لقطة الحرم
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وما كان أزيد، فان وجده في
الحرم كره أخذه وقيل يحرم ولا يحل أخذه إلا مع
نية التعريف، ويعرف حولا فان جاء صاحبه وإلا تصدق به عنه أو استبقاه
أمانة، ولا يملك؛ ولو تصدق به بعد الحول فكره المالك لم يضمن الملتقط على الأشهر.
وما كان أزيد من الدرهم فإن وجده في
الحرم كره أخذه.
وقيل: يحرم ولا يحلّ أخذه إلاّ مع
نيّة التعريف عدم الخلاف فيه. ونحوه عبارة
الشيخ في
النهاية،
والقاضي والحلي كما حكي.
وفي كلّ من الحكم بعدم الفرق في ذلك، والإشعار بعدم الخلاف فيه، واختصاصه بما زاد من لقطة الحرم نظر.
فالأوّل: بعدم دليل عليه عدا
إطلاق الخبرين، وليسا يشملان بحكم
التبادر والغلبة محلّ الفرض. وأدلّة المنع والجواز المستدلّ بها في لقطة الحرم مطلقة لا تفصيل فيها بين الزائد على الدرهم والناقص عنه، فلا وجه للحكم به.
والثاني: بما يحكى عن جماعة من عدم الفرق بينهما، وإن اختلفوا في الحكم كراهةً كما عن
الخلاف ووالد الصدوق، أو تحريماً كما عن النهاية
، وجماعة ومنهم
الماتن في كتاب
الحج، والدروس فيه أيضاً، والفاضل في المختلف والقواعد، والمقداد في التنقيح، والصيمري في شرح الشرائع، والشهيد في اللمعة
مشترطاً في التحريم نيّة التملّك، مصرّحاً بالجواز إذا كان بنيّة
الإنشاد.
ونسبه في
المسالك وغيره
إلى المشهور، واحتجّ فيه لهم بالآية «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً»
فإنّ مقتضاه أن يكون
الإنسان آمنا فيه على نفسه وماله، وهو ينافي جواز أخذه.
والنصوص، منها: «لقطة الحرم لا تمسّ بيد ولا رجل، ولو أنّ الناس تركوها لجاء صاحبها فأخذها»
.
ومنها: عن رجل وجد ديناراً في الحرم فأخذه، قال: «بئس ما صنع، ما كان ينبغي له أن يأخذه» قلت: ابتلي بذلك، قال: «يعرّفه»
الحديث.
ومنها: عن لقطة الحرم، فقال: «لا تمسّ أبداً حتى يجيء صاحبها فيأخذها» قلت: فإن كان مالاً كثيراً، قال: «فإن لم يأخذها إلاّ مثلك فليعرّفها»
.
وضعّف الجميع بما يرجع حاصله إلى منع دلالة
الآية، وتضعيف أسانيد الروايات، مع تضمّن بعضها لفظة: «لا ينبغي» الصريحة في
الكراهة، وآخر منها لفظة: «لم يأخذها إلاّ مثلك فليعرّفها» الظاهر فيها؛ إذ لو كان محرّماً لساوى غيره. بل الظاهر منه أنّ أخذ الثقة غير مكروه، أو أقلّ كراهة، وحال مطلق اللقطة كذلك.
بل قد ورد فيها بمثل هذه العبارة ما هو أصحّ سنداً، منها: «كان
علي ابن الحسين (علیهالسّلام) يقول لأهله: لا تمسّوها»
. ومنها: «لا تعرّض لها، فلو أنّ الناس تركوها لجاء صاحبها فأخذها»
. قال: ويؤيدّ الحكم بالكراهة الخبر: عن
اللقطة، فقال: «أمّا بأرضنا هذه فلا يصلح»
.
وفي جميع ما ذكره عدا الجواب عن الآية نظر؛ لانجبار قصور الأسانيد بالشهرة الظاهرة المحكيّة في كلام جماعة
، واعتضاده بالأصل المتقدّم إليه الإشارة غير مرّة من حرمة التصرّف في ملك الغير إلاّ برخصة من
الشرع، هي في المقام مفقودة.
و «لا ينبغي» وإن أشعر بالكراهة إلاّ أنّ «بئس ما صنع» أظهر دلالةً على
الحرمة منه على الكراهة.
ودعواه الصراحة في «لا ينبغي» ممنوعة، كيف لا؟! واستعماله في الحرمة والأعمّ منها ومن الكراهة شائع في الأخبار غايته، حتى أنكر بعض
الأصحاب لذلك إشعاره بالكراهة
.
ودلالة «إن لم يأخذها إلاّ مثلك» عليها على تقدير تسليمها غير نافعة للقائلين بالكراهة؛ لعدم تفصيلهم في الحكم بها بين الفاسق والثقة، نعم ربما يوجد هذا التفصيل في كلام بعض القائلين بالحرمة
، فتكون ضارّة لهم لا نافعة.
وأمّا النصوص الصحيحة المتضمّنة لنحو ما في الروايات السابقة من المنع عن أخذ مطلق اللقطة، فهي ممّا يؤيّد القول بالحرمة؛ لإطلاقها الشامل للقطتي الحرم وغيره. ولا
إجماع يقيّده بالثاني ويصرف النهي فيها إلى الكراهة؛ لوقوع الخلاف فيه أيضاً حرمةً وكراهةً، كما يستفاد من
المختلف، حيث قال: الأشهر الكراهة
، بعد أن حكى المنع عن
الصدوق والنهاية.
وعلى تقدير الإجماع على الكراهة فلا دلالة فيه على تعيّن
التقييد المتقدّم إليه الإشارة بعد احتمال كونه مقيّداً لها بصورة العكس، بل هذا أولى؛ لتعدّد المجازيّة في الاحتمال الأوّل من التقييد وصرف النهي فيها إلى الكراهة، ولا كذلك الثاني، فإنّ اللازم فيه إنّما هو الأوّل، ويكون النهي فيه باقياً على الحرمة.
لكن يتوجّه عليه استلزامه حمل الإطلاق على الفرد النادر؛ لندرة لقطة الحرم بالإضافة إلى غيرها.
وبه يجاب عمّا لو استدلّ به على الكراهة في لقطة الحرم من إطلاق مرسل
الفقيه: «إنّ أفضل ما يستعمله الإنسان في اللقطة إذا وجدها أن لا يأخذها، ولا يتعرّض لها، فلو أنّ الناس تركوا ما يجدونه لجاء صاحبه فأخذه»
الخبر؛ لوروده مورد الغالب وهو ما عدا لقطة الحرم، مع أنّه مرسل، لكنّه بعد حمله على الغالب من لقطة غير الحرم كما بني عليه الجواب بالشهرة المحكيّة في المختلف بل الظاهرة منجبر، فيصرف به ظواهر النهي في تلك النصوص الصحيحة إلى الكراهة.
ومنه يظهر صحّة ما عليه المشهور في
لقطة غير الحرم من الكراهة
.
مضافاً إلى
الموثق كالصحيح: عن اللقطة، فأراني خاتماً في يده من فضّة، قال: «إنّ هذا ممّا جاء به السيل، وأنا أُريد أن أتصدّق به»
.
ويبقى الجواب حينئذٍ عن تمسّك المسالك
بها لصرف النهي في تلك الروايات أيضاً إلى الكراهة. ويمكن أن يقال: إنّ صرف النهي إليها في تلك الصحاح لقرينة من إجماع أو
رواية لا يستلزم صرفه إليها في هذه الروايات من دون قرينة كما هو المفروض.
وتأييد الكراهة بالرواية الأخيرة غير واضح؛ لإشعارها بل ظهورها في اختصاص عدم الصلاحية والكراهة بأرض
منى خاصّة، ولا قائل به من الطائفة فلتطرح، أو تؤوّل بحمل «لا يصلح» على الحرمة، ويلحق
مكة وباقي الحرم بمنى بعدم القائل بالفرق بين الطائفة، ولا محذور. ولا كذلك لو أُبقيت على ظاهرها من الكراهة؛ إذ عدم القول بالفرق المزبور إنّما يتمّ به الكراهة في لقطة جميعه، ولا يدفع محذور اختصاصها به، فإنّ مقتضاه عدم الكراهة في لقطة غيره، ولا قائل به.
وحمل «لا يصلح» على تأكّد الكراهة وإن أمكن ويندفع به هذا المحذور، إلاّ أنّه مجاز كالحمل على الحرمة، لا يمكن اختياره خاصّة إلاّ بعد قرينة معيّنة هي في
الرواية مفقودة.
اللهم إلاّ أنْ يقال: إنّه أقرب المجازين إلى أصل الكراهة الذي هو الحقيقة، لكنّه معارض بظهور الروايات السابقة في الحرمة، مع اشتهارها بين
الطائفة، كما اعترف به هو وغيره، وأخبارهم: يكشف بعضها عن بعض. فإن لم يكن الحمل على الحرمة بهذا راجحاً على الحمل الآخر فلا أقلّ من التساوي بينهما، وهو يوجب الإجمال المنافي للاستدلال. وبما حرّرناه ظهر قوّة القول في لقطة الحرم بالحرمة، وضعف القول فيها بالكراهة غايته.
وعلى كلا القولين يعرّفها حولاً واحداً، إجماعاً فيما زاد عن
الدرهم، وعلى الأشهر الأقوى مطلقاً، بناءً على عدم تملّكه وما نقص عنه أيضاً كما مضى فإن جاء صاحبه سلّمه إليه وإلاّ تصدّق به بعد الحول أو استبقاه
أمانة في يده.
ولا يجوز له أن يملكه بلا خلاف في شيء من ذلك إلاّ في عدم جواز التملّك، فقد جوّزه جماعة في الناقص عن الدرهم ولو من دون تعريف كما مرّ. وعن الحلبي تجويزه في الزائد أيضاً بعد التعريف
.
وقد مرّ ضعف الأوّل مفصّلاً، ومثله الثاني فيه جدّاً، مع كونه شاذّاً محجوجاً هو كسابقه بالأصل، وعدم دليل على الملك مطلقاً، عدا ما يأتي من النصوص الدالّة عليه الواردة في مطلق اللقطة الغير المنصرفة كما عرفت بحكم التبادر والغلبة إلى مفروض المسألة.
ومع ذلك معارضة بصريح الرواية المنجبرة بالشهرة العظيمة في الجملة التي كادت تكون إجماعاً، بل لعلّها إجماع في الحقيقة كما في المختلف وعن
التذكرة، وفيها: «اللقطة لقطتان: لقطة الحرم وتعرّف سنةً، فإن وجدت لها طالباً، وإلاّ تصدّقت بها. ولقطة غيرها تعرّف سنةً فإن لم تجد صاحبها فهي كسبيل مالك»
.
ولا يعارضه الخبر: فيمن وجد في
الطواف ديناراً قد انسحق كتابته، قال: «له»
وكذا الآخر: «فإن وجدت في الحرم ديناراً مطلّساً فهو لك لا تعرِّفه»
.
لضعفهما سنداً، ومخالفتهما الإجماع ظاهراً؛ لدلالتهما على إطلاق جواز التملّك من دون تقييد بالتعريف سنةً، مع تصريح الأخير بالنهي عنه، ولم يذهب إليه أحد من الأصحاب عدا
الصدوقين، وهما شاذّان انعقد على خلافهما الإجماع، فليطرحا، أو يؤوّلا بما يؤولان به إليه من حملهما على غير اللقطة من المدفون أو غيره، أو على أنّه (علیهالسّلام) كان يعلم أنّه من خارجي أو ناصبيّ، فتأمّل.
ولو تصدّق به بعد الحول، وكره المالك فلم يرض به لم يضمن الملتقط على الأشهر على حكاية الماتن هنا، ولم ينقل إلاّ عن
المفيد والديلمي والقاضي
وابن حمزة.
وفي المسالك نسب
الضمان إلى الشهرة
. وحكي عن الشيخ في كتبه الثلاثة
والإسكافي والحلّي
، واختاره في المختلف
والصيمري في
شرح الشرائع. ولعلّه أظهر؛ للخبر المتضمّن بعد الأمر بالتصدّق قوله (علیهالسّلام): «فإن جاء صاحبه فهو له ضامن»
.
وضعفه منجبر بعموم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»
وفحوى الأدلّة الآتية في لقطة غير الحرم من الضمان بعد
الصدقة والكراهة؛ وذلك لأنّها جائزة له ولو على كراهة كما مر إليه الإشارة، فضمانها حينئذٍ بعد الأمرين مع كونه مأذوناً في الالتقاط والصدقة يستلزم الضمان بعدهما في مفروض المسألة بالأولوية؛ لأنّه لم يرخّص فيه إلاّ بالصدقة دون الالتقاط؛ للنهي عنه، كما عرفته.
مضافاً إلى انجباره من أصله بالشهرة الظاهرة، وفيما تضمّنه من حكم المسألة
بالشهرة المحكية.
نعم يعارضها حكاية الشهرة على العكس في العبارة، لكنّها على تقدير تسليمها غير واضحة
الحجّة عدا ما صرّح به في
الشرائع وغيره
من أنّ الصدقة بها تصرّف مشروع بالإجماع فلا يتعقّبها ضمان.
وهو حسن لولا ما قدّمناه من الحجة القويّة المترجّحة على هذه بوجوه عديدة، أقواها الأولويّة المتقدّمة، وهي وإن اختصّت بصورة تعمّد الالتقاط فلا تشمل غيرها من الصور، لكنّها تتمّ حجّة على تمام المدّعى بعدم القائل بالفرق بين
الطائفة إن صحّ، وإلاّ فتخصيص الضمان بالصورة الاولى لا يخلو عن وجه؛ لاختصاص الخبر المتقدّم الدالّ عليه مع بعض معاضداته بها، فلا معارضة للقاعدة من جهته فيما عداها.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۴، ص۱۶۷-۱۷۶.