إخراج الدم للمحرم
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لا يجوز للمحرم
إخراج الدم من
بدنه ، وهذا
متسالم عليه بين الفقهاء بشكل عام، إلّا أنّ البحث في سعته وضيقه.
فقد اقتصر أكثر القدماء على ذكر موارد خاصّة من
الإدماء ، فذكر
القاضي تحريم حكّ الجلد المفضي إلى الإدماء و
السواك كذلك،
وفي
النهاية وموضع من
المبسوط و
السرائر والجامع ذكرهما مع
الاحتجام خاصّة،
وفي
المقنعة ذكر مع الاحتجام
الافتصاد ،
وفي
جمل العلم والعمل ذكر الاحتجام والافتصاد وحكّ الجلد حتى يدمي.
واحتمل أنّ
الاقتصار في كلماتهم كالروايات على بعض الأفراد إنّما هو من باب المثال لمطلق الادماء؛ إذ يبعد
الالتزام بالخصوصية في تلك الموارد.
ولكن قد يدفع ذلك: بأنّه يعلم من
اختلاف كلماتهم، عدم
إرادة مطلق إخراج الدم، وإلّا كان ينبغي
التعبير به، بل وفي بعض الكلمات
التصريح بعدم تحريم بعض الموارد،
فقد ذكر
الشيخ الطوسي في
الخلاف وموضع آخر من المبسوط كراهة الاحتجام،
وقال في
الجمل والعقود وكذا
ابن حمزة : إنّه يكره الإدماء بالحكّ أو السواك، وذهب المحقّق في
الشرائع إلى كراهية الإدماء بالحكّ والسواك رغم قوله بتحريم إخراج الدم،
وقال في النافع بكراهية الاحتجام.
المستفاد من كلمات أكثر الفقهاء حرمة إخراج الدم مطلقاً بأيّ نحو وقع، فقد عدّ سلّار
الحجامة وحكّ الجلد حتى الإدماء وإخراج الدم من جملة المحرّمات.
وجعل ابن زهرة إدماء الجسد بحكّ أو غيره من المحرّمات،
وقال الشهيد- بعد ذكر حرمة الحجامة-: «وفي حكم الحجامة، الفصد وإخراج الدم ولو بالسواك أو حكّ الرأس».
بل صرّح جملة من الفقهاء بتحريم إخراج الدم مطلقاً.
واستدلّ لحرمة مطلق الإدماء بأنّه يستفاد من الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة أنّ الإدماء بعنوانه محرّم، بأي نحو وقع بالحكّ أو الحجامة أو غيرهما
:
منها: صحيحة
معاوية بن عمّار ، قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن المحرم كيف يحكّ رأسه؟ قال: «بأظافيره ما لم يُدم أو يقطع الشعر».
ومنها: قول
الإمام الصادق عليه السلام في صحيحة
عمر بن يزيد : «لا بأس بحكّ الرأس واللّحية ما لم يلق الشعر، وبحكّ الجسد ما لم يدمه».
والظاهر من الروايتين أنّ مطلق الإدماء وإخراج الدم من جميع الجسد مبغوض.
وكذا ورد في عدّة روايات المنع من الحجامة:
منها: صحيحة
الحلبي ، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن المحرم يحتجم؟ قال: «لا، إلّا أن لا يجد بدّاً فليحتجم، ولا يحلق مكان المحاجم».
ومنها: معتبرة
زرارة عن
أبي جعفر عليه السلام : قال: «لا يحتجم المحرم إلّا أن يخاف على نفسه أن لا يستطيع
الصلاة ».
وغيرها من الروايات،
وفي مقابلها ما دلّ على الجواز كصحيحة
حريز عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «لا بأس أن يحتجم المحرم ما لم يحلق أو يقطع الشعر».
ومقتضى القاعدة الجمع بين النصوص بالحمل على
الكراهة .
ويؤيّده خبر
يونس بن يعقوب : عن المحرم يحتجم؟ قال: «لا احبّه»،
بدعوى أنّ قوله: «لا احبّه» ظاهر في الجواز مع الكراهة.
وأيضاً قد ورد في روايات متعدّدة أنّ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و
الحسن و
الحسين عليهما السلام احتجموا وهم محرمون.
ولكن اجيب عن الروايات الأخيرة:
بأنّها- مضافاً إلى ضعف سندها- مشتملة على نقل فعلهم، ولا
إطلاق لذلك، ولعلّهم احتجموا للضرورة؛ إذ الحجامة حال الإحرام وإن لم تكن محرّمة فلا إشكال في كراهتها، فكيف تصدر منهم
؟! وأمّا قوله: «لا احبّه» في خبر يونس فهو غير دالّ على الجواز، غايته عدم الدلالة على الحرمة،
هذا مضافاً إلى ضعف السند.
فالعمدة في المقام إنّما هو صحيحة حريز المتقدّمة، فإنّها نصّ في جواز الاحتجام، ولكن بما أنّها مطلقة فهي تشمل
المضطر والمختار معاً، والروايات المانعة المتقدّمة جوّزت الاحتجام في مورد الضرورة، ومقتضى القاعدة حمل المطلق على المقيّد، فلا بدّ من القول بعدم الجواز في غير مورد الضرورة.
وأمّا في باب السواك فالذي يدلّ على عدم جواز
الاستياك إذا أوجب الإدماء بعض الروايات، كصحيحة الحلبي: قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن المحرم يستاك؟
قال: «نعم، ولا يُدمي».
ولعلّ المشهور بين الفقهاء
حرمته أيضاً استناداً إلى هذه الرواية وغيرها.
وفي مقابلها طائفة من الأخبار الدالّة على جواز الاستياك وإن أوجب الإدماء:
منها: صحيحة
علي بن جعفر عن
أخيه موسى بن جعفر عليه السلام ، قال: سألته عن المحرم هل يصلح له أن يستاك؟ قال: «لا بأس، ولا ينبغي أن يُدمي»،
بدعوى ظهور «لا ينبغي» في الكراهة.
واجيب عنها: بأنّ «لا ينبغي» ظاهر في الحرمة؛ لأنّه بمعنى لا يتيسّر، وغايته عدم دلالته على الحرمة لا دلالته على الجواز مع الكراهة، كما هو المدّعى.
ومنها: صحيحة معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: في المحرم يستاك؟ قال: «نعم»، قلت: فإن أدمى يستاك؟ قال: «نعم، هو من السنّة».
واجيب عنها: بأنّها متروكة الظاهر؛ لدلالتها على أنّ السواك من السنّة مطلقاً حتى في الصورة المفروضة ولا قائل به؛ للاجماع على الكراهة، فينبغي طرحها أو حملها على صورة عدم العلم بالإدماء.
وجعل بعضهم
الشهرة الفتوائية هنا مرجّحة للطائفة الناهية.
ولكن ذكر بعض الفقهاء أنّ إخراج الدم بالسواك من الموارد المستثناة؛
نظراً إلى تقديم صحيحة معاوية بن عمّار على صحيحة الحلبي؛ لأنّ الصحيحة الاولى ناصّة على الجواز مع الإدماء، ولكن الثانية ظاهرة في المنع، وحينئذٍ فيرفع اليد عن ظهورها بنصّ تلك الصحيحة تطبيقاً لقاعدة حمل الظاهر على النص.
وهنا قول بالتفصيل بين ما إذا علم بخروج الدم وكان يطلب خروج الدم فلا يستاك، وما إذا كان خروج الدم من باب
الاتّفاق فلا بأس.
ويدلّ عليه: قول
الكليني - بعد رواية معاوية بن عمّار-: «وروي أيضاً: لا يستدمي».
ثمّ إنّه يستثنى من ذلك أيضاً موارد إخراج الدم عند
الاضطرار بلا خلاف فيه، بل ادّعي فيه
الإجماع بقسميه،
كما تدلّ عليه الروايات:
منها: موثقة
عمّار بن موسى عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: سألته عن المحرم يكون به الجرب فيؤذيه، قال: يحكّه، فإن سال الدم فلا بأس».
بتقريب: أنّ الظاهر منها أنّه إذا اضطر إلى الحكّ جاز وإن أدّى إلى الإدماء.
وهل يختصّ الحكم بحرمة إخراج الدم أو كراهته ببدن المحرم أم يعمّ غيره،
إنساناً كان أو حيواناً؟
يستفاد من كلمات الفقهاء جواز ذلك، وقد صرّح به بعضهم.
والمستند فيه
أصالة البراءة ، حيث لا يوجد في الباب رواية خاصّة إلّا ما ورد في علاج دبر الجمل عن عبد اللَّه بن سعيد، قال: سأل أبو عبد الرحمن أبا عبد اللَّه عليه السلام عن المحرم يعالج دبر الجمل، قال: فقال: «يلقي عنه الدواب ولا يدميه»،
فهل المستفاد منها أنّ الحكم بذلك من جهة
الإيذاء أو الإدماء؟ الرواية ساكتة عن ذلك، و
الأصل البراءة.
نعم، ذكر بعضهم أنّ الأحوط
استحباباً ترك إخراج الدم من بدن محرم آخر وإن كان لا يجوز على ذلك المحرم على
الأحوط وجوباً.
ثمّ لو علم المحرم بخروج الدم عند الحلق بمنى، ولم يكن صرورة فقد يقال بأنّه يجب عليه أن يقصّر أوّلًا ثمّ يحلق، ولا يجوز له
اختيار الحلق الذي هو الشقّ الآخر للواجب التخييري في حقّ غير الصرورة؛ لأنّ إخراج الدم محرّم فلا يجوز له
الامتثال بالفرد المستلزم للحرام،
بل إذا كان صرورة لا يجوز له الحلق إذا علم بخروج الدم، هذا بناءً على القول بالتخيير بين الحلق والتقصير في حقّ الصرورة، أمّا إذا قلنا بوجوب الحلق عليه أو كان ممّن يجب عليه ذلك كالملبّد والمقعّص فقد ذكر بعضهم أنّه لا بدّ من الحلق وإن علم بخروج الدم عند الحلق،
ولكن ذهب جملة من الفقهاء- وربّما الأكثر- إلى تقديم
التقصير أوّلًا ثمّ يحلق
في ذي الحجّة في أيّ وقت أمكن ولو كان بمكّة، ثمّ يرسل شعره إلى منى،
وقد تقدّم نظير هذه المسألة في كيفيّة
إحرام الخنثى وحلقه أو تقصيره.
الموسوعة الفقهية، ج۶، ص۵۵۷-۵۶۳.