الإحصار (مكان ذبح الهدي)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الإحصار (توضيح).
بعد
اتّفاق الفقهاء على لزوم
الهدي للتحلّل اختلفت عباراتهم في مكان الذبح، وأنّه هل يجوز له ذبح الهدي في مكانه في أنواع
الحج والعمرة، أو يجب بعث الهدي إلى محلّه، أو يفصّل فيه بين أنواع الحج والعمرة؟
ذهب
الشيخ الصدوق في
المقنع إلى أنّ
المحصور و
المضطرّ ينحران
بدنتيهما في المكان الذي يضطرّان فيه،
وفصّل سلّار بين
التطوّع وحجّة الإسلام، وأنّه يذبح الهدي حيث احصر في الأوّل فقط،
وهو ظاهر
الشيخ المفيد أيضاً.
وذهب جماعة إلى
التخيير بين بعث الهدي والذبح في مكان الإحصار- كما حكي عن
الإسكافي وقوّاه
السيد العاملي ،
ونفى البعد عنه
المحقق الأردبيلي جمعاً بين الروايات. واستقربه
السبزواري أيضاً.
وفي قبالهم ذهب
المشهور إلى وجوب بعث الهدي إلى محلّه،
بل عن ظاهر
الغنية وغيرها
الإجماع عليه،
فإن كان الإحصار في إحرام الحج وأراد المحصر التحلّل فعليه أن يبعث الهدي أو ثمنه إلى منى حتى يذبح فيها، وإن كان في إحرام العمرة- سواء كانت
عمرة التمتّع أو
العمرة المفردة - يبعثه إلى مكّة ويواعد أصحابه أن يذبحوه أو ينحروه في وقت معيّن، فإذا حضر الوقت تحلّل في مكانه، وهذا ما ذهب إليه الشيخ الطوسي وبنو حمزة و
البراج وادريس والمحقّق والعلّامة الحلّيان والشهيدان و
المحقّق النجفي وغيرهم،
ووافقهم
السيد الخوئي إلّا في العمرة المفردة حيث ذهب إلى التخيير فيها.
ومنشأ
اختلاف آراء الفقهاء، اختلاف الروايات ووجه الجمع بينها، وهي على طوائف:
الروايات الدالّة على أنّ
وظيفة المحصور ذبح الهدي في مكانه مطلقاً أي سواء كان محصوراً في الحج أم في العمرة المفردة أم في التمتّع:
منها: صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في المحصور ولم يسق الهدي، قال: «ينسك ويرجع»، قيل: فإن لم يجد هدياً؟ قال: «يصوم»،
وقريب منها صحيحته الاخرى.
ومنها: صحيحته الثالثة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «وإن كان مرض في الطريق بعد ما أحرم فأراد الرجوع إلى
أهله رجع ونحر بدنة...».
وروي في
الفقيه مرسلًا: «المحصور والمضطرّ ينحران بدنتيهما في المكان الذي يضطرّان فيه».
ولإطلاق هذه الروايات ذهب الشيخ الصدوق- كما تقدّم- إلى كفاية الذبح من مكانه مطلقاً، كما ذهب جماعة من الفقهاء إلى التخيير جمعاً بينها وبين ما يأتي من الأخبار.
ما دلّ على
التفصيل بين
حجّة الإسلام والتطوّع وأنّه يذبح في التطوّع من مكانه ويبعث به إلى محلّه في حجة الإسلام، نحو ما رواه الشيخ المفيد مرسلًا عن
الإمام الصادق عليه السلام ، قال: «المحصور بالمرض إن ساق هدياً أقام على إحرامه حتى يبلغ الهدي محلّه... هذا إذا كان حجّة الإسلام، فأمّا حجّة التطوّع فإنّه ينحر هديه وقد أحلّ».
ولعلّ
سلّار ذهب إلى التفصيل للجمع بين هذه الرواية وبين سائر الروايات،
كما أنّ ظاهر الشيخ المفيد أيضاً العمل بها.
ما دلّ على التفصيل بين العمرة المفردة وغيرها بأن يذبح في العمرة المفردة من مكانه:
منها: خبر
رفاعة بن موسى عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «خرج
الحسين عليه السلام معتمراً وقد ساق بدنة حتى انتهى إلى السقيا فبرسم (البرسام- بالكسر-: ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء ثمّ يتّصل إلى الدماغ. )
فحلق شعر رأسه ونحرها مكانه، ثمّ أقبل حتى جاء فضرب الباب، فقال
علي عليه السلام : ابني وربّ
الكعبة افتحوا له، وكانوا قد حموه الماء فأكبّ عليه فشرب ثمّ اعتمر بعد».
ومنها: ذيل صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إنّ الحسين بن علي خرج معتمراً فمرض في الطريق فبلغ عليّاً (ذلك)
وهو
بالمدينة فخرج في طلبه فأدركه بالسقيا وهو مريض، فقال: يا بنيّ ما تشتكي؟ فقال: أشتكي رأسي، فدعا علي عليه السلام ببدنة فنحرها وحلق رأسه وردّه إلى المدينة، فلمّا برأ من وجعه اعتمر».
وقد حمله بعض الفقهاء على العمرة المفردة وتمسّكوا بها في القول بالتخيير فيها، كما سيأتي.
ما دلّ على وجوب بعث الهدي إلى محلّه:
منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «إذا احصر الرجل بعث بهديه...».
ومنها: موثّقة زرعة، قال: سألته عن رجل احصر في الحج، قال: «فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه، ومحلّه أن يبلغ الهدي محلّه، ومحلّه منى يوم النحر إذا كان في الحج، وإن كان في عمرة نحر بمكّة، فإنّما عليه أن يعدهم لذلك يوماً، فإذا كان ذلك اليوم فقد وفى، وإن اختلفوا في الميعاد لم يضرّه إن شاء
اللَّه تعالى».
ومنها: صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل احصر فبعث بالهدي، فقال: «يواعد أصحابه ميعاداً فإن كان في حج فمحلّ الهدي يوم النحر، وإذا كان يوم النحر فليقصّر من رأسه، ولا يجب عليه الحلق حتى يقضي مناسكه، وإن كان في عمرة فلينتظر مقدار دخول أصحابه مكّة والساعة التي يعدهم فيها فإذا كان تلك الساعة قصّر وأحلّ، وإن كان مرض في الطريق بعد ما أحرم فأراد
الرجوع إلى
أهله رجع ونحر بدنة أو أقام مكانه حتى يبرأ، وإن كان في عمرة فإذا برأ فعليه العمرة واجبة، وإن كان عليه الحج فرجع إلى أهله أو أقام ففاته الحج كان عليه الحج من قابل... فإنّ
الحسين بن علي عليه السلام خرج معتمراً فمرض في الطريق فبلغ عليّاً عليه السلام ذلك وهو في
المدينة فخرج في طلبه وأدركه بالسقيا وهو مريض بها، فقال: يا بنيّ ما تشتكي؟ قال: أشتكي رأسي، فدعا علي عليه السلام ببدنة فنحرها وحلق رأسه وردّه إلى المدينة، فلمّا برأ من وجعه اعتمر»، قلت: أ رأيت حين برأ من وجعه قبل أن يخرج إلى العمرة أحلّ له النساء؟ قال: «لا تحلّ له النساء حتى يطوف بالبيت ويسعى بين
الصفا والمروة »، قلت: فما بال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم حين رجع من
الحديبية حلّت له النساء ولم يطف بالبيت؟ قال: ليسا سواء، كان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصدوداً والحسين محصوراً».
إلى غير ذلك من الروايات.
والمشهور إنّما ذهبوا إلى وجوب بعث الهدي إلى محلّه؛
استناداً إلى ظاهر قوله تعالى: «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ»،
والمراد من قوله «مَحِلَّهُ» منى أو مكّة، مضافاً إلى هذه
الطائفة من الروايات، فإنّها صريحة في المدّعى ومفسّرة للآية المباركة مع إمكان حمل سائر الروايات على مختلف الوجوه والمحامل كحمل الخبر الوارد في
اعتمار الإمام الحسين عليه السلام على الضرورة، كما يحتمل ذلك فيما روي عن الصدوق أيضاً.
ولا حجّية لمرسل المفيد حتى يعارض ما سمعته من النصوص، مضافاً إلى
إمكان حمل الخبر الدالّ على اعتمار الإمام الحسين عليه السلام على عدم إحرامه عليه السلام، وإنّما نحر هو أو
الإمام علي عليه السلام تطوّعاً،
خصوصاً إذا كان قد ساق؛ ولذا قال
المحقق النجفي بعد الإشكال على سائر الروايات: «وبذلك وغيره يظهر لك أنّه لا وجه للجمع بين النصوص بالتخيير المتوقف على
التكافؤ المعلوم عدمه من وجوه،
فالتحقيق حينئذٍ ما عليه المشهور».
وكذا ذهب
السيد الگلبايگاني إلى ما عليه المشهور- مع
استشكاله على رواية معاوية بن عمّار بمعارضة الصدر مع الذيل- تمسّكاً بسائر الأخبار الدالّة على لزوم البعث، ثمّ قال بعد ذكر عدّة منها: «يظهر لك من مجموع هذه النصوص- مع ما في بعضها
الإطلاق ، وفي بعض آخر خصوص القارن- لزوم بعث الهدي للمحصور إلى مكّة أو منى. وممّا حقّقناه يظهر لك
بالتأمّل أيضاً معارضة هذه الروايات مع ما في ذيل رواية ابن عمّار. نعم، إن قلنا بمقالة المشهور ومنهم صاحب
الجواهر رحمه الله، كما هو الحقّ والتحقيق فيمكن حمل ذيل صحيحة ابن عمّار السابق على الضرورة، فإذن للمحصور البعث إلى مكّة أو منى إلّا في حال الضرورة فيذبح في مكان الحصر، فلا يصحّ القول لرفع
التغاير و
التنافي بالفرق بين السائق هديه وعدمه، فالأوّل يبعث، والثاني عدم لزوم البعث فيذبح في مكان الحصر كما حكي عن
الجعفي ، ولا يصحّ القول أيضاً لرفع
التعارض والتنافي بالفرق بين حجّة الإسلام وحج المندوب، ففي الأوّل لزوم البعث بخلاف الثاني... ولا يصحّ أيضاً لرفع التعارض والتنافي القول بالتخيير بين البعث وعدمه مطلقاً».
هذا، ولكن ذهب
السيد الخوئي وغيره» إلى لزوم البعث في الحج وعمرة التمتّع، وأمّا في العمرة المفردة فيتخيّر بين البعث والذبح في محلّ الإحصار؛ جمعاً بين ما ورد في اعتمار الحسين عليه السلام وحصره في الطريق، حيث ظاهره
امتياز العمرة المفردة عن الحج بالذبح في مكانه وعدم لزوم البعث، وبين ما تقدّم من الصحاح الدالّة على بعث الهدي. والظاهر من صحيحة معاوية بن عمّار وصحيحة رفاعة تعدّد الواقعة وتعدّد صدور العمرة من الإمام الحسين عليه السلام، فمرّة لم يسق الهدي وأنّ
أمير المؤمنين عليه السلام خرج في طلبه فأدركه في السقيا وهو مريض بها، واخرى ساق بدنة ونحرها في مكانه ثمّ رجع بنفسه، فما صدر منه عليه السلام هو النحر أو الذبح في مكانه، دون أن يبعث بالهدي.
وردَّ السيد الخوئي المناقشة في الروايتين بحمل الرواية على صورة
اضطرار الإمام الحسين عليه السلام إلى حلق الرأس، فهي قضيّة في واقعة- بأنّ راوي هذه الواقعة لو كان من الرواة العاديين لاحتمل أن يكون ما حكاه قضيّة شخصيّة في واقعة تاريخية، لكنّ الراوي لذلك ولفعل
الإمام الحسين عليه السلام هو
الإمام الصادق عليه السلام ، وهو يروي بعنوان الحكم، ولو كان في البين اضطرار لبيّنه عليه السلام، فظاهر حكايته لفعل الإمام الحسين عليه السلام أنّ الحلق جائز مطلقاً، وليس مختصّاً بالمضطرّ، كما أنّه ليس في الرواية إشعار بأنّ الحسين عليه السلام كان مضطرّاً إلى حلق رأسه. مضافاً إلى أنّا لو سلّمنا حمل فعله عليه السلام على
الاضطرار فإنّ الاضطرار لا يوجب جواز تقديم الهدي وعدم البعث، بل الاضطرار يوجب جواز الحلق ثمّ ثبوت الكفّارة للحلق.
وكذا أجاب عن المناقشة في الروايتين باحتمال أن يكون الذبح على نحو التطوّع بالهدي، بأنّ المصرّح به فيهما أنّ الحسين عليه السلام خرج معتمراً فمرض في الطريق، وهو ظاهر في خروجه عليه السلام محرماً بالعمرة؛ لا أنّه كان يقصد الاعتمار، فإنّ المشتقّ ظاهر في
التلبّس بالحال. مضافاً إلى أنّ سؤال الراوي عن عدم حلّية النساء له و
استفساره عن حلّية النساء بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم- الذي أجاب الإمام عليه السلام عنه بالفرق بينهما، وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان مصدوداً، والحسين محصوراً- صريح في أنّ الحسين عليه السلام كان محرماً وقد منعه المرض من
إتمام بقيّة الأعمال. فيجوز للمحصور في العمرة المفردة الذبح من مكانه أو البعث إلى مكّة جمعاً بين الأخبار.
الموسوعة الفقهية، ج۷، ص۶۷-۷۳.