وظيفة المستحاضة في غير الصلوات اليومية
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ما ذكرناه إلى هنا إنّما هو في
وظيفة المستحاضة بالنسبة إلى الصلوات اليوميّة، سواء كانت مستحاضة بالاستحاضة القليلة أو المتوسّطة أو الكثيرة، وأمّا وظيفتها بالنسبة إلى غيرها ممّا تشترط الطهارة في صحّته أو جوازه فالكلام فيه كالتالي:
ذهب بعض الفقهاء إلى جواز إتيان المستحاضة بقضاء الفوائت مع
الإتيان بوظائفها، فلا يجب عليها الصبر حتى يرتفع حدث
الاستحاضة . وظاهر ذلك أنّه لا فرق فيه بين ما إذا كان الوقت موسّعاً أو مضيّقاً.
واستدلّ على ذلك بإطلاق أدلّة وجوب القضاء بالنسبة إلى الأوقات، وبالإجماع أيضاً على أنّ المستحاضة إذا فعلت ما عليها تكون بحكم الطاهرة،
ونتيجة ذلك صحّة صلاتها قضاءً كما تصحّ
أداءً .
وفي قبال ذلك ذهب بعض آخر إلى عدم صحّة القضاء من المستحاضة في صورة سعة الوقت؛ لأنّ المستفاد من الأخبار أنّ الاستحاضة حدث وإن جاز لها الإتيان بالفرائض بعد الغسل مرّة واحدة أو ثلاث مرّات، بمعنى أنّ الدم الخارج منها حال غسلها أو بعده أو في أثناء الصلاة لا يكون ناقضاً لطهارتها إلّا أنّها محدثة كصاحب السلس؛ ولذا يجب عليها أن تتوضّأ أو تغتسل للصلوات الآتية وإن لم تحدث بحدث آخر، ومع الحدث لا يسوغ لها القضاء.
والحاصل: أنّ صلاة المستحاضة اضطراريّة من جهة عدم طهارتها من الحدث، والقضاء واجب موسّع له أفراد اختياريّة، فليس لها أن تأتي بالفرد
الاضطراري مع التمكّن من الأفراد الاختياريّة، ولا سيّما أنّها مبتلاة بنجاسة
البدن في هذا الحال غالباً، فتكون صلاتها من هذه الجهة أيضاً اضطراريّة، مع أنّه لم يقم دليل خاصّ على عدم مانعيّة دم الاستحاضة في قضائها، فلا بدّ من أن تصبر حتى ترتفع استحاضتها.
وأمّا عند ضيق الوقت ولو لأجل
اطمئنانها أو ظنّها بالموت بعد ذلك بحيث لا تتمكّن من الصلاة
الاختياريّة بوجه فيصحّ منها القضاء ويجب عليها الوضوء لكلّ صلاة قضائيّة؛ لعموم ما دلّ على أنّها تتوضّأ لكلّ صلاة، فإنّ القضاء أيضاً صلاة فتتوضّأ لها وتأتي بالقضاء، وأمّا من جهة نجاسة بدنها فعليها أن تقلّلها بالمقدار الممكن. وأمّا الغسل مستقلّاً فلا يجب عليها حينئذٍ، بل تكتفي بغسلها للصلوات؛
لاختصاص النصوص بالفرائض الأدائيّة وعدم شمولها للفرائض القضائيّة، كما لا دليل بالخصوص على وجوب الغسل لها.
ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب
صلاة الآيات على المستحاضة؛ لإطلاق أدلّة وجوب صلاة الآيات، وعليه فيجب عليها حينئذٍ ما يجب عليها للصلوات اليوميّة من الوضوء والغسل وتبديل القطنة.
ولكن ذهب بعض آخر إلى عدم وجوب الغسل عليها؛ لعدم قيام دليل على أنّ الغسل طهارة للمستحاضة ولو في غير الفرائض اليوميّة، وإنّما يجب عليها الوضوء فقط.
صرّح جملة من الفقهاء بوجوب الوضوء على المستحاضة بالاستحاضة القليلة للإتيان بالنوافل، فلا يكفي الوضوء الذي أتت به للفرائض.
واستدلّ على ذلك بعموم ما دلّ على أنّها تتوضّأ لكلّ صلاة. وفي قبال ذلك ذهب
الشيخ الطوسي إلى كفاية الوضوء للفرائض، فإذا توضّأت جاز لها أن تصلّي من النوافل ما شاءت،
وتبعه بعض من تأخّر عنه.
واستدلّ بما في صحيح
الصحّاف المتقدّم من قوله عليه السلام: «... فلتتوضّأ ولتصلّ عند وقت كلّ صلاة»،
فإنّ مقتضى إطلاقه أنّها تتوضّأ في وقت كلّ صلاة سواء أتت بصلاة واحدة أو بصلاتين أو بأكثر. واجيب عن ذلك بأنّ هذا
الإطلاق لا يصلح لمعارضة العموم المصرّح به في صحيح
معاوية بن عمّار ،
فيحمل الإطلاق في صحيح الصحّاف على ما لا ينافي العموم المذكور، كأن يقال: إنّ ذكر وقت الصلاة في صحيح الصحّاف إنّما يكون جارياً مجرى العادة في
الأمر بالوضوء عند وقت الصلاة كالأمر بالوضوء في آية الوضوء الشريفة.
أو أن يقال: إنّ الإطلاق في صحيح الصحّاف محمول على الغالب؛ لأنّ أغلب النساء لا يأتين في وقت الصلاة إلّا بالفريضة، ولا يصلّين متعدّداً.
كما ذهب بعض الفقهاء- كالسيد اليزدي- إلى أنّه لا تجب على المستحاضة بالاستحاضة الكثيرة الأغسال الثلاثة مستقلّة في الإتيان بالنوافل، بل يكفي فيها أغسال الفرائض.
واستدلّ على ذلك بالإجماع المدّعى على أنّه إذا فعلت المستحاضة ما يجب عليها من الوضوء والغسل وغيرهما كانت بحكم الطاهرة.
وعلّق
السيد الحكيم على ذلك بأنّ النصوص قاصرة عن
إثبات المدّعى فالدليل منحصر في
الإجماع .
بينما ذهب
السيد الخوئي إلى عدم قصور النصوص عن ذلك؛
استناداً إلى ما دلّ على وجوب الوضوء على كلّ مكلّف يريد الصلاة، كقوله تعالى: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ»،
فإنّه دالّ على أنّ كل مكلّف محدث يريد الصلاة له أن يكتفي بالوضوء فقط، خرج عنه الجنب؛ لقوله تعالى في ذيلها: «وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» لدلالته على أنّ الجنب ليس له أن يكتفي بالوضوء، بل لا بدّ أن يغتسل للصلاة، ومثله المستحاضة الكبرى إذا أرادت أن تصلّي الفريضة، فإنّه يجب عليها أن تغتسل وليس لها أن تكتفي بالوضوء، وكذا في مورد مسّ الميّت وغيره؛ لما دلّ على أنّ الغسل يغني عن الوضوء، وأمّا غير ذلك من الموارد كما إذا أرادت المستحاضة أن تصلّي نافلةً فمقتضى إطلاق الآية الكريمة وغيرها من المطلقات أنّ المستحاضة يمكنها أن تكتفي بالوضوء.
ويظهر من هذا البيان أنّ المستحاضة بالاستحاضة الكثيرة وكذا المتوسّطة لا يجب عليهما الغسل للنوافل مستقلّاً، بل يجوز لهما أن تكتفيا فيها بالوضوء.
هذا، مضافاً إلى أنّه استدلّ على عدم وجوب الغسل للنوافل بالنصوص الواردة في أنّ المستحاضة بالكثيرة تغتسل ثلاث مرّات؛ لأنّ هذه النصوص على طوائف:
منها: ما دلّ على أنّها تغتسل للفجر غسلًا وللظهرين غسلًا وللعشاءين غسلًا، كما في صحيحة معاوية بن عمّار
ومرسلة يونس
وغيرهما.
ومنها: ما دلّ على أنّها تغتسل عند صلاة الظهر وعند المغرب وعند صلاة الصبح، كما في صحيحة ابن سنان.
ومنها: ما دلّ على أنّها تغتسل في كلّ يوم وليلة ثلاث مرّات، كما في صحيحة الصحّاف.
وهي بأجمعها تدلّ على أنّ الغسل إنّما يجب في الفرائض فقط عند الجمع بين الظهرين والعشاءين، ولا يجب في غير الفرائض، وإلّا لوجب أن تتعرّض الأخبار لوجوبها في النوافل؛ لأنّها في مقام البيان، والنوافل كانت مورداً لابتلائهم في الأزمنة السابقة أكثر من الأزمنة المتأخّرة؛ لأنّهم كانوا ملتزمين بها كالتزامهم بالفرائض، ومع
الابتلاء بها لا وجه لعدم تعرّضهم لوجوب الغسل، سوى عدم كونه واجباً في النوافل. ولا سيّما صحيحة الصحّاف المتقدّمة التي صرّحت بأنّ الواجب من الغسل في كلّ يوم وليلة ثلاث مرّات؛ إذ لو كان الغسل واجباً في النوافل أيضاً لكان الواجب في اليوم والليلة أكثر من ثلاث مرّات.
وأظهر من الجميع ما ورد في طائفة اخرى، وهي ما دلّ على وجوب الغسل عند وقت كلّ صلاة كما في صحيحة
يونس بن يعقوب حيث ورد فيها: «فإن رأت الدم دماً صبيباً فلتغتسل في وقت كلّ صلاة»،
وهو ثلاثة أوقات: بعد الفجر فإنّه وقت صلاة الصبح، وبعد الزوال فإنّه وقت الظهرين، وبعد المغرب فإنّه وقت العشاءين. ومقتضى إطلاقها أنّها لو اغتسلت في هذه الأوقات الثلاثة كفتها في صلواتها الفرض والندب؛ لدلالتها على أنّ اللازم هو الغسل في وقت الفريضة أتت بنافلة معها أو لم تأت بها، وعليه لو اغتسلت للفرائض أمكنها الإتيان بالنوافل أيضاً، إلّا أنّها لا بدّ من أن تتوضّأ للنافلة.
ثمّ إنّه هل يكفي غسلها للفرائض عن التوضّؤ للنوافل بحيث إذا اغتسلت للمغرب- مثلًا- جاز أن تتنفّل للمغرب من دون وضوء أو يجب أن تتوضّأ لها ولا يغني عنه الغسل؟ قال
السيد اليزدي : «يجب لكلّ ركعتين منها وضوء».
واستدلّ على ذلك بالأخبار الدالّة على وجوب الوضوء لكلّ صلاة،
وهي أعمّ من الفريضة والنافلة. وقد يناقش فيه بأنّ الأخبار المذكورة إنّما وردت في غير الاستحاضة الكثيرة.
واختار السيد الخوئي في مقام الفتوى عدم وجوب الوضوء عليها لكلّ صلاة من النوافل.
بينما ذهب في شرح العروة إلى وجوب الوضوء لنوافلها وعدم كفاية الغسل للفرائض عنه.
واستدلّ على ذلك بأنّ المبنى الصحيح وإن كان كفاية كلّ غسل عن الوضوء، إلّا أنّ غسل
المرأة عن الاستحاضة الكثيرة للفريضة لا يجزي عن الوضوء للنافلة وإن كان مجزياً عن الوضوء للفريضة؛ وذلك لأنّ النافلة إمّا أن تكون متأخّرة عن الفريضة كما في صلاتي المغرب والعشاء، وإمّا أن تكون متقدّمة عليها كما في صلوات الصبح والظهرين.
أمّا النافلة المتأخّرة عن الفريضة فلا ترديد في عدم كفاية الغسل للفريضة عن التوضّؤ لها؛ لأنّ المستفاد من الأدلّة الدالّة على أنّ المستحاضة تغتسل وتصلّي أو تغتسل وتتوضّأ وتصلّي أنّ الغسل والوضوء طهارة في حقّها، وأنّها تصلّي عن طهارة، فهي مخصّصة للأدلّة الدالّة على ناقضيّة الحدث للطهارة، بمعنى أنّ الدم الخارج منها بعدها إلى آخر الصلاة لا يكون ناقضاً لطهارتها، كما في المبطون والمسلوس، لا أنّ تلك الأدلّة مخصّصة للأدلّة الدالّة على
اشتراط الصلاة بالطهور، وأنّ المستحاضة أو
المبطون و
المسلوس - مع كونهم محدثين- تجوز الصلاة في حقّهم؛ وذلك للقطع بأنّ المستحاضة لو أحدثت بالنوم أو البول، أو المبطون والمسلوس لو أحدثا بالنوم ونحوه لم يشرع في حقّهم الصلاة وإن اغتسلوا أو توضّئوا قبلها.
وكيف كان فالاغتسال والتوضّؤ طهارة في حقّ المستحاضة، والدم الخارج منها بعد اغتسالها ليس بناقض لطهارتها، إلّا أنّ المقدار الثابت من التخصيص في أدلّة النواقض إنّما هو مقدار فريضة واحدة كما في
صلاة الصبح ، أو مقدار فريضتين كما في الظهرين أو العشاءين على تقدير الجمع بينهما، فالدم الخارج إلى آخر الفريضة أو الفريضتين محكوم بعدم الناقضيّة بمقتضى الأخبار. وأمّا إذا اغتسلت فصلّت الفريضة الواحدة ثمّ أتت بعدها بنافلة فإنّه لا دليل على عدم ناقضيّة الدم الخارج بعد الفريضة، والمفروض
استمرار الدم، فالدم الخارج منها أثناء النافلة أو قبلها- أي بعد الفريضة- ناقض للطهارة بمقتضى أدلّة النواقض، فلا تتمكّن المرأة من
الإتيان بالنافلة بعد الفريضة بالغسل الذي أتت به لأجل الفريضة.
وأمّا النافلة المتقدّمة على الفريضة فهي أيضاً كذلك، ولا يجوز للمستحاضة أن تأتي بها بالغسل الذي أتت به قبل النافلة لأجل الفريضة؛ وذلك لوجوب المبادرة إلى الصلاة بعد
الاغتسال ومع التراخي، كما إذا اغتسلت وأتت بالنافلة ثمّ أرادت الإتيان بالفريضة فلا تصحّ صلاتها ولا غسلها، فإنّ الغسل الصحيح هو الذي يتعقّب بالفريضة من دون تأخير، وأمّا معه فلا دليل على مشروعيّة الغسل بوجه، إلّا أن يقوم دليل على قادحيّة التأخير بإتيان النافلة بين الغسل والفريضة.
ورواية
إسماعيل بن عبد الخالق - المشتملة على قوله عليه السلام: «... فإذا كان
صلاة الفجر فلتغتسل بعد طلوع الفجر ثمّ تصلّي ركعتين قبل الغداة ثمّ تصلّي الغداة»
- وإن كانت واردة فيما نحن فيه ولا
إشكال في دلالتها على الجواز وصحّة إتيان النافلة بالغسل الذي أتت به الفريضة، إلّا أنّها ضعيفة السند
بمحمد بن خالد الطيالسي ، فلا يمكن
الاعتماد عليها في شيء. ومع
بطلان غسلها لا معنى لكونه مجزئاً عن الوضوء؛ لأنّ الذي يغني عن الوضوء هو الغسل المأمور به دون غيره، وعليه فالمرأة المستحاضة لا تتمكّن من الإتيان بالنوافل إلّا بوضوء، بمقتضى إطلاق ما دلّ على أنّ المستحاضة تتوضّأ لكلّ صلاة أو أنّها تتوضّأ وتصلّي.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۱۳۲- ۱۳۸.