صلاة الجمعة في زمان الغيبة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
إذا لم يكن
الإمام عليه السلام موجودا أي كان غائبا عنّا كزماننا هذا وأمكن
الاجتماع والخطبتان استحبت الجمعة وكانت أفضل الفردين الواجبين، وفاقا للأكثر.
قيل : لعموم الأوامر بالجمعة من الكتاب والسنّة، ومقتضاها الوجوب، وهو أعم من العيني والتخييري، ولمّا انتفى الأوّل بالإجماع تعيّن الثاني.
وللمعتبرة، منها الصحيح : حثّنا
أبو عبد الله عليه السلام على صلاة الجمعة حتى ظننت أنه يريد أن نأتيه، فقلت : نغدو عليك فقال : «_لا _ إنما عنيت عندكم».
والموثق : «مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله تعالى» قال، قلت : كيف أصنع؟ قال : «صلّوا جماعة» يعني
صلاة الجمعة .
وفي الجميع نظر، لمنع أعمية الوجوب المستفاد من
الأمر من العيني والتخييري، لاختصاصه بحكم التبادر بالأوّل دون الثاني، ولو سلّم فغايتها الدلالة على وجوب الجمعة الصحيحة، وهي على ما عرفت ما كانت بإذن الإمام مقرونة، وليست بمفروض المسألة.
ودعوى حصول
الإذن للفقيه الجامع لشرائط الفتوى في صلاتها ممنوعة، لعدم ظهور دليل يدل عليه لا من إجماع لمكان الخلاف، ولا من رواية لاختصاصها بإفادة الإذن له في خصوص الحكومة والفتوى، وهما غير الإذن له في صلاة الجمعة وفعلها.
ودعوى
الأولوية ممنوعة هنا قطعا، لظهور أن الإذن في الحكومة والفتيا إنما هو للزوم
تعطيل الأحكام وتحيّر الناس في أمور معادهم ومعاشهم وظهور الفساد فيهم و
استمراره إن لم يقضوا أو يفتوا، ولا كذلك الجمعة إذا تركت كما لا يخفى، هذا.
ومفاد هذا الكلام على تقدير تسليمه إنما هو
اختصاص الاستحباب بصورة وجود الفقيه وحرمتها من دونه، وهو خلاف ما يقتضيه
إطلاق العبارة وكلام جماعة بل أكثر المجوّزين كما صرّح به في
روض الجنان فقال : ثمَّ على تقديره ـ أي
الاستحباب ـ هل يشترط في شرعيتها حينئذ
الفقيه الشرعي أم يكفي اجتماع باقي الشرائط و
الائتمام بإمام يصحّ
الاقتداء به في الجماعة؟ أكثر المجوّزين على الثاني، وهم بين مطلق للشرعية مع
إمكان الاجتماع والخطبتين، وبين مصرّح بعدم
اشتراط الفقيه، وممّن صرح به أبو الصلاح، ونقله عنه المصنف في
المختلف ، وصرّح به أيضا الشهيد في الذكرى، والمستند إطلاق الأوامر من غير تقييد بالإمام أو من نصبه عموما أو خصوصا، خرج منه ما اجمع عليه، وهو مع إمكان إذنه وحضوره، فيبقى الباقي على
أصل الوجوب من غير شرط.
أقول : ما ذكره من إطلاق الأوامر من غير تقييد ممنوع، لما عرفت من الأدلة على اشتراط الإذن مطلقا (و) ولذا (منعه) أي عقد الجمعة في هذه الأزمنة (قوم) كالمرتضى والحلّي و
الديلمي وغيرهم،
وتبعهم من المتأخرين الفاضل في
المنتهى ، وجهاد التحرير كما قيل، والشهيد في الذكرى.
وفي عبارات كثير من الأصحاب المجوّزين لفعلها زمن
الغيبة ما يدلّ عليه، كعبارة الشهيد ; في
الدروس واللمعة والفاضل في النهاية،
فإنهم عبّروا بأن الفقهاء يجمّعون في حال الغيبة، ولو كان اشتراط الإذن مختصا بحال الحضور لجاز فعلها في غيرها مطلقا ولو لغير الفقيه، وحينئذ فلا وجه لتخصيصهم الرخصة به، فليس ذلك إلاّ لعموم الاشتراط.
وقد بالغ المحقّق الثاني في تعميم الاشتراط فقال : لا نعلم خلافا بين أصحابنا في أنّ اشتراط الجمعة بالإمام أو نائبه لا يختلف فيه الحال بظهور الإمام وغيبته، وعبارات الأصحاب ناطقة بذلك، ثمَّ نقل الإجماعات المنقولة على الاشتراط مطلقا عن
التذكرة والذكرى وغيرهما، ثمَّ قال : فلا يشرع فعل الجمعة في الغيبة بدون حضور الفقيه الجامع للشرائط، وقد نبّه المصنف على ذلك في المختلف والشهيد في
شرح الإرشاد . وما يوجد من إطلاق بعض العبارات بفعل الجمعة من غير تقييد ـ كما في عبارات هذا الكتاب ـ فللاعتماد فيه على ما تقرّر من المذهب وصار معلوما، بحيث صار التقييد به في كل عبارة ممّا يكاد يعدّ تسامحا.
انتهى.
وحيث ثبت اشتراط الاذن مطلقا قوي المنع ولو للفقيه، لعدم دليل على الجواز أصلا، سوى ما سبق من عموم الأمر، وضعفه قد ظهر، والمعتبرة، وهي غير واضحة الدلالة، لاحتمال
استناد الجواز فيها إلى إذن الإمام عليه السلام ، وهو يستلزم نصب نائب من باب المقدمة، كما نبّه عليه الفاضل في النهاية فقال : لمّا أذن لزرارة وعبد الملك جاز، لوجود المقتضي وهو إذن الإمام.
أقول : مع
احتمال اختصاص الإذن لهما بفعلهما مع العامة كما يفهم من المقنعة حيث قال : ويجب حضور الجمعة مع من وصفناه من
الأئمة فرضا، ويستحب مع من خالفهم تقية وندبا روى هشام.
ثمَّ نقل الصحيحة، مؤذنا بفهمه منها اختصاص الرخصة بفعلها مع العامة.
ويؤيد هذا عدم تمكن الأئمة : وأصحابهم يومئذ من إقامتها مطلقا، للتقية، وإلاّ لوجبت عليهم
الإقامة عينا ولو مرّة، هذا. ولا ريب أنّ المنع أحوط بعد
الإجماع منهم على الظاهر المصرّح به كما عرفت في كثير من العبائر على
إجزاء الظهر، لعدم وجوب الجمعة عينا. ومرجعه إلى أنّ
اشتغال الذمة بالعبادة يوم الجمعة يقينا يستدعي
البراءة اليقينية ، وهي تحصل بالظهر ، للإجماع عليها دون الجمعة. ولعلّ هذا مراد من استدل على المنع عنها بأنّ الظهر ثابتة في الذمة بيقين فلا يبرأ المكلّف إلاّ بفعلها.
أو يكون المراد من ثبوتها في الذمة بيقين أنّ الله سبحانه ما أوجب الجمعة إلاّ بعد مدّة مديدة من البعثة ، وكان الفريضة بالنسبة إلى جميع المكلّفين في تلك المدّة هو الظهر بالضرورة ، ثمَّ بعد تلك المدة تغيّر التكليف بالنسبة إلى بعض المكلّفين خاصة لا كلّية بالإجماع والضرورة والأخبار المتواترة ، فمن ثبت تغيّر حكمه فلا نزاع ، ومن لم يثبت فالأصل بقاء الظهر اليقينية بالنسبة إليه حتى يثبت خلافه ولم يثبت. ومرجعه إلى استصحاب الحكم السابق على زمان تشريع الجمعة ، وهو وجوب الظهر على جميع المكلّفين ، وبعد تشريعها لم يثبت نقض ذلك الحكم إلاّ بالنسبة إلى بعضهم ، وكوننا منهم أوّل الدعوى لو لم نقل بكوننا غيرهم.
وأمّا
الاستدلال على الاستحباب بالاستصحاب بتخيّل أنّ الإجماع واقع من جميع
أهل الإسلام على وجوب الجمعة في الجملة حال ظهور الإمام عليه السلام بالشرائط فيستصحب إلى
زمان الغيبة . فمنظور فيه ، لمعارضته بإجماعهم على عدم الوجوب على من اختلّ فيه أحد الشرائط فيستصحب إلى زمان الغيبة. ودعوى اجتماع الشرائط في زمان الغيبة ممنوعة ، كيف لا وهو أوّل المسألة ، وليس قولك هذا أولى من قول من يدّعي عدم اجتماعها في زماننا ، بل هذا أولى ، لما مضى. مع أنّ الوجوب المجمع عليه حال الظهور هو العيني لا التخييري ، و
الاستصحاب لو سلّم يقتضي ثبوت الأوّل لا الثاني.
رياض المسائل، ج۳، ص۳۵۸- ۳۶۲.