمقدّمة: إنّ الإنسان في مسيرة حياته يملك حاجات متنوعة، وبما أنّه بإمكانه- من أجل إشباع هذه الحاجات- سلوك طرق مختلفة والتحرّك بسلوكيات متفاوتة، فإنّ الشريعة والفقه يرسمان له أحسن وأنفع ما يمكن أن يسلكه الإنسان لإشباع هذه الحاجات، بصورة صحيحة.
ج) موارد الحاجة للدين
في البداية ومن أجل أن نتعرّف على الموارد والدوائر التي يحتاج الإنسان فيها للهداية الدينية، وبالتالي يحتاج لوضع القوانين و
المقرّرات، وما ينبغي له وما لا ينبغي في واقع الحياة، وبما أنّ الإنسان في حركة حياته يحتاج إلى أمور مختلفة وكلّ حاجة يمكن أن تكون لها حلول متعدّدة، فإنّ الشريعة وكذلك الفقه الإسلامي يعتبر أفضل الحلول، ويمنح الإنسان أحسن الاستجابات لهذه الحاجات، ويقرّر في أحكامه السلوك السليم والصحيح لرفع هذه الحاجات وحلّ تلكم المشكلات.
امّا ما هی الحاجات والمشاکل التی یواجهها الانسان فی واقع الحیاة وفی ایّ موارد؟ فی مقام الجواب ینبغی القول: انّ الانسان یملک ثلاثة انواع من الحاجات:
انّ اوّل نوع من حاجة الانسان ما یتّصل بدائرة الحیاة
الطبیعیة، من قبیل الحاجة للغذاء،
المسکن،
الدفاع عن النفس، الانتقال من مکان الی آخر. وربّما یقال انّه ومن اجل اشباع هذا النوع من الحاجات، لا یحتاج الانسان الی الفقه، لانّ الحاجات موجودة ومتوفّرة بشکل مباشر فی
المحیط الطبیعی الذی یعیش فیه، ویکفی لرفعها ان یقوم الانسان لاشباع هذا النوع من الحاجات بالسعی المتواصل لاستغلال عناصر الطبیعة ویستثمرها لصالحه ویعمل علی تسخیر موارد الطبیعة حوله فی تحقیق هذا المطلوب، ویکفی للانسان ان یستخدم
العقل و
العلم و
قدرة الابداع فیه للوصول الی هذا الهدف، ولا یحتاج حینئذٍ لتدخّل الدین، لانّ تطویع قوی الطبیعة والعمل علی اعمار الحیاة فی بُعدها المادّی لا یرتبط بهدایة او ضلالة الانسان، لیکون مشمولًا لمقرّرات الشریعة وقوانین الفقه. وببیان آخر: انّ رسالة الدین لا تقوم علی اساس تعلیم العلوم والفنون لتسخیر الطبیعة للانسان، لانّ ارتکاب الخطا فی هذه المساحة لا یؤدّی اطلاقاً الی انحراف الانسان عن
خطّ الهدایة والسقوط من اُفق الانسانیة، مثلًا اکتشف الانسان بعد الفی عام من عمر
نظریة بطلیموس حول الارض و
الکرات السماویة، خطا هذه النظریة واستبدلها بنظریة جدیدة، وهی نظریة
کبرنیک و
غالیلو، ومثل هذا الخطا لا یتقاطع مع وصول الانسان الی آفاق السعادة ولا یؤثّر علی مسیرة الانسان والغایة من خلقته.
وفی مقام الجواب یمکن القول: انّ هذا الکلام صحیح ومقبول من
جهة، وهی انّ رسالة
الدین لاتتمثّل فی تعلیم الانسان العلوم و
الفنون والاسالیب المختصّة بتسخیر
الطبیعة، ولکنّ هذا المعنی لا یعنی انّ
الاسلام لم یقرّر ایّ حکم من الاحکام لهذه النشاطات والفعالیات التی یقوم بها الانسان فی حرکة حیاته الطبیعیة، لانّ من الممکن ان تؤدّی بعض اسالیب تسخیر الطبیعة الی مفاسد اخلاقیة واجتماعیة، وبالتالی تقف حاجزاً امام مسیرة الانسان التکاملیة، فلابدّ من نهیه عن اتّخاذ مثل هذه الاسالیب والاعمال السلبیة، علی سبیل المثال فانّ
الاسلام فی
المسائل الاقتصادیة وما یتعلّق بالمصارف قد حرّم الاسالیب التی تفضی الی
الربا، وکذلک حرّم
بیع وشراء
المخدّرات و
المشروبات الکحولیة وجمیع الامور المضرّة للانسان فی بدنه وروحه واخلاقه. کان
النبیّ الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) یعلم عن طریق
الوحی بانّ النوع الفلانی من اللحم مفید للانسان والنوع الآخر مضرّ، وقد احلّ الاول بحکم الهی وحرّم الثانی، وهکذا بالنسبة لسائر الانواع من المشروبات والامور المتعلقة بحیاة الانسان المادیة. وبعبارة اخری: انّ عدم تدّخل الشریعة فی مجالات العلوم والفنون المرتبطة بتسخیر الطبیعة، لیس بمعنی عدم وضع
احکام کلیّة لهذه الاسالیب ووضعها فی اطار هادف لخدمة الإنسان في طريق سعادته وتكامله (ولعلّ قائل هذا الكلام لا ينكر هذا المطلب) لأنّه بالرغم من أنّ الإنسان يتمكّن من خلال السعي الجادّ واستخدام
العقل و
العلم من إشباع حاجاته الطبيعية بواسطة تسخير الأشياء الموجودة في عالم الطبيعة، ولكن لا شكّ في أنّ هذه العناصر تتزاحم عادة مع عناصر أخرى من شأنها تهديد حياة الإنسان وبقائه، ولابدّ من مواجهتها والتصدّي لها وإبعادها عن حياة الإنسان، ومن جهة أخرى فإنّ الكثير من أفراد البشر لا يعيشون القناعة، بل يطلبون المزيد حتّى بعد إشباع حاجاتهم الطبيعية، فبعد أن يحرزوا أصل بقائهم ووجودهم، يتحرّكون لإشباع رغباتهم وميولهم النفسانية من
حياة الترف واللذائذ، وفي ظلّ هذا التزاحم والصراع وطلب المزيد ومع عدم
الالتزام الديني، فإنّ احتمالات الانحراف والزيغ ستزداد قطعاً، هذه الإنحرافات تؤدّي إلى تكريس ظواهر الفقر والفساد والتمييز في أجواء المجتمع البشري، ومن الطبيعي أنّ حالات
الفقر و
الفساد و
التمييز العنصري والعرقي تؤثّر تأثيراً مباشراً على
روح الإنسان ونفسه وتسبّب بدورها مزيداً من حالات اليأس و
الجنوح الأخلاقي.
ولهذا السبب نرى وجود واجبات ومحرّمات كثيرة في
الفقه الإسلامي في مجال المسائل التي تتّصل بحياة الإنسان الطبيعية، لحفظه من خطر
النفس الأمّارة بالسوء. والشاهد على هذا الكلام وجود كتاب
الطهارة و
النجاسة فيالفقه لحفظ الإنسان في مجال الصحّة ورعاية الأمور الصحيّة، وكتاب الأطعمة والأشربة لإبعاد الإنسان عن الأطعمة المضرّة في بدنه أو المضرّة بحاله
المعنوي والأخلاقي، وكذلك تحريم بعض أشكال السلوكيات والأعمال المضرّة تجاه الطبيعة حيث تشكّل خطراً على البيئة، وبشكل عام فهناك أحكام تقرّر
حرمة الإضرار بالنفس وما يشكل خطراً على سلامة
جسم الإنسان وروحه (وربّما لا يدرك الإنسان نفسه خطر هذه الأمور).
النوع الثاني من الحاجات، هي
الحاجات الروحية والمعنوية والتي تتّصل بدائرة
النفس الإنسانية وتكون منشأ الميول الخيّرة أو الشريرة في واقع الإنسان وتؤدّي إلى صدور سلوكيات تتّسم ب
القيمة الأخلاقية أو ما يخالف القيم في حياة الإنسان، مثل الحاجة للهدوء النفسي والروحي والحاجة للعبادة، ومعرفة سرّ الوجود وعلّة خلق الإنسان والعالم، والحاجة إلى
الحبّ و
الإحسان، وأمثال ذلك.
ولا شكّ في أنّ الاستجابة الصحيحة و
الإشباع السليم لهذه الحاجات في الإنسان يؤدّي إلى تصحيح مسيرته في خطّ
العدالة والفضيلة، وعلى العكس من ذلك فإنّ الاستجابة السقيمة والإشباع غير الصحيح يورثه حالات
الكفر و
الظلم والكراهية.
إنّ حاجة الإنسان للفقه لإشباع هذه الحاجات أمر واضح جدّاً، لأنّه بالرغم من أنّ
عقل الإنسان وفطرته يدركان الخير والشرّ والحقّ والباطل في حدود معينة ويقودان الإنسان إلى ما فيه صلاحه وخيره في هذا المجال، إلّا أنّنا نعتقد بأنّ تعقيد المسائل النفسية والروحية وتدخّل النوازع و
الأهواء النفسانية في هذه العملية كبير جدّاً إلى حدّ أنّه لو لم يتدخّل الوحي في عملية إرشاد الإنسان وهدايته وتفويض زمام أمره إلى العقل و
التجربة البشرية، فإنّ الإنسان سيتحرّك قطعاً في خطّ الانحراف والخطيئة. على هذا الأساس فإنّ قسماً مهمّاً من
الشريعة المقدّسة اختصّت بأمر
العبادات لتدارك هذه
الحاجات المعنوية، والفقه الإسلامي تكفّل إرشاد الإنسان إلى طريق العبودية والإيمان والتحلّي ب
مكارم الأخلاق بالاستعانة بالركنين الآخرين:
الأخلاق و
العقيدة.
النوع الثالث هو
الحاجات الاجتماعية، أي الحاجات التي أفرزتها ضرورة الإرتباط مع الآخرين والحياة إلى جانب أفراد
المجتمع، سواءً كانت هذه الضرورة تمتدّ إلى باطن
النفس البشرية والفطرة الإنسانية و
الحاجات الروحية، أم تمتدّ بجذورها إلى
الحاجات الطبيعية.
إنّ الاستجابة لهذا القسم من الحاجات، وبشكل عام تنظيم
العلاقات الاجتماعية لأفراد البشر، يتسبّب في إيجاد
الأنظمة و
المؤسسات المدنية والاجتماعية من قبيل ن
ظام الأُسرة و
الملكية و
الاقتصاد و
السياسة و
الحكومة. إنّ حاجة المتدينين للفقه في مجال رفع مشكلات هذا القسم من الحاجات، أمر بيّن أيضاً، لأنّه:
أوّلًا: إنّ اتّساق وانسجام النظم المذكورة مع الغاية الكلّية للدين وهي هداية الإنسان وحركته في خطّ
الكمال المعنوي، يعدّ أمراً ضرورياً، لأنّه من الواضح في صورة عدم تحقّق الانسجام بين هذه الأمور، فإنّ ذلك من شأنه أن يقود الإنسان نحو وادي الانحراف والسقوط والابتعاد عن مسير الهداية والصلاح.
ثانياً: إنّ هذا الانسجام يتطلّب وجود واجبات ومحرّمات ومقرّرات وقوانين لا يستطيع
العقل البشريّ لوحده ولا
التجربة البشرية من ضمان وتأمين هذه الأمور، بل يجب التوجّه في ذلك إلى الفقه والاقتباس من منهله، الفقه الّذي يستوحي أحكامه من الوحي الإلهي، وعلى هذا الأساس نرى وجود أحكام كثيرة في أبواب المعاملات والأحوال الشخصية في
الفقه تتكفّل منح الإنسان الطهر والصفاء و
الطمأنينة في حركته الاجتماعية.
وببيان آخر: إنّ الإنسان بعقله وفهمه لا يمكنه وضع قوانين ومقرّرات صحيحة في هذا المجال، حيث إنّه كما يملك القدرة على الصلاح والفلاح، فهو يملك القدرة أيضاً على
الفساد و
الطغيان: «إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَّآهُ اسْتَغْنَى» حيث يعيش الإنسان في نوازعه
النفسانية حالات
الظلم و
الجهل و
الحرص و
الطمع بأموال وحقوق الآخرين وعدم القناعة بحقّه وماله، ومع هذا الحال كيف يعقل أنّ الدين الذي جاء لهداية الإنسان إلى سعادة الدنيا والآخرة، يترك الإنسان لوحده ليقوم بتنظيم حياته
الاجتماعية من خلال الاستعانة بعقله وتجاربه ويقرر الدين صحة هذه التجارب والمعطيات البشرية في حركة
الحياة الاجتماعية.
ومن جملة الأمور التي سبّبت اتّساع مساحة
الفقه الإسلامي هو أنّ الإسلام أمضى الكثير من القوانين الاجتماعية التي كانت مرسومة بين العقلاء، مع بعض الإصلاحات فيها وقد أقرّها الإسلام بشكل عام سوى بعض الموارد المخالفة للأصول الأخلاقية والعدالة الاجتماعية.
وفي هذا المجال يمكننا ذكر نماذج من القوانين المتعلّقة بالمعاملات والبیع والشراء والاجارة والمضاربة والمزارعة والهبة والوصیة والوقف وامثال ذلک والتی تستفاد من الاصل الکلّی فی الوفاء بالعهد والالتزام بالعقد کما تقول الآیة الشریفة: «اَوْفُوا بِالْعُقُودِ».
، والحدیث النبوی: «المؤمِنونَ عِندَ شُروطِهم»
فقد اقرّها الاسلام باستثناء بعض الموارد المحدودة، والاهمّ من ذلک اقرّ ما یسمی ب «سیرة العقلاء» حیث تعتبر فی الفقه دلیلًا شرعیاً مع عدم ردع الشارع ونهیه.
علی هذا الاساس فانّ جمیع القوانین العرفیة والعقلائیة تدخل، مع بعض الاصلاحات، فی دائرة الفقه الاسلامی، والدلیل الاساس فیها هو ما تقدّم من سیرة العقلاء التی امضاها الاسلام بسکوت الشارع وعدم ردعه، والکثیر من الکتب الفقهیة تتضمن مثل هذه الموارد. وکذلک امضی الاسلام مؤسسات اجتماعیة مهمّة مثل: الاُسرة، انواع الشرکات، والاهم من ذلک نظام السلطة والحکومة والجهاز القضائی الذی کان متداولًا فی عرف العقلاء من قدیم الزمان مع اجراء بعض الاصلاحات علیه، حیث یندرج فی قسم السیاسات فی الفقه الاسلامی.
لا شکّ فی انّ الروایات الصادرة عن النبیّ الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) وائمّة اهل البیت (علیهمالسّلام) لیست علی وتیرة واحدة بل تتضمّن انحاء واقساماً مختلفة:
القسم الاعظم- ان لم یکن جمیع هذه الروایات- ناظر لبیان الاحکام الدائمیة والشاملة فی الاسلام والتی لا تقبل التغییر، فهی دائمیة وباقیة الی یوم القیامة والتی هی من قبیل «القضیة الحقیقیة» بمقتضی «حَلالُ مُحَمَّدٍ حَلالٌ ابَداً الی یَومِ القِیامَةِ وحَرامُهُ حَرامٌ ابَداً الی یَومِ القِیامةِ».
والقسم الآخر من هذه الروایات، وهی محدودة جدّاً، ناظر- من خلال بعض القرائن- لاحکام مؤقّتة وتتّصل بمقطع زمنی خاص او مکان خاص وهی کما فی الاصطلاح من قبیل «القضیة الخارجیة» ومن هذا القبیل الروایة الواردة فی کیفیة تقسیم ماء المدینة بین
المزارعین، والنهی عن منع میاه الآبار (ووضعه تحت اختیار المزارعین والمحتاجین)
او ما ورد فی «نهج البلاغة» عن
امیرالمؤمنین علیّ (علیهالسّلام) فی شرحه لحدیث النبیّ الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) الذی یقول: «غیِّروا الشَّیْبَ ولَا تَشَبَّهُوا بالیهود» فقال امیرالمؤمنین علیه السلام: «انّما قال (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) ذلِکَ والدِّینُ قُلٌّ وامّا الآنَ وقَدِ اتَّسَع نِطاقُه وضَرَب بِجِرانِه فَامرؤٌ وما اختارَ».
القسم الثالث من روایات وکلمات ائمّة الدین العظام، ناظر- مع بعض القرائن ایضاً- الی تعلیمات وارشادات عادیة، والامام هنا بعنوانه شخص مطّلع علی الامور یجیب بعض الاشخاص ویرشدهم لبعض المسائل المختلفة فی حیاتهم ومعیشتهم من قبیل بعض التعلیمات الصحّیة والغذائیة. وهنا یثار هذا السؤال: ما هو مقتضی الاصل الاوّلی فی صورة الشکّ؟ ربّما یقال انّ الاصل الاوّلی:
ا) الشمول وعدم اختصاص الحکم بفرد خاص او جماعة معیّنة.
ب) الاصل ان یکون ما قاله المعصوم هو حکم اللَّه لا انّه ارشاد فی قضایا عادیة.
ج) الاصل بقاء واستمرار هذه الاحکام الی یوم القیامة وعدم اختصاصها بزمان معیّن او منطقة خاصة.
انّ جمیع هذه الجهات والابعاد الثلاثة تعتمد فی الاساس علی ظهور مقام ومنصب
المعصوم فی واقع المجتمع البشری، «ای ظهور الحال» الذی هو حجّة کما فی
حجیّة کلامه، لانّ المسؤولیة الاصلیة للرسول الاکرم (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) (وسائر المعصومین علیهم السلام) هی تبلیغ دین اللَّه تعالی: «وَمَا عَلَی الرَّسُولِ اِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِینُ»
وتبیین
المفاهیم القرآنیة: «وَاَنزَلْنَا اِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ اِلَیْهِمْ».
«وَمَا اَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ اِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِیُبَیِّنَ لَهُمْ»
وکذلک حفظ الشریعة من عناصر التحریف والخلل، وظاهر هذا المقام هو انّ ما یصدر عن هؤلاء
المعصومین یمثّل بیان حکم من احکام اللَّه ومفهوم من المفاهیم القرآنیة الخالدة والشاملة، کما انّ المفاهیم القرآنیة تتمتّع بهذه المیزة، ای الشمول والخلود «اُوحِیَ اِلَیَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِانذِرَکُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ»
، «... لانّ اللَّه تبارک وتعالی لم یجعَله لزمانٍ دونَ زمانٍ ولا لِناسٍ دونَ ناسٍ...» .
فانّ ذلک یصحّ فی حالة عدم ثبوت خلافه، یعنی عدم وجود قرائن وشواهد تشیر الی انّ الکلام المذکور کان قد صدر عن النبیّ (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم) او الامام (علیهالسّلام) بما انّه حاکم او بما هو ناصح وعالم وامثال ذلک، وعلیه فانّ مقتضی الاصل «ظهور الحال» هو انّ هذه الاحکام الهیّة شاملة.
«
الافراط» فی تعیین دائرة الفقه هو ان نقول بوجود احکام فقهیة حتی فی جزئیات الحیاة الیومیة وانّ
الاحکام الخمسة فی الفقه جاریة فی جمیع انحاء سلوکیات الانسان وفی جمیع میادین الحیاة من قبیل ما نقل عن بعض مشایخ الصوفیّة انّه قال: انّی لم آکل الثمرة الفلانیة لاننی لحدّ الآن لا اعلم انّ رسول اللَّه اکل منهاام لا؟ واذا کان قد اکل منها فکیف آکلها؟ هذا النمط من الفهم للفقه یقوم علی اساس تصوّر انّ الانسان لیس لهای شان واعتبار فی ادارة امور حیاته، وانّه یحتاج فی کلّ حرکة وعمل لارشاد الشریعة وبیان حکمها فی هذا الخصوص. انّ هذا القبیل من الفهم الافراطی یمکن الوقوف علیه الیوم لدی جماعة السلفیین حیث انّهم ینکرون کلّ جدید فی حرکة الحیاة الیومیة تحت عنوان (البدعة) ویخالفون مظاهر التطوّر الصناعی و
التکنولوجی بشکل مطلق.
وبدیهی انّ هذه الرؤیة بالرغم من انّها تری للفقه شمولیة وسعة اکثر، ولکنّها فی الحقیقة تعمل علی تجمید حرکة الفقه وفعالیته، وبالتالی عدم قدرة الفقه علی حلّ مشاکل المجتمعات الانسانیة. وکما تقدّم فانّ
الفقه و
القوانین الفقهیة لا تستوعب اعمال وسلوکیات الانسان سوی ما له تاثیر فی هدایة الانسان فی خطّ الصلاح وا
لایمان، وامّا المجالات العادیة فی حیاة الانسان التی لا تاثیر لها فی هدایة او اضلال الانسان، فانّها لا تدخل فی دائرة الفقه و
الشریعة.
وهذه النقطة تتّضح اکثر عندما نعتقد بانّ
المباحات لا حکم لها وقد فوّض الی الانسان ترک وفعل
المباحات، واساساً فانّ
الاباحة لا تعدّ من
الاحکام التکلیفیة بل هی عدم الحکم، لانّ حقیقة «
الحکم التکلیفی» هو ما یوجب
التکلیف علی المخاطب وانّ
الحاکم یرید بهذا الخطاب التکلیفی ان یقوم المخاطب بعمل شیء معیّن او ترکه (حتّی لو لم یکن هناک الزام فی البین کالاستحباب و
الکراهة) و
الاباحة هنا بمعنی رفع التکلیف وتقع فی مقابله.
«امّا التفریط» فی تعیین حدود مساحة الفقه فهو ما یراه بعض المسلمین المتجدّدین الذین یقولون: انّ الدین یتکفّلبیان الموازین و
القیم الکلّیة التی تتّصل بهدایة الانسان، وامّا عملیة التنفیذ فهی موکلة للانسان نفسه. وببیان آخر: انّ
الدین لایتدخّل فی اسالیب بناء حیاة الانسان و
المجتمع البشری بل یتکفّل هدایة الانسان المعنویة والاخلاقیة. هذه النظریة المتاثّرة بالمسیحیة الحالیة تری انّ الدین یتعهّد بایجاد العلاقة بین الخلق والخالق (العبادات) او بین الانسان ونفسه (المسائل الاخلاقیة الفردیة)، وامّا الامور الاخری کالحکومة و
المسائل الحقوقیة، فهی خارجة عن دائرة الدین واهتماماته، وداخلة فی دائرة العرف، بمعنی انّ هذه الاحکام والقوانین ینبغی ان تقرّر من خلال تشخیص علماء کلّ عصر وبملاحظة عرف الزمان والفهم المتناسب مع آفاق الثقافة البشریة، و «امّا ما یهتمّ به الکتاب والسنّة فهو الحیاة المعنویة للانسان (اجتناب الذنب والتقرّب الی اللَّه تعالی) ومن هنا فالانسان
حرّ فی کیفیة ایجاد
التمدّن البشری والثقافة الاجتماعیة والعلاقات بین افراد البشر، وقد فوّض الی الانسان تشخیص اسالیب ومناهج الحیاة فی هذا العالم».
هذا فی حین انّ
الفقهاء وعلماء الاسلام یخالفون ذلک ب
الاجماع، ویقولون انّ الدین، مضافاً الی اهتمامه بالامور
العبادیة و
الاخلاقیة، یستوعب فی احکامه جمیع المسائل الحقوقیة وما یتعلّق بالروابط بین افراد البشر، وکذلک ما یتّصل بمسالة الحکومة والامور
السیاسیة، ومن هنا فانّ القوانین و
الاحکام الاسلامیة ناظرة الی جمیع حاجات البشر وتطلّعاتهم، وامّا تشخیص علماء کلّ عصر وملاحظة
العرف الفعلی و
المسائل الکلّیة فی حرکة
المجتمعات البشریة، فانّها تختصّ بدائرة تشخیص موضوعات الاحکام، حیث تقدّم تفصیل الکلام عن ذلک فی بحث «
الفقه فی اللغة والاصطلاح» من هذا الکتاب.
موسوعة الفقه الاسلامي المقارن المأخوذ من عنوان «سعة دائرة الفقه» ج۱، ص۴۷-۵۴.