صيغة الإقرار
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهي كلّ لفظ صدر من المقِرّ ودلّ على ثبوت حقّ للمقرّ له عليه، ولابدّ أن تكون دلالتها في الجهات المختلفة تامّة، وهنا بعض الأبحاث المتعلّقة بالصيغة والكلام فيها كما يلي.
ينقسم الإقرار من حيث درجة الدلالة إلى صريح وظاهر ومحتمل:
أمّا الأوّل فهو
الإقرار المستفاد من نصّ الكلام، بحيث لا يحتمل الكلام معنى آخر، ولا
إشكال في حجّية هذا القسم من الإقرار ونفوذه، وكفاية هذه الصيغة فيه، بل هو القدر المتيقّن من أدلّة نفوذ الإقرار.
وأمّا الثاني: وهو الإقرار المستفاد من ظاهر الكلام، وهو الذي يفيده اللفظ مع
احتمال إرادة غيره احتمالًا مرجوحاً، فهذا أيضاً حجّة؛ لحجّية ظهورات الألفاظ- وفقاً لما قرّر في علم الاصول- خصوصاً في الأقارير التي قامت السيرة القطعية على الأخذ بظهوراتها؛ إذ هي لا تدور مدار اللفظ الصريح، كما لا تدور مدار الدلالة المطابقية، بل كلّ كلام دلّ على ثبوت حقّ على صاحبه دلالة ظاهرة- ولو كانت هي الالتزامية المعدودة من دلالة اللفظ- يكون مشمولًا للسيرة المشار إليها والأخبار الدالّة على نفوذ الإقرار، سواء كان
بإبداء الكلام أم بالتصديق بعد السؤال أم بالجواب بما يستلزم قبول ما ذكر، أم بغير ذلك.
ولا فرق بعد كمال دلالة اللفظ على شيء بين كون دلالة ألفاظه على نحو الحقيقة اللغوية أو العرفية أو على نحو المجاز بالقرينة. بل قد يقال بعدم لزوم انطباقه على قوانين
الأدب والبيان، إذا لم يكن في دلالته على المقصود عرفاً خلل موجب لإجماله، ولعلّ هذا من الواضحات في محاورات
أهل كلّ لغة ولسان؛ فإنّ الغالب في أهل كلّ لغة أنّهم غير عارفين بدقائق قوانين البيان، وذلك لا يسقط كلامهم عن الظهور والدلالة. كما أنّه من الواضح لزوم تقدّم الحقيقة العرفية على اللغوية عند التعارض؛ لوضوح أنّ المتّبع هو العرف في مقدار دلالة ألفاظه في محاوراته واستعمالاته، واللغة ليست إلّا آلة لتشخيص المعنى لدى العرف، فهو المتّبع لا محالة، ذلك كلّه للبناء العقلائي الممضى.
نعم، لو فرض علمه بالوضع وقامت القرينة على
إرادة خصوص المعنى الموضوع له لغة فيؤخذ به كما لا يخفى.
ومن هذا كلّه يعلم أنّ ما جاء في بعض تعاريف الإقرار المتقدّمة من توصيفه بالجازم إنّما هو في مقابل التعليق وليس في مقابل الظهور الذي لا جزم فيه، وإنّما يقف عند الظن.
وأمّا القسم الثالث- وهو
الإتيان بما لا ظهور له أصلًا، بأن كان محتمل الوجهين بل الوجوه من دون وجود قرينة حالية أو مقالية على المراد، أو له ظهور في الجملة بالنسبة للمقرّ أو المقرّ له أو المقرّ به أو
أصل الإقرار- فمجمل الكلام فيه: أنّ اللفظ إنّما يكون حجّة بالنسبة لما تكون دلالته عليه تامّة لا أكثر، وقد يكون
الإجمال في بعض الجهات موجباً للإجمال في سائر الجهات أيضاً، فيسقط الكلام جميعاً.
لمّا كان الغرض من الإقرار
الإخبار عمّا في العهدة، فلا يختصّ بلفظ معيّن، بل بكل ما دلّ على المراد ولا ينحصر في لغة؛ ولذا يصحّ إقرار أهل كلّ لغة بلغتهم وغير لغتهم إذا عرفوها،
ولم يرد من قبل الشارع ما يدلّ على
الاختصاص بلغة خاصّة،
وقد ادّعي عليه الإجماع
أيضاً. والمستند في ذلك بناء العقلاء وسيرة المتشرّعة حيث انعقدا على الإقرار بكلّ اللغات بلا تقييد بالعربية.
نعم، يعتبر العلم بظهور اللفظ ليؤخذ به، فلو لم يعلم العربي- مثلًا- مؤدّى اللفظ الذي أقرّ به بغير العربية، لم يقع منه إقرار قطعاً؛ لأنّ الإقرار مشروط عقلائياً بالقصد بل متقوّم به كذلك، كما سوف يأتي إن شاء اللَّه. بل لو ادّعى بعد إقراره أنّ هذا اللفظ الذي أقرّ به كان في زعمه بمعنى خاص وأنّه أراد هذا المعنى، وأنّه كان جاهلًا بالمعنى الموضوع له، وكان ذلك ممكناً في حقه، قُبل؛ عملًا بالظاهر، وأصالة عدم تجدّد علمه بغير لغته، كما صرّح به بعض.
•
الإطلاق والتقييد في صيغة الإقرار ، تختلف حالات صيغة الإقرار، فتارةً تكون مطلقة غير مقيّدة بقيد متّصل ولا منفصل فيؤخذ بها على إطلاقها، واخرى تكون مقيّدةً بقيد كذلك، ومقترنة بأمر إضافي. وتختلف الآثار المترتبة على طروّ القيود على الصيغة.
وهناك وجوه اخرى لصيغة الإقرار لا تندرج في العناوين السابقة لا بأس بذكرها، وهي:
لو قال: (ملِكت هذه الدار من فلان) كان إقراراً له بالدار،
وقد ادّعي نفي وجدان الخلاف في ذلك؛
نظراً إلى ظهور قوله: (ملكت) في
انتقال الملك إليه،
بخلاف قوله: (تملّكتها على يده)؛
لأنّه يحتمل المعونة بكونه وكيلًا أو دلّالًا أو نحو ذلك.
لو قال: (كان لفلان عليّ ألف) لزمه الإقرار بها،
وقد ذهب إليه
الشيخ الطوسي وجماعة،
بل ادّعي نفي وجدان الخلاف فيه،
خلافاً لابن سعيد الحلّي فلم يجعله إقراراً.
وقد استدلّ على كونه إقراراً بأنّ (كان) دلّت على ثبوت الحقّ في ذمّته؛ لأنّه إخبار عن تقدّم
الاستحقاق ، فلا تقبل دعواه في السقوط لو صرّح بها ولو متّصلة بذلك- فضلًا عن عدم التصريح به- إلّا مع
الإثبات .
لو قال مالك العبد لابنه مخبراً لا منشِئاً: (بعتك أباك) انعتق المملوك بإقرار سيّده على أنّه باعه من ابنه وإن لم يحلف الولد، فيلزم حينئذٍ على
الابن ردّ الثمن إلى المولى أيضاً مع تصديق الشراء. وأمّا لو أنكر الشراء حلف ولم يلزمه الثمن ولا غيره ممّا يترتّب على المشتري.
ولو قال: (له عليّ درهم فوق درهم) أو: (تحت درهم) أو: (فوقه درهم) أو: (تحته درهم) أو: (مع درهم) أو: (معه درهم) أو: (قبل درهم) أو: (بعده)، لزمه درهم واحد؛
لاحتمال إرادة
الاتّصاف في الجميع.
ولكنّ
العلّامة الحلّي فصّل بين قوله: (له عليّ درهم قبله درهم) أو: (بعده درهم) أو: (قبل درهم) أو: (بعد درهم)، فيلزمه درهمان، ولو قال: (قبله وبعده) لزمه ثلاثة دراهم؛ نظراً إلى أنّ القبلية والبعدية لا تحتمل إلّا الوجوب. وبين قوله: (له درهم مع درهم) أو: (فوق درهم) أو: (تحت درهم) أو: (معه) أو: (فوقه) أو: (تحته) لزمه واحد؛ لاحتمال فوق درهم لي أو في الجودة.
وقد أوضح ذلك
المحقّق النجفي بأنّ القبلية والبعدية يرجعان إلى الزمان ولا يتّصف بهما نفس الدرهم، فلابدّ من رجوع التقدّم والتأخّر إلى المقرّ، وليس ذلك إلّا الوجوب عليه.
واجيب عنه بما نسبه العلّامة الحلّي إلى الشافعية من أنّ القبلية والبعدية كما يكونان بالزمان يكونان بالمزية والرتبة ونحوهما، بل لو سلّم اختصاصهما بالزمان جاز رجوعهما إلى غير الوجوب بأن يريد درهم مضروب قبل درهم، بل لو سلّم
إرادة الوجوب فيهما جاز إرادته بالنسبة إلى غير المقرّ بأن يريد لزيد درهم قبل وجوب درهم لعمرو ونحوه، فلا يلزمه إلّا درهم واحد كالشقّ الثاني.
ثمّ أورد العلّامة نفسه على ما حكاه عن الشافعيّة بأنّه لو سمع مثل هذه الاحتمالات لسمعت في نحو: (له عندي درهم ودرهم)، مع اتّفاقهم على لزوم درهمين.
وأورد عليه
المحقّق الكركي بوجود الفرق الواضح بين المقام ومورد النقض؛ لظهور قوله: (درهم ودرهم) في الجمع بخلاف المقام.
لكن قال المحقّق النجفي بعد الجميع: «لكنّ
الإنصاف ظهور شغل الذمّة بدرهمين لو قال: (له عليّ درهم قبله درهم أو بعده درهم)، والثلاثة لو قال: (قبله درهم وبعده درهم). بل قد يقال بلزوم الدرهمين في نحو: (فوقه درهم) أو: (مع درهم) أو: (معه درهم) - وإن قلنا: لا خلاف بينهم في لزوم درهم واحد- إذ لعلّه لاختلاف عرف وقتهم وما نحن فيه من العرف؛ ضرورة دوران المسألة على ذلك؛ إذ لا نصيب فيها للتعبّد».
لو قال: (له عليّ درهم في عشرة) فله ثلاث صور:
أن يريد بالعشرة- تصريحاً أو بالقرينة- الظرفية للدرهم الواحد، فلم يختلفوا في أنّه يلزمه درهم واحد.
أن يريد بقوله: درهم في عشرة- تصريحاً أو بالقرينة- ضرب الواحد في العشرة (۱۰• ۱)، فلا خلاف- أيضاً- في أنّه يلزمه العشرة.
أن يكون الكلام مطلقاً بأن لا يصرّح فيه لا بالظرفية ولا بإرادة الضرب، فالظاهر من كلامهم لزوم درهم واحد هنا أيضاً؛
للإجمال، فيؤخذ فيه بالقدر المتيقّن.
صرّح بعض الفقهاء بأنّ الإقرار بالمظروف ليس إقراراً بالظرف،
إلّا أن يفهم العرف من صيغة
الإقرار ذلك؛ أخذاً بالمتيقّن، وبراءة لذمّة المقرّ من الزائد.
فلو قال: (غصبته ثوباً في منديل، أو حنطة في سفينة، أو ثياباً في عيبة، أو زيتاً في جرّة، أو تمراً في جراب) لم يدخل الظرف في الإقرار؛ لاحتمال إرادة (لي) في الجميع، فيصحّ
استثناؤه منفصلًا.
وكذلك الإقرار بالظرف لا يقتضي الإقرار بالمظروف، فلو قال: (له عندي غمد فيه سيف، أو جرّة فيها زيت، أو جراب فيه تمر، أو سفينة فيها طعام) لم يكن إقراراً بالمظروف؛
لاحتمال (لي) أيضاً.
وكذا لو قال: (غصبته فرساً عليها سرج، أو حماراً على ظهره أكاف، (
الأكاف من المراكب: شبه الرحال والأقتاب)
أو له زمام، أو دابّة مسرجة، أو داراً مفروشة، أو نحو ذلك).
لكنّ العلّامة الحلّي تردّد في
القواعد في قوله: (دابّة مسرجة، أو دار مفروشة) في دخول السرج والفراش.
ولو قال: (غصبته فصّاً في خاتم) كان إقراراً بالفصّ ولم يدخل فيه الخاتم.
أمّا لو قال: (خاتم فيه فصّ) فهل هو إقرار بالخاتم فقط دون الفصّ، أو أنّه إقرار بكليهما؟ فيه وجهان، جعل بعضهم أظهرهما عدم دخول الفصّ في الإقرار؛
لاحتمال أن يريد: فيه فصّ لي.
ونوقش فيه بأنّ المنساق عرفاً دخوله؛ على أنّه كالجزء منه؛ لأنّه لو باعه دخل فيه، فهو حينئذٍ كما لو قال: (له هذا الخاتم) وكان فيه فصّ.
الموسوعة الفقهية، ج۱۶، ص۸۳- ۱۱۵.