صيغة المكاتبة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
أمّا الأوّل فصيغته أن يقول السيد : كاتبتك على أن تؤدّي إليّ كذا في وقت كذا؛ فإذا أديت فأنت حرّ، فيقبل العبد. كما عن الخلاف والحلّي.
وعن
المبسوط إنّه لا حاجة إلى قوله : فإذا أدّيت، لأنه غاية
الكتابة فهي دالّة عليه، كما لا يجب ذكر غاية
البيع والإجارة. نعم لا بدّ من قصد ذلك. ويضعّف : بأنّ الكتابة لا يعرفها إلاّ العلماء، فلا يحكم عليه بمجرد لفظها من دون العتق
بالأداء . ولا شك أن الأوّل أحوط وأولى.
وهل هي عتق معلّق على مال، كما عن بعض الفقهاء
؟ أو بيع العبد من نفسه، كما عن التقي والحلّي
؟ أو عقد مستقلّ، كما في المختلف وغيره
؟ أقوال. أجودها الأخير. ولعلّه الأشهر؛ لضعف الأوّل بمفارقتها العتق في التنجيز والقربة، لاعتبارهما فيه دونها.
والثاني بمفارقتها البيع في أُمور :
احتياجها إلى الأجل عند الأكثر
دونه.
وامتداد خيار العقد بخلافه؛ لعدم امتداد
خيار الشرط فيه. وجواز اشتراط البائع الخيار لنفسه في العقد دون المكاتب. وأنّ البيع
انتقال عين مملوكة من مالك إلى آخر، فلا بدّ فيه من تحقق
إضافة الملك بين المبيع والمشتري، وهي فرع التغاير المفقود في الكتابة.
ثمّ هل هو لازم من الطرفين مطلقاً، كما عليه الفاضلان وغيرهما
؟ أم في المطلق خاصّة، وجائز في المشروط من جهة العبد دون السيّد، كما عن الخلاف والمبسوط والحلّي
؟ أم جائز من الطرفين في المشروط، لازم من جهة السيّد جائز من جهة المكاتب في المطلق، كما عن ابن حمزة
؟ أقوال.
أجودها الأوّل؛ لعموم ما دلّ على لزوم الوفاء بالعقود، بناءً على كون الكتابة عقداً إجماعاً. ولا معارض له سوى ما يحكى عن الشيخ
من الدليل على الجواز من جهة العبد في المشروط، من
الإجماع على أنّ المكاتب المشروط متى عجز كان لمولاه ردّه في الرق، وله تعجيز نفسه. وهو المراد من الجواز من جهته، لا أنّ له الفسخ كالعامل في القراض.
وهو كما ترى؛ فإنّا نمنع أنّ له التعجيز، بل يجب عليه السعي والأداء، ولو امتنع اجبر؛
لاقتضاء عقد الكتابة وجوب الأداء والفرض إمكانه، فيجبر عليه كباقي الواجبات.نعم، لو عصى وعجز نفسه بحيث لا يقدر على الأداء كان لمولاه ردّه في الرقّ. ولعلّه مراد الشيخ من الجواز؛ إذ هذا المعنى لا ريب فيه، إلاّ أنّه لا يستلزم الجواز المطلق المستلزم لجواز تعجيز نفسه، كما هو المتنازع.
(و) اعلم أن (الكتابة مستحبة مع الديانة
وإمكان التكسب، وتتأكد بسؤال المملوك) بلا خلاف أعرفه؛ للأمر بها في
الآية الكريمة والسنّة المطهّرة. قال الله سبحانه (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).
وفي الموثّق : عن العبد يكاتبه مولاه، وهو يعلم أنه لا يملك قليلاً ولا كثيراً، قال : «يكاتبه ولو كان يسأل الناس، ولا يمنعه المكاتبة من أجل أن ليس له مال، فإنّ الله تعالى يرزق العباد بعضهم من بعض، والمؤمن معان».
وأقلّ مراتب
الأمر الاستحباب حيث لا يمكن حمله على الوجوب، كما هنا، للإجماع منّا عليه ومن أكثر العامة،
المحكيّ في كلام جماعة.
وتفسير الخير في الآية بالأمرين في العبارة مرويّ في الرواية الصحيحة، قال : «إن علمتم لهم ديناً ومالاً».
ونحوها أخرى
إلاّ أنه أُبدل الدين فيها بالشهادتين خاصّة، ولعلّه للتقية أو
إحالة إلى الظهور، كما ورد نظيره في التشهد في الصلاة وغيره.
ولكن فسّر في أُخريين بالمال خاصّة.
ومقتضاهما استحباب الكتابة معه مطلقاً ولو لم يكن مؤمناً أو مسلماً، ومرجعه إلى جواز مكاتبة العبد
الكافر . وهو خلاف التحقيق كما سيظهر، بل استحبابه خلاف مذهب الأكثر كما في المسالك،
بل الأصحاب كافّة كما في الروضة حيث قال : أمّا مع عدمهما أي الديانة وإمكان التكسب أو أحدهما فلا يستحب في ظاهر الأصحاب.
هذا مضافاً إلى أن الصحيحين الأولين مثبتان للوصف الآخر، والمثبت مقدّم. على قوّة احتمال ورود الأخيرتين للتقية كما يظهر من الانتصار؛
حيث جعل مضمونهما مذهب فقهاء العامّة، ويظهر منه أنّ الخير في الآية هو الدين خاصّة.
(و) مقتضاه أنّه (يستحب) الكتابة (مع) تديّنه و (التماسه) مطلقاً (ولو كان) عن المال وكسبه (عاجزاً) ويشهد له الموثّق المتقدم. ولا يعارضه الصحيح السابق؛ إذ ليس فيه إلاّ تفسير الخير في الآية بالأمرين، وغايته أنّ الأمر بالكتابة في الآية إنّما هو مع الأمرين خاصّة، وهو لا ينافي ثبوت الأمر بها مع الديانة خاصّة أيضاً في الموثّقة.
نعم، يمكن المناقشة في دلالة الأمر فيها على
الاستحباب باحتمال وروده مورد توهّم الحظر، فلا تفيد سوى
الإباحة على الأصح، كما قرّر في محلّه. مع أنّه ليس فيها قيد
الالتماس كما في العبارة.وكيف كان، فيستفاد منها الإباحة في هذه الصورة وعليها أكثر الطائفة.
وعن المبسوط القول بالكراهة،
ولا وجه له.
ثمّ إنّه لا يتوهّم التنافي في العبارة، حيث جعل الأمرين شرطاً في استحباب الكتابة أوّلاً، واكتفى فيه بالديانة أخيراً؛ لإمكان فرقه بينهما بجعله اشتراطهما مع عدم السؤال، والاكتفاء بأحدهما معه. ولعلّ الفرق ظاهر من العبارة.
(وهي قسمان فـ) إنه (إن اقتصر على العقد) من دون اشتراط العود في الرقّ مع العجز عن أداء تمام مال الكتابة (فهي مطلقة، وإن اشترط عوده رقّاً مع العجز فهي مشروطة).ولا خلاف فيهما بين الأصحاب كافّة، بل عليه الإجماع في ظاهر كلمة جملة منهم
وصريح الانتصار،
والنصوص به مع ذلك بالغة حدّ
الاستفاضة ، منها الصحاح :
في أحدهما : «إن المكاتب إذا أدّى شيئاً أُعتق بقدر ما أدّى، إلاّ أن يشترط مواليه إن هو عجز فهو مردود في الرقّ».
خلافاً للعامّة في الأوّل.
ويشتركان في أكثر الأحكام (و) يفترقان (في) أنّ المكاتب مع (
الإطلاق يتحرّر منه بقدر ما أدّى) من مال الكتابة (وفي المشروطة) لا ينعتق منه شيء حتّى يؤدّي جميع المال.وللمولى
الخيار في فسخ الكتابة فله أن (يردّ) ه (رقّاً مع العجز) ولو عن بعض المال.ولا فرق في الخيار مع العجز بين القسمين، لكنّ الأوّل ينعتق منه بقدر ما أدّى ويعود الباقي رقّاً بعد الفسخ، والثاني يرجع جميعه في الرقّ ولو أدّى أكثر مال الكتابة.
(وحدّه) أي علامة العجز وسببه الدالّ عليه (أن يؤخّر النجم) أي المال (عن محلّه ووقته) على الأظهر الأشهر، بل لعلّه عليه عامّة من تأخر، وفاقاً للمحكي عن المفيد والإسكافي والشيخ في أحد قوليه والحلّي؛
لأنّه إخلال بالشرط، وقضيّته قدرة المولى على الفسخ.
وللصحاح، في أحدها : ما حدّ العجز؟ فقال : «إنّ قضاتنا يقولون : إنّ عجز المكاتب أن يؤخر النجم إلى النجم الآخر حتى يحول عليه الحول» قلت : فما تقول أنت؟ فقال : «لا ولا كرامة، ليس له أن يؤخر نجماً عن أجله إذا كان ذلك في شرطه».
ومرجع
الإشارة بحكم الوضع هو العجز، لا عدم تأخير النجم عن الأجل. فاندفع ما يرد عليه من قصور الدلالة، باحتمال الإشارة الرجوع إلى الأخير، فيخرج عمّا نحن فيه؛ إذ على هذا لا نزاع في فسخ كتابته.
وفي ثانيهما : عن مكاتبة أدّت ثلثي مكاتبتها وقد شرط عليها إن عجزت فهي تردّ في رقّ، ونحن في حلّ مما أخذنا منها وقد اجتمع عليها نجمان. قال : «تردّ وتطيب لهم ما أخذوا» وقال : «ليس لها أن تؤخر النجم بعد حدّه شهراً واحداً إلاّ
بإذنهم ».
وما يقال من أنّ الروايتين ليستا نصّين في المطلوب؛ إذ عدم جواز التأخير غير دالّ على جواز الفسخ. مدفوع بظهور الدلالة في الأوّل بقرينة السياق
والإنكار على من اعتبر أمراً زائداً عليه، فيصير قرينة للدلالة في الثاني، فإنّ أخبارهم : يكشف بعضها عن بعض.
(وفي رواية) موثّقة عمل بها النهاية وبعض من تبعه
حدّه (أن يؤخر نجماً إلى نجم) فيجب على المولى الصبر إلى النجم الثاني.
وهي قاصرة عن المقاومة لما مرّ سنداً ودلالة من وجوه شتّى، بل ربما دلّ سياقها على الاستحباب جدّاً، مع أنّها محتملة للتقية كما صرّح به جماعة
وأفصحت عنه الصحيحة السابقة.
مضافاً إلى أنّها مطلقة في الحكم شاملة لصورتي العلم بعجزه عند حلول النجم الثاني وعدمه، ومن قال بها لم يقل بهذا الإطلاق جدّاً بل قيّده بالصورة الثانية، معتذراً بعدم الفائدة في التأخير إلى النجم الثاني في الصورة الأولى، فلا يجب على المولى. ويضعّف
الاعتذار بأنّ المعتبر في مثل هذا
الظن الغالب، لتعذّر العلم الحقيقي، ويمكن وقوع خلاف الظن ببذل متبرّع أو مُزكٍّ أو غيرهما.
فهذا القول في غاية السقوط. كالقول بلزوم التأخير على المولى إلى ثلاثة أنجم، كما عن الصدوق
وإن دلّ عليه خبران،
لضعفهما سنداً ومقاومة لما مضى، فليحملا على الاستحباب كسابقهما.
واعلم أنّ قول الماتن : (وكذا لو علم منه العجز) لا يستقيم جعله مقابلاً لما اختاره في حدّ العجز من أنه تأخير النجم عن محلّه؛ لأنّ العلم بالعجز إن كان قبل حلول النجم لم يتسلط السيد على الفسخ، كما صرّح به الشهيدان وغيرهما
من غير خلاف يعرف، بل صرّح ثانيهما بالإجماع عليه. وإن كان بعد الحلول فهو بعينه تأخير النجم إلى النجم، كما نقلناه عن العاملين بالموثّقة، فكيف يمكن للماتن أن يقول به ويختاره؟.
(ويستحب للمولى
الصبر عليه إن عجز) بلا خلاف؛ لما فيه من
الإعانة على التخلّص من الرق وإنظار المعسر بالدين، لأنّه عليه بمنزلته؛ وللأمر
بإنظاره سنة وسنتين وثلاثاً
المحمول على الاستحباب كما عرفت جمعاً.
(وكلّ ما يشترط المولى) في العقد (على المكاتب) من نحو عدم تأخير النجم عن الوقت (لازم) عليه؛ لأنّه جزء من العقد فيشمله عموم ما دلّ على لزوم الوفاء بالعقود؛ مضافاً إلى لزوم الوفاء بالشروط، المستفاد من عموم كثير من النصوص، وخصوص الأخبار الواردة في المكاتب المشروط، فإنّها صريحة الدلالة على أنّ المؤمنين عند الشروط.
وللخبر : عن المكاتب قال : «يجوز عليه ما شرطت عليه».
(ما لم يخالف المشروع) كأن يشترط عليه ترك التكسب فيبطل الشرط، ويتبعه
بطلان العقد كما هو شأن العقود المشروطة بشيء فاسد من الشروط.
رياض المسائل، ج۱۳، ص۷۵-۸۴.