إطلاق اشتراط الراحلة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ذهب غير واحد من الفقهاء إلى أنّ وجود الراحلة وآلة الركوب كما هو معتبر في وجوب الحجّ على المحتاج إليها- لعدم قدرته على المشي أو كونه مشقّة عليه أو منافياً لشأنه- كذلك هو معتبر في وجوبه على غير المحتاج إليها، فلو لم تكن له راحلة وحجّ ماشياً لم يجز حجّه عن
حجّة الإسلام .
ذهب غير واحد من الفقهاء إلى أنّ وجود الراحلة وآلة الركوب كما هو معتبر في وجوب الحجّ على المحتاج إليها- لعدم قدرته على المشي أو كونه مشقّة عليه أو منافياً لشأنه- كذلك هو معتبر في وجوبه على غير المحتاج إليها، فلو لم تكن له راحلة وحجّ ماشياً لم يجز حجّه عن
حجّة الإسلام .
وادّعى بعضهم الإجماع على ذلك،
ونسب بعض آخر هذا القول إلى الأكثر، بل نسب غيره إلى الشذوذ.
بينما ذهب بعض الفقهاء إلى عدم اعتبار وجود الراحلة في وجوب الحجّ على غير المحتاج إليها، فلو لم تكن له راحلة وحجّ ماشياً من دون مشقّة أجزأ حجّه عن حجّة الإسلام.
ومنشأ هذا
الاختلاف اختلاف الروايات الواردة في المقام، وهي على طائفتين:
الروايات التي يكون مقتضى إطلاقها اعتبار وجود الراحلة ولو مع عدم الحاجة إليها، كرواية الخثعمي ورواية هشام بن سالم ونحوهما من الروايات المتقدّمة.
الروايات التي استظهر منها عدم اعتبار وجود الراحلة عند عدم الحاجة إليها:
صحيحة
معاوية بن عمّار ، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل عليه دين، أ عليه أن يحجّ؟ قال: «نعم، إنّ حجّة
الإسلام واجبة على من أطاق المشي من
المسلمين ، ولقد كان من حجّ مع
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مشاة، ولقد مرّ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكراع الغميم، فشكوا إليه الجهد والعناء، فقال: شدّوا ازركم واستبطنوا، ففعلوا ذلك فذهب عنهم».
ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى أنّه لا يمكن
الاستدلال بها للقول بعدم اعتبار الراحلة عند عدم الحاجة إليها؛ وذلك لأنّ المراد من
الإطاقة في الرواية هو
إعمال غاية الجهد والعناء، كما هو المراد من قوله تعالى: «وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ»،
أي على الذين يتحمّلون الصوم بجهد وحرج شديد كالشيخ والشيخة، فإنّ الطاقة وإن كانت بمعنى القدرة ولكنّ المراد منها إذا كانت من باب
الإفعال ، إعمال الطاقة وبذل آخر مرتبة من القدرة، ولا ريب في عدم وجوب الحجّ في هذا المورد قطعاً، ولم يلتزم أحد من الفقهاء بوجوبه. على أنّ الظاهر إنّ المراد بمن أطاق المشي، القدرة على المشي، في قبال المريض والمسجّى الذي لا يتمكّن من المشي أصلًا حتى في داره وبلده، فمن تمكّن من المشي وأطاقه بمعنى أنّه لم يكن مريضاً ولم يكن مسجّى وجب عليه الحجّ بالطرق المتعارفة لا مشياً على الأقدام. فالرواية أجنبيّة عمّن يطيق المشي ويتمكّن منه بجهد ومشقّة. وأمّا الذين حجّوا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعلم أنّ حجّهم حجّة الإسلام، ويحتمل أن يكون حجّهم حجّاً ندبيّاً وإن فرض أوّل سنتهم، فإنّ الحجّ يستحبّ للمتسكّع ولا يكون مسقطاً عن حجّة الإسلام، وأمّا ذكر
الإمام عليه السلام هذه القضيّة فليس للاستشهاد وإنّما نقلها لمناسبة ما.
واورد عليه بأنّ الظاهر أنّ كلمة (أطاق) يراد بها مجرّد الطاقة والقدرة، فإنّا نرى في كلمات الفقهاء- سيّما من كان منهم من
أهل اللغة كالمحقّق النجفي- أنها تستعمل في ذلك، وذكر
السيّد العاملي بأنّه اعترف
الأصحاب في حقّ القريب بعدم اعتبار الراحلة له إذا أطاق المشي،
ومن الواضح أنّ مرادهم مجرّد القدرة لا نهايتها وآخر مرتبتها، وعليه فالرواية ظاهرة في وجوب حجّة الإسلام إذا كان قادراً على المشي، كما أنّ الظاهر أنّ المراد هو المشي إلى الحجّ لا المشي في بلده وداره، فإنّه لا خصوصيّة له في الوجوب، بل الملاك هو سلامة
البدن . ومنه يظهر أنّ تعرّض الإمام عليه السلام لحجّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان بعنوان
الاستشهاد لا لمجرّد المناسبة، وعليه فالرواية تدلّ على خلاف المشهور، ولا مجال للمناقشة فيها سنداً ودلالة.
صحيحة
محمّد بن مسلم - في حديث- قال: قلت
لأبي جعفر عليه السلام : فإن عرض عليه الحجّ فاستحيى؟ قال: «هو ممّن يستطيع الحجّ، ولِمَ يستحيي؟! ولو على حمار أجدع أبتر»، قال: «فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل».
فإنّ الإمام عليه السلام اعترض على الرجل بقوله: «ولِمَ يستحيي؟!» لاستحيائه وامتناعه من قبول ما عرض عليه، وعلى هذا فلو كانت الراحلة المعروضة عليه حماراً أجدع أبتر لوجب عليه القبول، فتتحقّق بذلك الاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحجّ.
ويدلّ ذيل الرواية أيضاً على تحقّق الاستطاعة إذا كان الشخص قادراً على مشي بعض الطريق وركوب بعضه الآخر، وبما أنّه لا خصوصية هنا للقدرة على مشي البعض، فيستفاد من ذلك أنّ القدرة على مشي جميع الطريق كافية لتحقّق الاستطاعة.
صحيحة
الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: قلت له: فإن عرض عليه ما يحجّ به فاستحيى من ذلك، أ هو ممّن يستطيع إليه سبيلًا؟ قال: «نعم، ما شأنه يستحيي؟! ولو يحجّ على حمار أجدع أبتر؟ فإن كان يستطيع (يطيق) أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليحجّ».
ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ هاتين الروايتين ونحوهما وردتا في مورد
البذل وعرض الحجّ، وأنّه إذا بذل له الحجّ واستقرّ عليه وصار مستطيعاً بذلك فليس له
الامتناع و
الاستحياء بعد عرض الحجّ، وإذا امتنع من القبول واستحيى فقد استقرّ عليه الحجّ ويجب عليه إتيانه ولو كان فيه مشقّة وحرج؛ وذلك لأنّ قوله عليه السلام: «ولِمَ يستحيي؟!» في صحيحة ابن مسلم، وكذا قوله عليه السلام: «وما شأنه يستحيي؟!» في صحيحة الحلبي ناظر إلى ما بعد الحكم بأنّه يستطيع بعد عرض الحجّ عليه.
وعليه فذيل الروايتين راجع إلى هذا المورد، فالحكم فيهما أجنبي عن محلّ الكلام، وهو حصول الاستطاعة المالية للمكلّف. ولو فرض عدم ظهور هذه الروايات في هذا المعنى فلا أقلّ من عدم ظهورها في كفاية المشي في تحقّق الاستطاعة.
رواية
أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: قول اللَّه عزّ وجلّ: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، قال: «يخرج ويمشي إن لم يكن عنده»، قلت: لا يقدر على المشي، قال: «يمشي ويركب»، قلت: لا يقدر على ذلك أعني المشي، قال: «يخدم القوم ويخرج معهم».
فإنّ قوله عليه السلام: «يخرج ويمشي إن لم يكن عنده» يدلّ على كفاية المشي لتحقّق الاستطاعة. واورد على الاستدلال بها: أوّلًا: بضعف السند
بعلي بن أبي حمزة البطائني . وثانياً: بأنّ مدلول هذه الرواية مقطوع
البطلان ؛ إذ لم يلتزم أحد- حتى القائل بكفاية القدرة على المشي- بلزوم الخدمة في الطريق.
ولكن قال بعض الفقهاء: إنّه لا يضرّ في الاستدلال بهذا الخبر عدم عمل الأصحاب بذيله، وهو قوله عليه السلام: «يخدم القوم ويخرج معهم».
ثمّ لو قلنا بصحّة سند الطائفة الثانية من الروايات وتماميّة دلالتها على كفاية القدرة على المشي فلا بدّ من علاج
التعارض والتنافي بينها وبين الطائفة الاولى، وقد ذكروا بهذا الصدد وجوهاً:
ما ذكره
السيّد الخوئي من أظهريّة دلالة الطائفة الاولى الدالّة على اعتبار الراحلة من دلالة الطائفة الثانية، فإنّها على تقدير
تسليم دلالتها على عدم اعتبار الراحلة لمن يقدر على المشي، غايتها الظهور في عدم الاعتبار، فترفع اليد عن ظهورها من أجل أظهرية الطائفة الاولى.
ويرد عليه: أنّه- بعد كون النسبة بين الطائفتين هي نسبة المطلق والمقيّد- لا وجه لدعوى أظهريّة المطلق من المقيّد.
هذا، ولكن قد يقال: إنّ ما في رواية السكوني- المتقدّمة- من قوله عليه السلام: «...إنّما يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة ليس استطاعة البدن» كالنصّ في أنّ الاستطاعة المعتبرة إنّما هي من حيث الزاد والراحلة وعدم
الاكتفاء بمجرّد القدرة على المشي، فنرفع اليد عن ظهور الطائفة الثانية في الاكتفاء بمجرّد القدرة على المشي بدلالة هذه الرواية التي هي كالنصّ في عدم الاكتفاء بمجرّد القدرة على المشي واعتبار الراحلة ولو عند عدم الحاجة والقدرة على المشي.
ولكن يرد عليه: أنّ الظاهر كون المراد من استطاعة البدن صحّته، بأن يتمكّن من الركوب والسفر من دون أن يلزم منه مشقّة لا يمكن تحمّلها عادة، فقوله عليه السلام في حديث السكوني- المتقدّم-: «ليس استطاعة البدن» نفي لكفاية صحّة البدن في وجوب الحجّ، لا نفي كفاية القدرة على المشي، ولا أقلّ من
احتمال ذلك.
أنّ المراد من الطائفة الثانية بيان فضل الحجّ المندوب و
الترغيب فيه، وأنّه لا بأس بتحمّل هذه المشاقّ نحو ما ورد في
زيارة الإمام الحسين عليه السلام وغيره من
الأئمّة عليهم السلام ، وكون ذلك وقع تفسيراً للآية غير منافٍ بعد أن فسّرت النصوص استطاعة الواجب بالزاد والراحلة واستطاعة المندوب بذلك، فيكون المراد من الآية القدر المشترك.
ويرد عليه: أنّه يبعّده سياق الروايات المذكورة؛ فإنّ
استنكار الاستحياء يناسب الوجوب، وكذا قوله عليه السلام في صحيح معاوية بن عمّار- المتقدّم-: «إنّ حجّة الإسلام...»، مع أنّها مفسّرة للاستطاعة في الآية الشريفة، ومن الواضح أنّ الحكم فيها للوجوب، وحملها على القدر المشترك بين الوجوب والندب بعيد؛ إذ لا يناسب قوله تعالى في الآية الشريفة: «وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ».
ما ذكره
الفاضل الإصفهاني وغيره من حمل الطائفة الثانية على من استقرّ عليه الحجّ، وحمل الطائفة الاولى على حجّة الإسلام.
ويرد عليه: أنّ صحيح معاوية الوارد في من حجّ مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يأبى عن هذا الحمل، فإنّه لم يكن الحجّ ثابتاً على من حجّ معه صلى الله عليه وآله وسلم قبل تلك السنة.
أن تحمل الطائفة الثانية على ضرب من
التقيّة ؛ لأنّ ذلك مذهب بعض علماء
الجمهور .
وفيه: أنّ الحمل على التقيّة فرع التعارض، وبعد الجمع بينهما بالإطلاق والتقييد لا تعارض بينهما، فلا مجال للأخذ بهذا الوجه.
ما ذكره السيّد اليزدي من طرح الطائفة الثانية؛ لإعراض المشهور عنها مع كونها بمرأى منهم ومسمع.
وبيان ذلك: أنّ
إعراض المشهور والأصحاب عن النصوص المذكورة- مع صحّة السند وكثرة العدد وكون الجمع بينها وبين غيرها سهلًا وبنائهم على ارتكابه في سائر المقامات- يدلّ على خلل في الدلالة أو في جهة الحكم. ويرد عليه: أنّه لا يمكن
إحراز ذلك، مع احتمال كون الوجه في إفتائهم على طبق الطائفة الاولى هو أنّهم لم يجدوا الطائفة الثانية قابلةً لمعارضة الطائفة الاولى؛ لما مرّ من الوجوه، ومن المعلوم أنّ فهمهم ليس حجّة علينا كي تجب متابعتهم في ذلك.
ثمّ إنّه لو لم يتمّ شيء من الوجوه المذكورة فلا بدّ من الجمع بين الطائفتين بالإطلاق والتقييد، فالمتّجه حينئذٍ هو التفصيل بين ما إذا أطاق المشي وبين ما إذا لم يطقه فيعتبر وجود الراحلة في الصورة الثانية دون الاولى، خلافاً للمشهور. ولكن اورد عليه بأنّ الطائفة الثانية من الأخبار تدلّ على وجوب الحجّ مع العناء والجهد والمشقّة الشديدة والمهانة العظيمة، فلا بدّ من حمل الطائفة الاولى على صورة العجز حتى مع المشقّة الشديدة والوقوع في المهانة، فيلزم من ذلك حمل المطلقات على الفرد النادر، وهو مستهجن لا يصدر من الحكيم، فإنّ قوله عليه السلام في جواب قول السائل: ما يعني بمن استطاع إليه سبيلًا؟: «من كان صحيحاً في بدنه، مخلّى سربه، له زاد وراحلة»،
أو قوله عليه السلام في صحيحة الحلبي: «أن يكون له ما يحجّ به»
لو حمل على من لا يقدر على المشي أصلًا لا كلّاً ولا بعضاً وعلى من لا تمكنه الخدمة ولا يقدر ولو على حمار أجدع لكان الحمل حملًا على الفرد النادر.
وعليه فالطائفة الثانية معارضة للطائفة الاولى من دون أن يكون جمع عرفي بينهما، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات إن كانت، وإلّا فالتخيير، ولا شكّ أنّ الترجيح مع الطائفة الاولى من الروايات؛ لموافقتها لما دلّ من الكتاب على نفي العسر والحرج ومخالفة الثانية، ولا تكون الطائفة الاولى مخالفة لآية الحجّ الشريفة؛ لأنّه ليس لها
إطلاق كي يؤخذ به بعد أن كانت محكومةً لأدلّة نفي العسر والحرج.
واورد على ذلك بأنّ الطائفة الثانية لا تدلّ دلالةً صريحة على وجوب الحجّ مع العناء والمشقّة الشديدة والمهانة العظيمة، فإنّ غايتها أنّها مطلقة من هذه الجهة، فما ورد في روايتي ابن مسلم والحلبي- المتقدّمتين- من الركوب على الحمار الأجدع
الأبتر لا يدلّ على أنّه مع المشقّة والمهانة؛ لأنّ الركوب على الحمار
الأجدع الأبتر ربّما لا يكون فيه مشقّة ومهانة. وكذا ما ورد في رواية أبي بصير- المتقدّمة- من خدمة القوم والمشي معهم، فإنّه أعمّ من كون شأنه الخدمة، فلا يدلّ صراحة على خدمة تستلزم
المهانة والمشقّة. ونظير ذلك قوله عليه السلام في صحيح معاوية بن عمّار: «من أطاق المشي...»
أطاق أي قدر، وهي أعمّ من كونه مع المشقّة والحرج.
وأمّا الذين كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فلعلّهم هم الذين يقدرون على المشي بلا مشقّة وحرج، وأمّا شكايتهم من الجهد والعناء فلعلّه ممّا وقع اتّفاقاً كما يقع كثيراً ممّا يتّفق في السفر من الحرج والمشقّة لخصوصيّات تقع اتّفاقاً، لا أن يكون الجهد والعناء لازماً لسفرهم دائماً أو غالباً، خصوصاً إذا كان دفع الجهد والعناء سهلًا بشدّ الازر و
الاستبطان كما أمر بهما رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم. وبناءً على عدم صحّة الوجه الأخير، وكذا بناءً على عدم صحّة سائر الوجوه، وبعد كون النسبة بين الطائفتين نسبة المطلق والمقيّد فلا بدّ من حمل المطلق على المقيّد، ونتيجة ذلك أنّه إن كان قادراً على المشي فحجّ ماشياً أجزأ حجّه عن حجّة الإسلام.
وقد يقال: إنّ الطائفة الاولى- وهي الروايات المطلقة- منصرفة عمّا إذا كان قادراً على المشي، فيختصّ موردها بما إذا لم يكن قادراً على المشي، وحينئذٍ يعتبر وجود الراحلة، وإلّا فلا يعتبر، فالمتعيّن العمل بالطائفة الثانية من الروايات.
لكن الغلبة غير قابلة لكونها منشأً للانصراف فما قيل ممنوع.
مقتضى إطلاق كلام أكثر الفقهاء- كالشيخ الطوسي في الخلاف،
و
المحقّق الحلّي في النافع،
و
العلّامة الحلّي في بعض كتبه
- اعتبار التمكّن من تحصيل الراحلة للقريب من مكّة أيضاً.
«يقوى عندي اعتبارها (أيضاً) للمضيّ إلى عرفات إلى
أدنى الحلّ والعود».
واختار ذلك السيد اليزدي
وغيره.
ولكنّ مختار
الشيخ الطوسي في
المبسوط ،
والعلّامة الحلّي في بعض كتبه
وغيرها عدم اشتراط وجود الراحلة للمكّي.
قال المحقّق الحلّي في
الشرائع - بعد اعتبار الزاد والراحلة-: «وهما يعتبران فيمن يفتقر إلى قطع المسافة».
قال الشهيد الثاني معلّقاً عليه: «احترز بالمفتقر إلى قطع المسافة عن أهل مكّة وما قاربها ممّن يمكنه السعي من غير راحلة بحيث لا يشقّ عليه عادةً».
وقال
المحقّق النجفي في المقام: «بل لا أجد فيه خلافاً».
ونسب ذلك في
المدارك إلى الأصحاب.
وقال
السيّد البروجردي : «بل لا يخلو (القول بعدم الاشتراط) من قوّة فيمن أطاق منهم (أهل مكّة) المشي إلى
عرفات والعود منها بلا مهانة».
وكيف كان، فقد استدلّ لعدم
اختصاص اشتراط التمكّن من الراحلة في حقّ القريب بإطلاق النصوص المتقدّمة، فإنّ قوله عليه السلام في صحيح الخثعمي: «من كان... له زاد وراحلة فهو ممّن يستطيع الحجّ»
يشمل من كان قريباً من مكّة.
واستدلّ لعدم الاشتراط بأنّ أدلّة اعتبار الراحلة منصرفة إلى المسافة التي تعدّ لها عادةً، فلا تشمل غيرها.
وبعبارة اخرى: أنّ منشأ هذا
الانصراف أمر آخر غير الغلبة، فلا يرد عليه بأنّ الانصراف الناشئ منها لا يصلح تقييداً لإطلاق الأدلّة.
وذهب الفاضل الاصفهاني- كما تقدّم- إلى اعتبار الراحلة في حقّ القريب من مكّة للمضي إلى عرفات وأدنى الحلّ والعود.
ولكن اورد عليه بأنّ دليل اعتبار الراحلة إنّما دلّ على اعتبارها في الاستطاعة للسفر إلى
بيت اللَّه الحرام ، فإنّ الآية تختصّ بذلك والنصوص تفسّر الآية، ولا دليل على اعتبارها في السفر إلى عرفات، وكذا في الخروج إلى أدنى الحلّ للإحرام للحجّ أو العمرة، فاللازم الرجوع فيه إلى القواعد المقتضية للاعتبار مع الحاجة، وعدمه مع عدمها.
وأجاب عنه بعض الفقهاء بأنّ البيت الشريف مقصود في جميع أقسام الحجّ ولا يختصّ بحجّ التمتّع، فإنّ كلّ من يقصد الحجّ بأقسامه يقصد البيت وسائر المناسك، غاية
الأمر قد يقصده متقدّماً كحجّ التمتّع، وقد يقصده متأخّراً عن المناسك كحجّ
القران و
الإفراد ، وقد يقصد البيت خاصّة كالعمرة المفردة.
وقال بعض آخر في الجواب: «إنّ المراد من الآية المباركة ليس مجرّد الوصول إلى بيت اللَّه الحرام، بل المراد
الإتيان بالمناسك الخاصّة المعبّر عنها بحجّ بيت اللَّه الحرام، وإذا كان المراد ذلك فلا يكون عدم الحاجة إلى الراحلة في مجرّد الوصول إلى بيت اللَّه الحرام موجباً لعدم اعتبارها في وجوب الحجّ مع الحاجة إليها في
الانتقال إلى عرفات و
المشعر والمراجعة إلى مكّة».
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۴۰۳-۴۱۱.