الأعلم
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهو بمعنى كون
المجتهد أشدّ
مهارة من غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها، وأقوى
استنباطاً ، وأمتن
استنتاجاً للأحكام عن مبادئها وأدلّتها.
الأعلم: أفعل من عَلِمَ، بمعنى الأكثر
علماً .
والأعلمية: حال أو مصداقية
المجتهد الأعلم.
يقصد بالأعلم في الاصطلاح الأعرف بالقواعد والأقدر على
استنباط الأحكام
الشرعية ، بأن يكون أجود فهماً
للأخبار ، وأكثر
إحاطةً بمدارك المسألة وتطبيقاتها من غيره.
قال
السيد الخوئي : «المراد بالأعلمية كون المجتهد أشدّ
مهارة من غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها، وأقوى استنباطاً، وأمتن استنتاجاً للأحكام عن مبادئها وأدلّتها، وهو يتوقّف على علمه بالقواعد والكبريات، وحسن سليقته في تطبيقها على صغرياتها، ولا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر».
وثمّة تعريف آخر مطروح في بعض الكلمات، لم يرضه المتأخرون وناقشوه، وهو الأقرب إلى الواقع، على أساس أنّ
اجتهاده يكون أقرب على مستوى نتائجه إلى الواقع وأكثر مطابقةً له من غيره.
اخذت الأعلمية
شرطاً أو
قيداً في بعض
الأحكام الشرعية والمناصب
الدينية ، وذلك كالتالي:
اختلف
الفقهاء في اشتراط الأعلمية في
المقلَّد على أقوال:
فالأشهر
بل المشهور بين الفقهاء
اعتبارها في
المفتي مع الإمكان،
وعن
السيد المرتضى أنّه من المسلّمات عند
الشيعة ،
بل ادّعي عليه
الإجماع .
وقد اعترف
الشهيد الثاني بأنّه لا يعلم في ذلك خلافاً،
بل لم ينقل الخلاف في ذلك عمّن تقدّم على الشهيد الثاني.
واستدلّ
على وجوب تقليد الأعلم بامور، أبرزها:
۱- الاستناد إلى مطلقات التقليد وعموماته الواردة في
الكتاب والسنّة ، فإنّ هذه المطلقات لا تشمل المتعارضين، فإذا سقطت فتوى غير الأعلم عن
الحجّية بالمعارضة يتعيّن الرجوع إلى الأعلم؛ للعلم بعدم
وجوب الاحتياط .
۲- الإستناد إلى
السيرة العقلائية ، حيث استقرّ
بناء العقلاء على الرجوع إلى
أهل الخبرة في كلّ موضوع عند
التردّد فيه، وقد أمضى
الشارع المقدّس هذا البناء العقلائي ولو من خلال عدم
الردع عنه.
وقال بعض المعاصرين: يجوز تقليد
العالم فيما توافق نظره مع نظر الأعلم؛ لوجود تمام
الملاك في
رأيهما ، وعدم ترتّب
ثمرة عمليّة عليه، وكذا فيما تخالف مع كون نظر العالم مطابقاً للاحتياط؛ للعلم بدرك الواقع حينئذٍ.
ويجب تقليد الأعلم في مورد مخالفة رأيه لرأي العالم إذا كان رأيه مخالفاً للاحتياط؛
لأنّ السيرة العقلائية جارية على الأخذ بقول الأعلم عند المخالفة، ولأصالة عدم حجّية رأي العالم مع وجود الأعلم، وأصالة التعيين عند دوران الأمر بينه وبين
التخيير .
وذهب البعض إلى وجوب تقليد الأعلم حتى إذا شككنا في ذلك ولم تعلم موافقتهما أو مخالفتهما.
بينما قيّده آخرون بفرض العلم بمخالفة
فتواه مع فتوى الأعلم ولو إجمالًا؛ لأنّ هذا هو المتيقن من السيرة العقلائية. وإذا تردّدت الأعلمية بين اثنين أو أكثر فلذلك صور عديدة يختلف الحكم باختلافها.
وتفصيل البحث موكول إلى محلّه.
يقع الكلام في اعتبار الأعلمية في
القاضي تارةً على مستوى
الشبهات الموضوعية ، واخرى في
الشبهات الحكمية .
أمّا الشبهات الموضوعية- كما إذا كان الترافع في
أداء الدين وعدمه، أو في زوجية امرأة وعدمها- فاعتبار الأعلمية المطلقة في باب القضاء مقطوع العدم؛
لاستحالة الرجوع في المرافعات الواقعة في أرجاء العالم ونقاطه إلى شخص واحد، وهو الأعلم، كما أنّ التصدّي للقضاء في تلك المرافعات الكثيرة أمر خارج عن
طاقة البشر عادةً.
إضافةً إلى أنّ ذلك يستلزم
العسر والحرج في تعيين الأعلم.
من هنا، كان مورد الكلام عندهم هو اعتبار الأعلمية الإضافية، كاعتبار أن يكون القاضي أعلم مَن في
البلد ، فقد اشترط
الفقهاء فيه أن يكون أعلم مَن في ذلك البلد أو في غيره ممّا لا حرج في الترافع إليه،
وهو المشهور.
واحتجّوا على ذلك بأنّ
الظنّ بقوله أقوى، والأقوى أحرى
بالاتّباع ؛ لأنّ أقوال المفتي كالأدلّة للمقلّد، ويجب اتّباع أقواها. ولأنّه أرجح، فاتّباعه أولى، بل متعيّن. ولما بني عليه اصول مذهبنا من قبح تقديم المفضول على الأفضل.
كما استند أيضاً للأخبار، منها:
مقبولة عمر بن حنظلة قال: - سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما
منازعة في دين أو ميراث فتحاكما - إلى أن قال: فإن كان كلّ واحد منهما اختار رجلًا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في
حديثكم ؟ قال: «الحكم ما حكم به
أعدلهما وأفقههما
وأصدقهما في الحديث
وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر...».
وذهب جماعة إلى عدم اعتبار الأعلمية في باب القضاء؛
للأصل وإطلاق الأدلّة.
ولصحيحة
أبي خديجة قال: قال أبو عبد اللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل
الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي جعلته حاكماً فتحاكموا إليه»،
فإنّ قوله عليه السلام: «يعلم شيئاً من قضايانا» كما يصدق على الأعلم كذلك ينطبق على غيره من الفقهاء.
ويؤيّده
إفتاء الصحابة مع اشتهارهم بالاختلاف في الأفضلية، وعدم
الإنكار عليهم.
كما أنّه لا
إشكال في
نصب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو
الوصي عليه السلام المفضول أو منحه
الإذن في القضاء مع وجود الفاضل. بل قد وقع ذلك خارجاً مثل إذن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لغير
أمير المؤمنين عليه السلام من الصحابة في القضاء مع كونه عليه السلام أفضل من جميعهم باتّفاق
الامّة ، فيدلّ على
التسوية بينهما.
يضاف إلى ذلك كلّه أنّه يلزم
الحرج الشديد من تعيّن قضاء الأعلم.
وأمّا الشبهات الحكمية، كما إذا كان منشأ
النزاع هو
الاختلاف في
الحكم الشرعي كالخلاف في أنّ
الحبوة للولد الأكبر أو أنّها مشتركة بين
الورّاث بأجمعهم، أو اختلفا في
ملكية ما يشترى
بالمعاطاة ، نظراً إلى أنّها مفيدة للملكية أو
للإباحة أو أنّها مفيدة للملك اللازم أو
الجائز فيما إذا رجع عن
بيعه ، فالنزاع في أمثال ذلك قد ينشأ عن
الجهل بالحكم؛ لعدم علمهما بما أفتى به مقلّدهما- وهو شخص واحد- ومن هنا ادّعى كلّ منهما ما يرجع إليه
نفعه .
وقد ينشأ عن
جزمهما بالحكم والفتوى غير أنّ أحدهما يدّعي أنّ فتوى
المجتهد هو اختصاص الحبوة بالولد الأكبر- مثلًا- ويدّعي الآخر أنّ
فتواه على خلاف ذلك.
ففي هاتين الصورتين كلتيهما يجب على
المتخاصمين الرجوع إلى مقلّدهما في المسألة؛ لأنّه حكم شرعي يجب
التقليد فيه، فإذا حكم بأنّ الحبوة مشتركة بين الورّاث- مثلًا- لم يجز لهما التحاكم عند
حاكم آخر يرى اختصاصها به؛ وذلك
لبطلان ما ادّعاه بفتوى مقلّده، فهاتان الصورتان ليستا من موارد الرجوع إلى الحاكم بوجه.
إذاً يتعيّن أن يكون مورد الرجوع إليه ما إذا كان كلّ من المترافعين مجتهداً في المسألة، كما إذا أفتى أحدهما في مسألة الحبوة بالاختصاص، وكانت فتوى الآخر فيها الاشتراك كبقية
أموال المورّث، فإنّ النزاع حينئذٍ لا يمكن فصله إلّا بالرجوع إلى حاكم آخر، ولا مانع وقتئذٍ من الرجوع إلى غير الأعلم؛ لإطلاق صحيحة أبي خديجة المتقدّمة؛ لصدق أنّه ممّن يعلم شيئاً من قضاياهم عليهم السلام.
أو كان أحدهما مجتهداً ورأى أنّ الحبوة للولد الأكبر، والآخر قد قلّد مجتهداً يرى أنّها مشتركة، أو كانا مقلّدين وقد قلّد أحدهما من يفتي بالاختصاص والآخر قلّد من يفتي باشتراكها، ففي جميع هذه الموارد لا تنحلّ
الخصومة إلّابالرجوع إلى حاكم آخر؛ ومقتضى إطلاق الصحيحة المذكورة عدم اشتراط الأعلمية فيه.
وتفصيله في محلّه.
الولاية إمّا بمعنى من يقود المجتمع ويمسك بزمام الولاية لجميع امور
الامّة ، وإمّا بمعنى من يتولّى الامور الحسبية، وهي الامور التي لا يرضى
الشارع المقدّس بفواتها، بل لا مناص من تحقّقها في الخارج كالولاية على القصّر
والأيتام والمجانين ،
والأوقاف التي لا متولّي لها،
والوصايا التي لا وصيّ لها، ونحو ذلك.
أمّا الولاية بالمعنى الأوّل، فقد ذكر بعض الفقهاء أنّه ما دام الولي يدير المجتمع في الامور الحكومية والولائية فقط فلا يعتبر فيه الأعلمية، بل هو المشهور.
واستدلّوا على ذلك
بالسيرة العملية بين المجتهدين من تصدّيهم لتلك الامور في جميع الأعصار والأمصار مع وجود الأعلم منهم،
وبسيرة المتشرّعة بالرجوع إلى المجتهدين فيها مع ذلك أيضاً».
وذهب بعض الفقهاء إلى اشتراط الأعلمية في العلوم التي يحتاجها القائد في
قيادته ؛ لأنّه المشرف على جميع امور الناس وإدارة شؤون الناس بيده.
وذهب بعض المعاصرين إلى اشتراط الأعلمية في الحاكم في المسائل الدينية وأمر اللَّه تعالى؛ مستدلّاً بالسيرة العقلائية
وأصالة الشغل اليقيني .
وتفصيل البحث موكول إلى محلّه.
وأمّا الولاية بمعنى تولّي الامور الحسبية، فالأعلمية المطلقة المعتبرة في باب
التقليد لا يحتمل اعتبارها في الولاية بهذا المعنى؛ لأنّ لازم ذلك أن تكون الولاية على مجهول المالك ومال الغيّب والقصّر من المجانين والأيتام، والأوقاف التي لا متولّي لها، والوصايا التي لا وصي لها وغيرها من الامور الحسبية في أرجاء العالم كلّها راجعة إلى شخص واحد.
ومن المستحيل- عادة- قيام شخص واحد عادي بالتصدّي لجميع تلك الامور، فإنّ الولاية كالخلافة فإذا كان لابدّ فيها من الرجوع إلى الأعلم من جميع الجهات فالقيام بها يخرج حينئذٍ عن حدّ
الطاقة .
كما أنّ المراجعة من أرجاء العالم في الامور الحسبية إلى شخص واحد في مكان معيّن من بلدان بعيدة وقريبة غير ميسورة للجميع.
وأمّا الأعلمية الإضافية كأعلم
البلد وما حوله من النقاط التي يمكن الرجوع منها إلى ذلك البلد في تلك الامور، فالمشهور بين
الفقهاء عدم اعتبارها أيضاً، بل ادّعي ظهور
الإجماع فيه.
وذهب
السيد الخوئي إلى اعتبار ذلك؛ لأنّ مقتضى القاعدة عدم نفوذ
تصرّف أحد في حقّ غيره؛
للاستصحاب أو
أصالة الاشتغال ، إلّا أنّ الامور المذكورة لمّا لم يكن بدّ من تحقّقها في الخارج، وكان من الضروري أن يتصرّف فيها متصرّف لا محالة، دار الأمر بين أن يكون المتصرّف النافذ تصرّفه فيها أعلم البلد، وأن يكون غيره من الفقهاء، والأعلم الإضافي هو القدر المتيقّن ممّن يحتمل جواز تصرّفه في تلك الامور.
تعرف الأعلميّة بالعلم الوجداني أو ما هو بمنزلة العلم الوجداني من العلم العادي، كأن يكون الطرف الآخر مجتهداً بنفسه أو من
أهل الخبرة بحيث يمكنه تعيين الأعلم بلا حاجة إلى الرجوع إلى أحد، أو
بالبيّنة الشرعية غير المعارضة، بأن يشهد اثنان من أهل الخبرة بأنّ فلاناً هو الأعلم، أو
بالشياع المفيد للعلم، لا مطلق الشياع والاشتهار الذي لا ينتج علماً؛ لنشوئه من مناشئ لا تعكس المستوى العلمي
للفقيه المبحوث حول أعلميته.
وقد اختلف في ثبوته
بشهادة واحد من أهل الخبرة وعدمه، كما أنّ من كان أعلم وشكّ في زوال أعلميّته جرى استصحاب بقاء أعلميته لترتيب آثارها.
الموسوعة الفقهية، ج۱۵، ص۱۴۳-۱۴۹.