مقدّمات الاجتهاد
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يتوقّف تحصيل ملكة
الاجتهاد على توفّر جملة من المقدمات والمبادئ لا بد للشخص من تحصيلها، وقد تعرّض لها الفقهاء والاصوليون بالبحث واختلفوا في تحديد اللّازم منها والضروري لتحصيل ملكة الاجتهاد، وما هو شرط لكمال المجتهد، وهي ما يلي:
من الواضح أنّ أكثر الأحكام الشرعية تستفاد من الأدلّة اللفظية أي من
الكتاب والسنّة وهما عربيان، فلا مناص من معرفة
اللغة العربية واتقان قواعدها لأجل استنباط الأحكام، وهذا يلزم حتى العربي من الأشخاص؛ لأنّه لا يحيط بجميع أنحاء اللغة العربية وقواعدها وإنّما يعرف شطراً منها. وهذا هو المتفق عليه بين فقهائنا.
ولا نقصد بالكلام المتقدّم حجّية قول اللغوي عند الشارع، بل المراد أنّ الرجوع إلى اللغة من الأسباب المساعدة للفقيه على القطع بالمعنى الظاهر فيه اللفظ، ولا أقل من حصول
الاطمئنان بالظهور.
وعلى هذا الأساس أيضاً يجب معرفة قواعد اللغة؛ لأنّها مما يتوقف عليه الاجتهاد، كمعرفة أحكام الفاعل والمفعول؛ لأنّ فهم المعنى يتوقّف على معرفتها. نعم لا يجب معرفة تلك القواعد التي لا دخل لها في
استفادة الأحكام من أدلتها، كمعرفة الفارق بين
البدل و
عطف البيان وغير ذلك.
إنّ توقف الاجتهاد وملكة
الاستنباط على المعرفة بعلم اصول
الفقه ممّا لا يخفى على أحد من
أهل العلم، حيث عرّف علم الاصول بأنّه العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعل شرعي، وكما هو واضح فإنّ الأحكام الشرعية ليست من الامور الضرورية التي لا يحتاج إثباتها إلى دليل، وإنّما هي امور نظرية تتوقّف على الدليل والبرهان، وعلم الاصول هو المتكفّل لبيان أدلّة الأحكام وبراهينها من الحجج والأمارات وغيرهما من العناصر التي تدخل في عملية الاستنباط. فعلى المتصدي أن يتقن ما يحتاجه من هذا العلم ويحصل عليه بالنظر والاجتهاد؛ لأنّها لو كانت محصّلة بالتقليد لأدّى إلى
التقليد في الأحكام.
وقد اتفق فقهاؤنا الاصوليون على هذا
الأمر . وفي قبالهم نفى الأخباريون من علماء
الإمامية توقّف استنباط الأحكام الشرعية على علم الاصول، وتمسكوا بعدة وجوه نوقش فيها، واثبت أنّ علم الاصول ممّا لا غنى عنه في عملية الاستنباط، وقد تقدّم الكلام في هذا الشأن.
بالرغم من أن جملة من الأحكام الشرعية تستفاد من كتاب اللَّه الكريم، إلّا أنّ ذلك قليل جداً بالنسبة إلى الأحكام المستفادة من الأخبار المأثورة عن المعصومين عليهم السلام، وهنا يرد البحث في توقّف الاجتهاد على
معرفة المجتهد برواة الحديث، والتحقيق في صدور الرواية وصحّتها، والتفتيش عن أحوال الرجال الواقعين في سند هذه الأخبار؛ لأجل الوثوق بها أو توثيق اسنادها. وقد ظهر على صعيد عمل الفقهاء الاصوليين اتجاهان في هذا الشأن:
وقد ادعى أصحابه أنّ الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة مقطوعة الصدور أو أنّها ممّا يُطمأن بصدورها؛ لأنّ الأصحاب عملوا بها ولم يناقشوا في سندها، وعليه لا حاجة إلى معرفة أحوال الرواة، وقد سلك هذا الاتجاه المحقق الهمداني، حيث قال: «ليس المدار عندنا في جواز العمل بالرواية على اتصافها بالصحة المصطلحة، وإلّا فلا يكاد يوجد خبر يمكننا
إثبات عدالة رواتها على سبيل التحقيق لو لا البناء على المسامحة في طريقها والعمل بظنون غير ثابتة الحجّية.
بل المدار على وثاقة الراوي أو الوثوق بصدور الرواية وإن كان بواسطة القرائن الخارجية التي عمدتها كونها مدوّنة في
الكتب الأربعة أو مأخوذة من الاصول المعتبرة، مع اعتناء الأصحاب بها وعدم
إعراضهم عنها...، ولأجل ما تقدّمت
الإشارة إليه جرت سيرتي على ترك الفحص عن حال الرجال».
فالمدار في هذا الاتجاه هو النظر بأنّ الرواية هل عمل بها الأصحاب لتكون حجّة، أو أنّها معرض عنها فتسقط عن
الاعتبار ، وعليه لا حاجة لعلم الرجال إلّا في بعض الموارد التي لا يتضح فيها عمل الأصحاب.
وقد ذهب إلى هذا الاتجاه الكثير من فقهائنا، فإنّ مجرّد وقوع الرواية أو سندها في أحد الكتب الأربعة أو المجاميع الحديثية لا يكفي للقطع أو الاطمئنان بصدور الرواية، خصوصاً مع الفاصل الزمني الكبير بيننا وبين زمان المعصومين عليهم السلام وكثرة الوسائط الواقعة في الأسانيد، كما أنّ مجرد عمل الأصحاب بالرواية لا يكفي لصحّتها أو حصول العلم أو الاطمئنان بصدورها عن المعصوم، بل لا بد من إثبات سند الرواية وحجّيتها عن طريق
إحراز عدالة الراوي أو وثاقته، وهذا ما يقع على عاتق
علم الرجال .
ومن هنا صرّح كثير من الفقهاء بأنّ علم الرجال من أهم ما يتوقف عليه الاجتهاد وملكة الاستنباط، فإنّ به يعرف الراوي
الثقة عن الضعيف. وقد نسب إلى أكثر
الأخباريين أنّهم أنكروا الحاجة إلى علم الرجال لدعوى قطعية صدور ما في الكتب الأربعة، أو شهادة مصنّفيها بصحّة جميعها،
وضعفه يتضح ممّا تقدم. وقد اكتفى بعض فقهائنا بما تقدّم من العلوم (اللغة العربية واصول الفقه وعلم الرجال) في مقدمات الاجتهاد واعتبرها هي اللّازمة لتحصيل الاجتهاد، واعتبر غيرها من العلوم فضل لا توقّف للاجتهاد عليه.
بينما ذكر كثير من فقهائنا علوماً اخرى اعتبروها أيضاً مقدّمات ضرورية لتحصيل الاجتهاد، فأضافوا على ما تقدّم:
ذكروا أنّ استنباط الأحكام والمسائل الشرعية من مصادر الشريعة يحتاج إلى الاستدلال، وهو لا يتم إلّا بالمنطق. والمعتبر من
المنطق في تحصيل
الاجتهاد هو المقدار المفيد في تشخيص الأقيسة وترتيب الحدود، وتنظيم الأشكال من الاقترانيات وغيرها، وتمييز عقيمها من غيرها. وأمّا تفاصيل قواعده فليست لازمة في الاستنباط.
هذا هو مختار الكثير من فقهائنا الاصوليين، إلّا أنّ بعضهم نفى مقدّمية المنطق وتوقّف تحصيل الاجتهاد عليه رأساً، قال
السيد الخوئي : «وأمّا علم المنطق فلا توقّف للاجتهاد عليه أصلًا، لأنّ المهم في المنطق إنّما هو بيان ما له دخالة في
الاستنتاج من الأقيسة والأشكال، كاعتبار كلّية الكبرى وكون الصغرى موجبة في الشكل الأوّل، مع أنّ الشروط التي لها دخل في الاستنتاج مما يعرفه كل عاقل حتى الصبيان...، وعلى الجملة المنطق إنّما يحتوي على مجرد اصطلاحات علمية لا تمسها حاجة المجتهد بوجه...».
ممّا يتوقف عليه تحصيل الاجتهاد العلم بتفسير آيات الأحكام ومواقعها من القرآن، ومعرفة
الناسخ من
المنسوخ منها. وكذلك يتوقّف على العلم بالأحاديث الصادرة عن المعصومين عليهم السلام المتعلّقة بالأحكام الشرعية، سواء عن طريق حفظها أو معرفتها من خلال مراجعة الاصول المصححة بحيث تكون له القدرة على العثور على ما يحتاجه في مظانّه. وعليه معرفة العام والخاص منها والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه من الآيات، والمتواتر من الأحاديث وآحادها.
هذا ولكن من لم يذكر معرفة آيات الأحكام والسنّة الدالّة عليها لا ينكر توقّف عملية الاجتهاد عليها، وإنّما يرى ذلك من صميم علم الفقه ونفس عملية الاجتهاد لا ما يتوقّف عليها الفقه.
ذكر البعض أنّ من المقدّمات المعرفة بفتاوى وآراء فقهائنا في طول تاريخ الفقه، و
الإحاطة بموارد الإجماعات التي ذكرت والشهرات؛ لأنّ ذلك له دخل في
إعداد ذهن الفقيه في استنباط الأحكام، بناءً على القول بحجّية
الإجماع في
استكشاف الحكم الشرعي، وبناءً على حجّية الشهرات الفتوائية للقدماء، أو أنّها جابرة لضعف الروايات سنداً ودلالة، أو موجبة لسقوط الروايات المخالفة لها.
كما ذكر البعض بأنّ المعرفة بفتاوى العامة وإجماعاتهم ممّا يحتاج إليه في استنباط الأحكام، خصوصاً في معالجة حالات التعارض بين الروايات: إذ مخالفتهم أحد أسباب الترجيح. وهذا الصنف أيضاً كالصنف السابق، يراها بعض الفقهاء من صميم علم الفقه ونفس عملية الاجتهاد لا ما يتوقّف عليها الفقه.
وقد ذكر بهذا الصدد عدا ما ذكرنا من العلوم علوماً ومعارف اخرى جعل لها البعض مدخلية في الاجتهاد بنحوٍ ما، واعتبرها بعض من المكمّلات للاجتهاد ومن هذه العلوم:
كمعرفة أحوال
الأجرام السماوية وحركتها، وما يتعلّق بكروية
الأرض ومعرفة تقارب مطالع البلاد وتباعدها، وما يترتب على ذلك من أحكام مثل جواز كون أوّل الشهر في بلد غير ما هو في بلد آخر، أو كون الشهر ثمانية وعشرين يوماً، وقد عدّه
الوحيد البهبهاني من شروط الاجتهاد ومقدّماته،
لتوقّف بعض الأحكام على معرفة ذلك، ولم يستبعد ذلك
المحقق القمي .
بعض مسائل
علم الطب أو بعض
الهندسة والحساب، لمعرفة بعض المسائل التي لها علاقة بهذه المعارف، مثل معرفة حقيقة القَرَن الذي يوجب التسلط على فسخ النكاح، أو حقيقة المرض الذي يجوز معه
الإفطار ، أو مسائل القسمة والكسور.
وقد أفاد الأكثر بأنّ مثل هذه العلوم ليست دخيلة في تحصيل الاجتهاد؛ وذلك لأنّ شأن
الفقيه هو بيان الأحكام في
إطار القضايا الشرطية، وأمّا تحقيق
أطراف الشرطية فليس من مهمته، مثلًا من واجب الفقيه أن يحكم بأنّ من أقرّ بشيءٍ فهو مؤاخذ به، وليس عليه بيان كمّية المقرّ به.
الموسوعة الفقهية، ج۵، ص۲۱۱-۲۱۵.