صفة الإحرام
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
الإحرام جزء من
نسك عبادي هو الحجّ أو العمرة، وبه يبتدئ مناسك الحجّ والعمرة حتّى جعله
الفقهاء من أركانهما، فإذا كان الحجّ أو العمرة واجبين وجب
الإحرام أيضاً ضمن ذلك، وإذا كانا مستحبّين كان مستحبّاً ضمنيّاً، كما هو الحال في شرائط أو أجزاء سائر العبادات، إلّا أنّه قد يجب الإحرام بالحجّ أو العمرة شرطاً لغيره كمن أراد الدخول إلى
مكّة . وفيما يلي تفصيل ذلك:
•
من يجب عليه الإحرام، المعروف أنّه يجب الإحرام بالعمرة أو الحجّ على كلّ من يريد دخول مكّة، بل قيل: إنّه لا
خلاف فيه، بل ادّعى
الشيخ وغيره
الإجماع عليه وإن دخل في السنة مرّتين أو ثلاثاً كما في
المقنع .
يستثنى من وجوب الإحرام لمن يريد دخول مكّة عدّة موارد من قبيل: الداخل بعد إحرامه قبل مضي شهر، أو من تكرّر دخوله كالحطّاب و
الحشّاش ونحوهما ممّن يأتي بحوائج الناس إلى البلد، وفيما يلي نتعرّض إلى ذلك:
•
إحرام الراجع إلى مكة، من موارد
استثناء وجوب الإحرام الدخول قبل مضي شهر من إحرامه، كما صرّح به جماعة من الفقهاء كالحلّي والمحقّق و
ابن سعيد والعلّامة وغيرهم.
استثنى جماعة من الفقهاء- كالصدوق و
الشيخ الطوسي وابن سعيد وغيرهم
- المريض من وجوب الإحرام، ومستندهم في ذلك صحيح ابن مسلم، قال: سألت
أبا جعفر عليه السلام هل يدخل الرجل مكّة بغير إحرام؟ قال: «لا، إلّا مريضاً أو من به
بطن ».
ونحوه صحيحه الآخر، وفيه: (الحرم) بدل (مكّة).
لكن في خبر
رفاعة بن موسى عدم جواز الدخول محلّاً حتّى للمريض، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل به بطن ووجع شديد، يدخل مكّة حلالًا؟ قال: «لا يدخلها إلّا محرماً»، وقال: «يحرمون عنه».
وفي خبره الآخر عنه عليه السلام أيضاً، قال: سألته عن الرجل يعرض له المرض الشديد قبل أن يدخل مكّة، قال: «لا يدخلها إلّا بإحرام».
وقد حملهما الشيخ الطوسي
على الاستحباب، وارتضاه السيّد الطباطبائي.
وقال المحقّق النجفي: «الظاهر الحمل على الندب حتّى في الإحرام عنه إذا كان المرض على وجه لا يتمكّن من نيّة الإحرام معه كالجنون ونحوه»،
وذلك لما عرفت من
الرخصة للمريض في الإحلال في المعتبرة التي أفتى بمضمونها الفقهاء، بل ادّعى المحقّق النجفي عدم وجدان الخلاف فيه بين الأصحاب.
ذهب الفقهاء- كالشيخ الطوسي
و
العلّامة الحلّي وغيرهما
- إلى استثناء العبيد أيضاً، فجوّزوا لهم دخولها من غير إحرام، واستدلّ العلّامة في
المنتهى لذلك: «بأنّ السيّد لم يأذن لهم
بالتشاغل في النسك عن خدمته، فإذا لم يجب عليهم
حجّة الإسلام لهذا المنع فعدم وجوب الإحرام لذلك أولى».
ونفى السيّد العاملي البأس عنه،
واستجوده المحدّث البحراني، ثمّ قال: «ومرجعه إلى أنّ الإحرام إنّما يجب للنسك، والنسك غير جائز له بدون
إذن السيّد، فيسقط الإحرام حينئذٍ».
ونوقش فيه
بمنافاته لإطلاق الأدلّة وعمومها، وعدم صلاحيّة ذلك لتخصيص الأدلّة المزبورة، وكون العبد لا يقدر على شيء من دون إذن مولاه، إنّما هو في غير الواجبات الشرعيّة. وحينئذٍ فالمتّجه صحّة إحرامه للدخول وإن لم يأذن له مولاه، بل وإن كان آبقاً. ولا ينافي ذلك توقّف صحّة إحرام العبد على إذن مولاه بعد تنزيله على غير الفرض.
يجوز دخول من يتكرّر دخوله كالحطّاب والحشّاش و
المجتلبة بلا إحرام، وادّعي عدم الخلاف فيه،
بل عن ظاهر الشيخ و
ابن إدريس الاتّفاق عليه؛
للزوم الحرج عليهم،
ولقول
الصادق عليه السلام : «إنّ الحطّابة والمجتلبة أتوا
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه فأذن لهم أن يدخلوا حلالًا»».
ولا فرق فيما يحتاج إليه أهل مكّة بين الأرزاق و
الأطعمة وغيرها مثل
الجصّ و
الحديد وغير ذلك من حوائج الناس، فإنّ عنوان (المجتلبة) المذكور في النصّ عنوان عامّ يشمل كلّ من يجتلب حوائج الناس من كلّ شيء.
بل ظاهر الحلّي والمحقّق وغيرهما
أنّ ذلك مثال لكلّ من يتكرّر دخوله وإن لم يكن من الحطّابة والمجتلبة والحشّاشة، حتّى نسب إلى المشهور
التعدّي إلى كلّ من يتكرّر منه الدخول وإن كان لأغراض شخصيّة، كمن يتكرّر منه ذلك لعيادة مريض أو كانت له ضيعة فيها، فيتكرّر دخوله إليها على ما صرّح به العلّامة.
واحتاط بعضهم أو جعله الأولى كالسيّد العاملي والمحدّث البحراني والطباطبائي،
حيث اقتصروا على مورد النصّ.
بينما قيّده
الإمام الخميني قدس سره بما إذا اقتضى شغله التكرّر، وأمّا مطلق من يتكرّر منه ذلك فذكر أنّ
إلحاقه به مشكل.
وقال السيّد الحكيم: «لو بنى على كون ذكرهما (أي الحطّابة والمجتلبة) من باب المثال يتعيّن التعدّي إلى من كانت مهنته تقتضي
التكرار ، لا مجرد بنائه على التكرار».
وذهب الفاضل الهندي إلى كفاية
الذهاب و
الإياب مرّة واحدة في كلّ شهر، فقال: «إلّا المتكرّر دخوله كلّ شهر بحيث يدخل في الشهر الذي خرج كالحطّاب والحشّاش والراعي وناقل الميرة ومن له ضيعة يتكرّر لها دخوله وخروجه إليها للحرج، وقول الصادق عليه السلام في صحيح رفاعة». ثمّ ذكر مرسل حفص وحمّاد وغيرهما من النصوص المتضمّنة للتحديد بالشهر، مثل مرسل الصدوق، فقال: «وفيه النصّ على شهر الخروج».
لكن ذهب السيّد الحكيم إلى اعتبار التكرّر في كلّ شهر، وقال: «الظاهر أنّ التكرار على النحو المتعارف من أهل تلك
المهنة ، فلو كان التكرار بطيئاً أشكل التعدّي إليه وإن كان في الشهر مرّة، ولأجل ذلك يشكل ما في
كشف اللثام ... والظاهر من التكرار لمثل المجتلبة والحطّابة الوقوع في الشهر مرّات، ولا يكفي التكرار في الشهر مرّة».
هذا، وذهب المحقّق النجفي إلى كفاية مطلق التكرّر، وقال: «إنّ الظاهر عدم اعتبار تكرّر دخولهم قبل
انقضاء الشهر، فلو فرض أنّ بعض المجتلبة يحتاج إلى فصل أزيد من شهر دخل حلالًا ولا شيء عليه».
ثمّ ذكر في وجه مناقشة كلام الفاضل الهندي: أنّ ظاهر الأصحاب استثناء المجتلبة والحطّابة في قبال الاستثناء في الشهر، فلا يعتبر في الأوّلين التكرار في الشهر مرّة.
اللّهمّ إلّا أن يكون من جهة اعتبار سبق الإحرام أوّلًا دون المجتلبة والحطّابة. وتبعه عليه السيّد الخوئي، حيث صرّح بأنّ «
الميزان في الحكم بجواز الدخول حلالًا صدق عنوان الحطّاب أو المجتلبة، ولا يعتبر تكرّر دخوله، فلو أتى مثل هذا الشخص بحوائج
البلد ولو في كلّ شهرين يشمله النصّ الدالّ على جواز الدخول محلّاً؛ لصدق عنوان المجتلبة عليه على الفرض».
ذهب الشيخ والحلّي وغيرهما إلى جواز دخول من أراد
القتال المباح محلّاً
بلا خلاف،
كما دخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عام
الفتح وعليه
المغفر ،
ونسبه الشهيد الثاني وغيره إلى المشهور بين الأصحاب.
قال العلّامة في التذكرة: «إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دخل يوم الفتح مكّةَ حلالًا وعلى رأسه المغفر، وكذا أصحابه».
وقال في المنتهى: «(لا يجب الإحرام على) من دخلها لقتال مباح، وبه قال
الشافعي وأحمد... لنا: ما رواه
الجمهور : أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دخل يوم الفتح مكّةَ حلالًا وعلى رأسه المغفر، وكذلك أصحابه، ولم يحرم أحد منهم يومئذٍ».
وقال في موضع آخر: «من يريد دخولها لقتال
سائغ ، كأن يرتدّ قوم فيها أو يبغون على
إمام عادل ويحتاج إلى قتالهم، فإنّه يجوز دخولها من غير إحرام؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دخلها عام الفتح وعليه عمامة سوداء. لا يقال: إنّه كان
مختصّاً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّه قال: «مكّة حرام لم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي، وإنّما احلّت لي ساعة من نهار. لأنّا نقول: يحتمل أن يكون معناه: احلّت لي ولمن هو في مثل حالي. لا يقال: إنّه عليه السلام دخل مكّة مصالحاً، وذلك ينافي أن يكون دخولها لقتال. لأنّا نقول: إنّما وقع الصلح مع أبي سفيان ولم يثق بهم وخاف غدرهم، فلأجل خوفه عليه السلام ساغ له الدخول من غير إحرام».
ونوقش فيه
: بأنّه لا يمكن
التعويل عليه بعد ما سمعت في صحيحة
معاوية بن عمّار التي ذكرها العلّامة الدالّة على حرمة مكّة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وغيره، المؤيّدة بما رواه الصدوق بسنده عن كليب الأسدي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم استأذن اللَّه في مكّة ثلاث مرّات من الدهر، فأذن له فيها ساعة من النهار، ثمّ جعلها حراماً ما دامت السماوات والأرض».
فما في المنتهى- من احتمال حلّها له صلى الله عليه وآله وسلم ولمن هو في مثل حاله- بقرينة ما في التذكرة بعيد، خصوصاً بعد عدم
الإشارة في شيء من النصوص إلى أنّ ذلك قد كان منه لمكان القتال الذي يمكن
مجامعته للإحرام كما ذكر في لبس المحرم السلاح للضرورة. على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكّة مصالحاً لا مقاتلًا، إلّا أنّه لمّا كان الصلح مع
أبي سفيان ولم يكن ليثق به وخاف غدره حلّ له ذلك. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّه إذا جاز لخوف القتال فله أولى.
ويمكن أن يناقش بأنّه لا يستفاد منه الجواز لمطلق القتال؛ ضرورة احتمال خصوصيّة فيما وقع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار كونه منه جهاداً للمشركين أو غير ذلك من الخصوصيّات التي لا توجد في غيره، ولعلّه لذلك كلّه نسبه المحقّق
إلى القيل، مشعراً بضعفه؛ ضرورة بقاء العموم حينئذٍ بلا معارض، بل عن الشيخ في غير
المبسوط : أنّه لم يستثن إلّا المرضى والحطّابة. نعم، قد يقال بالجواز إذا بلغ حدّ الضرورة؛ لعموم أدلّتها، وفحوى نصوص المرض
مع احتمال وجوب الإحرام حينئذٍ، و
ارتفاع بعض أحكامه لها لا
أصل الإحرام، بل هو الوجه.
تعرّض العلّامة لحكم
البريد ، وقال: «والبريد كذلك (أي لا يجب فيه الإحرام) على إشكال»،
ينشأ من أنّه أجير لعمل قد ينافيه الإحرام مع سبق حقّ
المستأجر ، ومن أنّه حرّ، وأدلّة الإحرام عامّة، فهو مستثنى كالصلاة.
وقال كاشف الغطاء: «
إلحاق ... البريد بعيد».
نعم لو فرض أنّ عمل البريد كان يقتضي تكرّر الدخول والخروج جاز له الدخول من غير إحرام على أساس إلحاق ذلك بالحطّاب والحشّاش ونحوه كما تقدّم. ثمّ إنّه صرّح عدّة من الفقهاء بأنّ الإحرام ركن من أركان الحجّ والعمرة.
قال الشيخ: «الإحرام من الميقات، وهو ركن، من تركه متعمداً فلا حجّ له، وإن نسيه ثمّ ذكر وعليه الوقت رجع فأحرم من الميقات، فإن لم يمكنه أحرم من الموضع الذي انتهى إليه، فإن لم يذكر حتى يقضي
المناسك كلّها روى أصحابنا أنّه لا شيء عليه وتمّ حجّه».
وقال العلّامة الحلّي: «الإحرام ركن من أركان الحجّ، إذا أخلّ به عمداً بطل حجّه».
والظاهر أنّ
الركن هنا غير ما اصطلح عليه الفقهاء المعاصرون وهو ما يبطل العمل بتركه عمداً أو سهواً؛ إذ سيأتي صحّة النسك مع عدم الإحرام نسياناً ضمن أحكام المواقيت. والفعل إذا ترك نسياناً جاز أن يستنيب فيه وإن تمكّن من العود وترك الركن عمداً يبطل، وترك الفعل عمداً لا يبطل إذا لم يترتّب عليه غيره من الأركان، فيبطل الحجّ من حيث ترك الركن المترتّب على غيره مع ترك ذلك الغير عمداً، وإن لم يترتّب على الفعل المذكور ركن لا يبطل الحجّ بتركه عمداً كرمي الجمار و
طواف النساء، ولكن في هذا يحرم عليه النساء حتّى يأتي به بنفسه.ولو كان الترك نسياناً جاز أن يستنيب
اختياراً ، ويحرم عليه النساء حتّى يأتي به
النائب ».
الموسوعة الفقهية، ج۶، ص۲۳۰-۲۵۱.