الإقرار بالمال
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لو أقرّ بمال أو حقّ مالي فلابدّ فيه من
اجتماع امور:
يشترط في المقرّ به أن يكون ممّا يصحّ تملّكه أو استحقاقه، فلو قال: (له عليّ مال) الزم التفسير، فإن فسّره بما يتموّل- ولو كان قليلاً- قُبل. أمّا لو فسّره بما لم تجر العادة بتموّله، كقشر اللوزة والجوزة لم يقبل.
وكذا لم يقبل لو فسّره بما لا يملكه ولا يستحقّه المسلم لحرمة
الانتفاع به شرعاً ولو للاقتناء، كالخنزير وجلد الميتة والخمر إذا لم يكن أصلهما من ماله؛
بخلاف ما إذا كان أصلهما من ماله فقد يحتمل قبول الإقرار هنا؛ إذ مع ذلك يكون هو أولى بهما وإن لم يصدق عليه المال فعلًا لفرض عدم جواز الانتفاع مطلقاً.
نعم، لو فسّره بها للذمّي فصريح بعضهم القبول وأنّه يضمن له القيمة.
وإن اشكل عليه بأنّه ليس مالًا في الواقع وفي علم اللَّه تعالى وإن اعتقده المقرّ له.
وكذا لا يقبل لو فسّره بما ينتفع به ولكن لا يملك كالسرجين النجس والكلب العقور؛ لعدم كونهما مالًا.
وقد يناقش في ذلك بأنّ صحّة الانتفاع بشيء شرعاً آية صحّة
بذل المال بإزائه- ولو في قبال حقّ
الأولوية الثابتة للمحقّ- فيبذل المال حينئذٍ في قبال رفع اليد عن هذا الحقّ، فيقبل الإقرار بذلك. إلّاأن يقال بأنّ المتفاهم من قوله: «إنّ اللَّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» ونحوه حرمة مطلق أخذ
العوض في مقابله ولو بغير المعاوضة عليه. أمّا لو فسّره بكلب الصيد أو الماشية أو الزرع قُبل؛ لأنّها مال بناءً على جواز بيعها.
واختلفوا في مثل (حبّة الحنطة) أو (الشعير) فذهب بعضهم إلى القبول؛
نظراً إلى أنّه شيء يحرم أخذه، وأنّ على من أخذه ردّه،
ومنعه بعض آخر؛
ولعلّه نظراً إلى عدم ضمان
إتلافه .
ذكر بعض الفقهاء أنّه يشترط في المقرّ به أن يكون تحت يد المقرّ وتصرّفه، أي راجعاً إليه، بحيث لا يعدّ إقراره إقراراً لما في ملك الغير ويرجع إليه ولو بحسب دعوى الغير وقيام حجّة عليه، فلو قال- مثلًا-: (الدار التي في يدي أو تحت تصرّفي لزيد) لزم،
بخلاف ما لو أقرّ بما ليس في يده، بل في يد الغير للغير- كما لو أقرّ بحرّية عبد في يد غيره- فلا يصحّ إقراره، بل هي شهادة.
نعم، لو صار المقرّ به في يده يوماً بأن اشتراه- مثلًا- نفذ
الإقرار وصار حرّاً.
ذكر الفقهاء أنّه يشترط أن لا يكون المقرّ به مملوكاً للمقرّ بأن يصرّح في
صيغة الإقرار بملكيته أو استحقاق نفسه، فلو قال: (ملكي لفلان) بطل؛ للتناقض،
ومثله ما لو قال: (حقّي في هذه العين لفلان)؛ لأنّ الإقرار لا يزيل الملك عن صاحبه، وإنّما هو
إخبار عن كونه مملوكاً أو مستحقّاً للمقرّ له في نظر المقرّ في المرحلة السابقة، ولا يمكن الجمع بين الخبرين المتنافيين في صيغة واحدة.
وقد تأمّل بعضهم في
البطلان ؛
استناداً إلى
أصالة صحّة الإقرار وعدم لغويته، فحمل كلام المقرّ العاقل على الصحيح والظاهر المتبادر- وهو كون الدار في المثال مسكنه الآن وفي إجارته، والمال تحت يده-
فالإضافة ليست حقيقية. نعم، لو فرض العلم بأنّ المراد داره التي هي ملكه الآن، فلا شكّ حينئذٍ في البطلان.
ثمّ لا فرق في ذلك بين الأعيان والديون، فلو كان له دين على زيد في الظاهر من قرض أو
أجرة أو ثمن مبيع فقال: (ديني الذي على زيد لعمرو) فهو باطل أيضاً. نعم، لو لم يضف إلى نفسه، بأن قال: (الدين الذي على زيد لعمرو، واسمي في الكتاب عارية ومعونة وإرفاق) صحّ؛
لإمكان أن يكون وكيلًا عنه في
الإقراض و
الإجارة والبيع.
وقد يكون هذا الشرط في الحقيقة راجعاً إلى شروط الصيغة، ومنها: اشتراطها بعدم تعقيب المنافي في الصيغة، ولكن الفرق بينهما أنّ المنافي لا ينثلم به
أصل دلالة الصيغة على الإقرار، وأمّا ما ذكر هنا فهو موجب
لانثلام ظهور الصيغة من أصل.
زاد
الشهيد الأوّل على الامور السابقة أمراً رابعاً، وهو نفوذ الإقرار في المقرّ به، فلو أقرّ الموقوف عليه بالوقف الثابت شرعاً لغيره بطل الإقرار،
وكذلك لو أقرّ به ثمّ ثبت وقفه بطل إقراره أيضاً.
ولو أقرّ بالمرهون لم ينفذ في حقّ المرتهن إلّا مع التصديق، فإن فكّ الرهن نفذ الإقرار، وإن بيع غرم المقِرّ بدله للمقرّ له.
ولو أقرّت
المرأة بصداقها، والوارث بدية المورّث، والخالع ببذل الخلع له، فإن أسندوه إلى هذه الأسباب لغى الإقرار، وإن أطلقوا أو ذكروا سبباً مملّكاً- كانتقاله بالصلح أو الحوالة أو البيع أو
الهبة عند من جوّزها- فالأقرب صحّة الإقرار.
ولا يشترط في المقرّ به أن يكون معلوماً، بل يصحّ الإقرار بالمجهول على ما يأتي تفصيله تحت عنوان (
الإقرار بالمبهم ).
ذهب الشهيد الأوّل إلى لزوم تعيين المقرّ له إذا كان بحيث يبطل لو لم يعيّن، كما لو أقرّ لرجل مبهم كواحد من خلق اللَّه، أو من بني آدم،
بل ظاهره كونه من المسلّمات. وقد يستدلّ له بانتفاء المقرّ له وعدم جريان القرعة؛ لعدم الحصر،
وجزم بذلك بعضهم فيما لو أقرّ لرجل معيّن لا يعرفه.
لكن ظاهر آخرين
الإشكال في
اعتبار هذا الشرط وفي بطلان الإقرار لرجل لا يعرفه؛
لخروجه عن ملكه بالإقرار على كلّ تقدير، وإنّما تعذّر معرفة مستحقّه، فيكون مالًا مجهول المالك، وحكمه أن يدفع إلى حاكم الشرع.
بل استقرب
العلّامة الحلّي صحّة الإقرار، واستوجه عدم اعتبار تعيينه، وأنّ للحاكم
انتزاعه من يده وإبقاؤه عنده؛ نظراً إلى خروجه بالإقرار عن ملكه وعدم دخوله في ملك أحد بعد، فيكون مجهول المالك، وحكمه أن يدفع إلى حاكم الشرع.
الموسوعة الفقهية، ج۱۶، ص۵۲- ۵۵.