أخذ الأجرة على الأذان
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
اختلف الفقهاء في جواز أخذ
الأجرة على الأذان على قولين:
فالمشهور بين الفقهاء
الحرمة،
بل ادّعي عليه
الإجماع ؛
استناداً إلى الأخبار، كموثّقة
السكوني عن جعفر عن أبيه عن
علي عليهم السلام قال: «آخر ما فارقت عليه حبيب قلبي أن قال: يا علي إذا صلّيت فصلّ صلاة أضعف من خلفك، ولا تتّخذنّ مؤذّناً يأخذ على أذانه أجراً»،
ومرسلة
الصدوق : أتى رجلٌ أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين واللَّه إنّي لُاحبّك، فقال له: «ولكنّي أبغضك، قال: ولم؟ قال: لأنّك تبغي في الأذان كسباً، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً».
وإلى أنّ الأذان عمل يعود نفعه إلى
الأجير ، فلو أخذ الأجرة عليه ففيه جمع بين العوض والمعوّض عنه؛ ضرورة كون المؤذّن أحد المخاطبين.
حيث قال: «لنا: أنّها عبادة دينيّة، فلا يجوز أخذ الأجرة عليها».ولا فرق في ذلك بين أخذ الأجرة من بيت المال أو من غيره. وقيّد بعضهم الحرمة بما لو أخذها من غير بيت المال فقط،
كما يظهر ذلك أو يلوح من عبارات بعض آخر،
كما نسب ذلك
الفاضل الهندي وصاحب مفتاح الكرامة والمحقق النجفي إلى الشيخ الطوسي والمحقق الحلّي.إلّا أنّ عباراتهم الاخرى تأبى عن ذلك.
إلّا أنّه نوقش فيه بعدم الفرق بينهما؛ فإنّه إن جاز أخذ الأجرة عليه منه فأولى أن يجوز من غيره، وإن لم يجز من غيره فأولى أن لا يجوز منه.
ومن هنا احتمل إرادة
القاضي ابن البرّاج من الأجرة
الارتزاق .
وذهب البعض الآخر إلى كراهة أخذ الأجرة على الأذان،
وهو ظاهر
المحقّق في
المعتبر ،
وقال بعد نقل خبر السكوني: «وأقلّ ذلك الكراهيّة».
والشهيد في
الذكرى ،
وكذا نسب إلى السيد في
المصباح ؛
واحتمله الأردبيلي في
مجمع الفائدةكما قوّاه
المجلسي في
بحار الأنوار ولحمل الأخبار المذكورة على
الكراهة ؛
للأصل ، مضافاً إلى ضعف السند،
ولأنّ الأذان عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه- كما سيأتي- فيجوز أخذ الأجرة عليه.
وناقش في ذلك
المحدّث البحراني حيث قال: «وهذه الأخبار (أي خبر السكوني ومرسلة الصدوق وخبر الدعائم) إذا ضمّ بعضها إلى بعض لا تقصر عن
إفادة التحريم. وقوله في
المدارك - بانتفاء دلالة الخبر المتقدّم(أي خبر السكوني) على التحريم- لا أعرف له وجهاً، مع تضمّنه للنهي الذي هو حقيقة في التحريم. نعم، تطرّق
التأويل إليه بحمل النهي على الكراهة ممكن، إلّا أنّه فرع وجود المعارض. وأمّا طعنه فيه بضعف السند فقد عرفت ما فيه في غير مقام (بأنّه مجبور بعمل الأصحاب). وبالجملة؛ فالمتّجه على قواعد أصحاب هذا الاصطلاح المحدث هو القول بالكراهة؛ لضعف الأخبار المذكورة باصطلاحهم، وأمّا من لا يعمل به فالظاهر هو التحريم».
وهل يختصّ الحكم- أي حرمة أخذ الأجرة أو الكراهة- بأذان
الإعلام ، أو يشمل حتى أذان الصلاة؟لم يتعرّض لذلك أكثر الفقهاء، ولكنّ الظاهر من الفتاوى كالنصوص أنّ المراد أذان الإعلام، قال المحدّث البحراني:«لا يخفى أنّ مورد الأخبار إنّما هو الأذان الإعلامي. وأمّا الأذان الصلاتي فلا نصّ فيه بوجه؛ لأنّ المعلوم من الأخبار توجّه الخطاب به إلى المصلّي نفسه
والاكتفاء بفعل غيره عنه يحتاج إلى دليل، نعم، قام الدليل بالنسبة إلى
الإمام بأنّه يجوز أن يؤذّن له، ولكن هذا
رخصة ، فلو لم يتبرّع غيره بالأذان له رجع الحكم إليه وكان عليه القيام بذلك، ولا دليل على أنّه يجوز له
الاستئجار على أذان. وهذا بخلاف الأذان الإعلامي فإنّ الأمر به لم يتعلّق بشخص بعينه».
ونحوه ذكر
السيّد العاملي .
وقال
المحقّق النجفي أيضاً: «ويظهر بعد التأمّل أنّ محلّ البحث الأذان الإعلامي لا الصلاتي».
وقد ذكروا لذلك- مضافاً إلى دعوى أنّ مورد الأخبار هو الأذان الإعلامي- وجهين.
الأوّل: عدم صحّة
النيابة في الأذان الصلاتي؛ لظهور أدلّة مشروعيّته في كون الخطاب به كخطاب الصلاة
وقنوتها وتعقيبها يراد منه
المباشرة ، فإذا كان العمل باطلًا في نفسه لم يجز أخذ الأجرة عليه،
والاجتزاء بأذان الغير لصلاته في بعض الأحوال بشرط السماع لا يلزم منه جواز النيابة؛ لعدم
التلازم بينهما، وقاعدة جواز الإجارة في كلّ ما جاز التبرّع فيه مقطوعة الجواز هنا بظهور الأدلّة في المباشرة أو السماع على الوجه المخصوص، دون النيابة
الأجنبيّة عن ذلك، بل لعلّ التبرّع المستلزم لجواز
الإجارة غير جائز هنا أيضاً.
ونوقش فيه بأنّ ذلك- لو سلّم- فإنّما يمنع من وقوع الإجارة على الأذان بعنوان النيابة، أمّا لو كانت على الأذان المأتيّ به لصلاة الأجير لغرض للمستأجر في ذلك فلا يصلح للمنع عنها.
وأجاب عن ذلك
السيد الخوئي بأنّه لا يزيل ما بينهما من توهّم التضاد، ثمّ ناقش بوجه آخر، حاصله نفي الضمير في أخذ الأجرة على العبادات، ونفي مصادمة حيثيّة العباديّة للوقوع في حيّز الإجارة؛ فإنّ للأذان حينئذٍ أمرين:
أحدهما:استحبابي نفسيّ تعبّدي، فيقصد التقرّب بهذا الأمر. وثانيهما: وجوبي توصّلي ناشئ من قبل الإجارة، فيأتي الأجير بذات العمل للَّه، ويكون الباعث على هذا العمل القربي الأمر الإيجاري، وتفريغ الذمّة عمّا وجب عليه بالإجارة شرعاً، فإنّ ذلك لا ينافي العباديّة.
الثاني: أنّ الأذان وغيره من العبادات ممّا كان البعث إلى فعله بعنوان كونه للفاعل لا لغيره، والإجارة عليه تستوجب كونه ملكاً للمستأجر، فلا تكون حينئذٍ موضوعاً للطلب.واورد عليه:
أوّلًا: بأنّ الإجارة لم تكن منافية لذلك، أي كونه للفاعل، فلا تكون موجبة
للبطلان .
وثانياً: بأنّ غاية ما يستفاد من الأدلّة صدور الأذان من المؤذّن لنفسه مع قصد
القربة ، وأمّا الزائد على ذلك- بأن يكون ملكاً له أيضاً- فالأدلّة قاصرة عن
إثباته .
وظهر ممّا تقدّم أنّ مقتضى القاعدة عند بعض حرمة أخذ الأجرة على أذان الصلاة.
وأنّ البحث في غير الأذان الإعلامي مع كون المستند الروايات لا معنى له بالكلّية هنا؛ لكون الروايات المذكورة واردة في أذان
الإعلام كما تقدّم، فالمناقشة بالطعن فيها سنداً أو دلالة إنّما يؤثّر في حكم الأذان الإعلامي دون الصلاتي، فإنّ أخذ الأجرة عليه ثابتة بقطع النظر عنها.لكن خالف في ذلك السيد الخوئي، فذهب إلى أنّ مقتضاها حرمة أخذ الأجرة على أذان الصلاة، كما أنّها كذلك في أذان الإعلام؛ إذ النصوص الخاصة الواردة في المقام مطلقة تقتضي عدم الفرق بينهما، فلا مناص من العمل بها والأخذ بمضمونها، القاضي بعدم جواز أخذ الاجرة والخروج بها عن مقتضى القاعدة الدالّة عنده على جواز الأخذ.
ثمّ إنّه لو قلنا بحرمة أخذ الأجرة على الأذان ففي حرمة الأذان وبطلانه خلاف، فذهب القاضي ابن البراج إلى حرمته حينئذٍ؛
لمنافاته
للإخلاص ، فيبطل من جهة النيّة، ولأنّه منهيّ عنه في الروايات المعتضدة بعمل الأصحاب. واحتمل العلّامة أن يكون وقوعه على هذا الوجه غير شرعي، فيكون بدعة وحراماً.
واستشكله ثاني الشهيدين- بعد أن استوجهه- بأنّ
النيّة غير معتبرة فيه، والمحرّم هو أخذ الأجر لا نفس الأذان؛ فإنّه عبادة وشعار،
فإن فات أحدهما لم يفت الآخر.وإليه ذهب بعض آخر من الفقهاء.
لكن ردّه
المحقق القمّي بالضعف؛ فإنّ
إسقاط الأذان إنّما هو من جهة
العبادة .
وقيّد بعضهم الحرمة بما لو أتى به بقصد الأجرة، وإلّا حرمت الأجرة وصحّ الأذان.
وفصّل المحقق النجفي بين ما لو فعله بقصد الأجرة مع القول باشتراط النيّة فيه فيقع فاسداً، وبين ما لو قلنا بعدم اشتراط النيّة فيه فيمكن القول بعدم الفساد.
وعلى هذا فلو أذّن لا بقصد الأجرة أو بقصدها مع عدم القول باشتراط النيّة في الأذان ترتّبت على الأذان أحكامه من
الاعتداد به، واستحباب الحكاية، ونحو ذلك، كما تقدّم؛ إذ دعوى ظهور الأدلّة في ترتّبها على المحلّل دون المحرّم يمكن منعها على مدّعيها.
يجوز ارتزاق المؤذّن من بيت المال بلا خلاف فيه،
بل عليه
الإجماع في
التذكرة وإن قيّده بعضهم
باقتضاء المصلحة لذلك.
واستدلّ له بأنّ بيت المال معدّ لمصالح المسلمين والأذان من أهمّها،
وليس ارتزاق المؤذّن إلّا كارتزاق أمثاله من الموظّفين لمصالح المسلمين العامّة،
كالقاضي والوالي وغيرهما.
وقيّد جماعة جواز الارتزاق بعدم وجود المتطوّع؛
ضرورة عدم وجود المصلحة للمسلمين في ارتزاقه مع وجود المتطوّع، فلا يجوز صرف بيت المال في غير مصالحهم.
فلو وجد المتبرّع الجامع لشرائط الكمال لا يجوز ارتزاق غيره قطعاً. أمّا إذا كان فاقداً لبعض صفات
الكمال التي في وجودها مصلحة للمسلمين
كالعدالة ونحوها اتّجه حينئذٍ ارتزاق غير المتطوّع،
من بيت المال المتطوّع ومن خاصّ مال الإمام.
ويتّجه أيضاً مراعاة التعدّد مع فرض
الاحتياج إليه، ولو أمكن احتمل
الاقتصار على رزق واحد؛ نظراً لبيت المال ورزق الكلّ لئلّا تتعطّل المساجد.
هذا كلّه في الأذان. وأمّا الإقامة فيحرم أخذ الأجرة عليها من دون خلاف فيه،
بل ذهب العلّامة إلى عدم جواز
الاستئجار عليها حتى على القول بجواز الاستئجار على الأذان.
وردّ بأنّ أخبار المقام تختصّ بالأذان، ولا نصّ في الإقامة، فتكلّف البحث فيها كما ذكروه لا وجه له وهو من باب:«اسكتوا عمّا سكت اللَّه عنه».
لكنّ
الاستدلال عليه لا يختصّ بالأخبار المذكورة؛ إذ يمكن أن يستدلّ له بأنّ
الإقامة عبادة فلا يجوز أخذ العوض عليها؛ لمنافاته قصد القربة.
إلّا أنّه لا يأتي على القول بجعل العمل القربي محلّاً للإجارة كما ذهب إليه
السيد الخوئي في الأذان.ثمّ على القول بحرمة أخذ الأجرة على الإقامة، ففي حرمة الإقامة وبطلانها خلاف، كما تقدّم في الأذان.فذهب القاضي ابن البرّاج إلى حرمتها حينئذٍ فلا يعتدّ بها في الصلاة.
وذهب الشهيد إلى عدم حرمة الإقامة فيعتدّ بها.
وفصّل بعض آخر بين داعويّة أخذها على الفعل وعدمها، فتحرم على الأوّل فلا يعتدّ بها، دون الثاني.
هذا كلّه في أخذ الأجرة عليها، وأمّا
الارتزاق من بيت المال فلا ريب في جوازه إذا اقتضته المصلحة؛ لعدم النهي عنه وقيام
السيرة والأخبار على جوازه وفرقه عن
الإجارة إمّا من جهة عدم الضبط
والتعيين فيه دون الإجارة
أو عدم ملكه الرزق بالعمل وعدم توقّف العمل عليه،
أو من جهة الحاجة المسوّغة للأخذ منه،
أو غير ذلك، وبيت المال هو المعدّ للصرف في مصالح المسلمين والإقامة من أهمّها.
الموسوعة الفقهية، ج۸، ص۲۴۴-۲۵۱.