البدعة (بواعثها)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
البدعة (توضيح).
وتختلف الدواعي إلى البدعة بحسب الظروف والمقامات، وجلّها راجع إمّا إلى جهل المبتدع بالشريعة ومقاصدها، وما يدلّ عليها ويكشف عنها من
النصوص الشرعية وغيرها، فيرى نفسه
عالماً بها وهو غير عالم، ويزعم الشيء دليلًا على الحكم الشرعي وليس بدليل، فيتّكل مثلًا على
القياس الظنّي والاستحسان العقلي، فيقع في غير الواقع فيزعمه حكماً شرعياً، أو راجع إلى
الهوى وحبّ الدنيا ومقاماتها، وقد يمتزجان.
قال علي عليه السلام: «إنّ من
أبغض الخلق إلى اللَّه عزّوجلّ لرجلين: رجل وكله اللَّه إلى نفسه... ورجلٌ قَمشَ جهلًا(قَمَشَ جهلًا: أي جمعه من ههنا وههنا؛ من
القمش ، وهو جمع الشي المتفرّق من ههنا وههنا، وذلك الشيء قماش. )
في جهّال الناس، عانٍ (عانٍ:
اسم فاعل بمعنى
الأسير ، أو بمعنى التَعِب، أو بمعنى المتّهم و
المشتغل . )
بأغباش (
الأغباش : جمع
الغبش ، وهو شدّة
الظلمة ، أو بقيّة
الليل ، أو ظلمة آخره. )
الفتنة ، قد سمّاه أشباه الناس عالماً، ولم يغنَ فيه يوماً سالماً، بكّر فاستكثر، ما قلّ منه خير ممّا كثر...جلس بين الناس قاضياً ضامناً
لتخليص ما التبس على غيره وإن خالف قاضياً سَبَقَه، لم يأمن أن ينقض حُكمَهُ من يأتي بعده، كفعله بمن كان قبله، وإن نزلت به إحدى
المبهمات المعضلات هيّأ لها حشواً من رأيه ثمّ قطع به، فهو من لبْسِ الشبهات في مِثْلِ
غزل العنكبوت ، لا يدري أصاب أم أخطأ، لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكر، ولا يرى أنّ وراء ما بلغ فيه مذهباً...ركّاب شبهات، خبّاط (
الخبّاط : مبالغة من الخبط، وهو
الضرب على غير
استواء ، كخبط
البعير الأرض بيده، والرجل الشجر بعصاه.)
جهالات، لا يعتذر ممّا لا يعلم فَيَسْلَم، ولا يَعَضُّ في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح
الهشيم . ..». (الهشيم: نبت
يابس متكسّر، أو يابس كلّ كلأ وكلّ شجر، من الهشم، وهو كسر الشيء اليابس أو
الأجوف أو كسر العظام و
الرأس خاصة، أو غيرها. )
ورواية
مسعدة بن صدقة ، قال: حدّثني
جعفر بن محمّد عن
أبيه عليهما السلام: «أنّ
عليّاً عليه السلام قال: من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في
التباس ، ومن دان اللَّه بالرأي لم يزل دهره في
ارتماس ».
وقول
أبي جعفر عليه السلام : «من أفتى الناس برأيه فقد دان اللَّه بما لا يعلم، ومن دان اللَّه بما لا يعلم فقد ضادّ اللَّه حيث أحلّ، وحرّم فيما لا يعلم».
ويحصل أن يحاول بعض الناس- سواء عن قصد حسن أو سيئ- أن ينسب إلى الدين شيئاً كي يرفع مشكلةً تواجه الدين نفسه في الحياة، فيضع ما ليس من الدين فيه إمّا رغبةً في تكثير
أنصار الدين أو حيلولةً دون توجّه
الانتقادات و
الاعتراضات عليه، وهذا ما يقع كثيراً في العصور المتأخّرة، حيث يتأثّر البعض بالتيّارات الفكرية الغربية، فيحاول أن يقدّم الدين بطريقة تنسجم مع الفكر الغربي ومع حياة
الإنسان المادّي المعاصر، فيخترع ما ليس في الدين وينسبه له، ظنّاً منه أنّه يقدّم بذلك خدمةً له.
قال الإمام علي عليه السلام في رواية
محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «أيّها الناس، إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب اللَّه، يتولّى فيها رجال رجالًا، فلو أنّ
الباطل خلص لم يُخَف على ذي حِجىً، (
الحجى - بالكسر-: العقل و
الفطنة . )
ولو أنّ الحقّ خلص لم يكن
اختلاف ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث (
الضغث : هو قبضة
حشيش مختلط رطبها بيابسها، أوقبضة من الشجر والحشيش و
الشماريخ .)
ومن هذا ضغث، فيمزجان فيجيئان معاً، فهنالك استحوذ
الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من اللَّه
الحسنى ».
ولعلّ
الجامع قول الإمام علي عليه السلام- في وجه اختلاف الأحاديث والأخبار عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم - في رواية
سليم بن قيس الهلالي : «... إنّما أتاكم
الحديث من أربعة، ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر
الإيمان ، متصنّع
بالإسلام ، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم متعمّداً ، فلو علم الناس أنّه
منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه، ولكنّهم قالوا: هذا قد صحب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ورآه
وسمع منه، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبره اللَّه عن المنافقين بما أخبره، ووصفهم بما وصفهم، فقال عزّوجلّ: «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا
تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ»»، ثمّ بقوا بعده فتقرّبوا إلى
أئمّة الضلالة والدُعاة إلى
النار ...ورجل
سمع من رسول اللَّه شيئاً لم يحمله على وجهه، ووهم فيه، ولم يتعمّد كذباً، فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه، فيقول: أنا
سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه و
آله وسلم، فلو علم
المسلمون أنّه وهمٌ لم يقبلوه، ولو علم هو أنّه وهمٌ لرفضه.
ورجل ثالث
سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أو
سمعه ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ
الناسخ ، ولو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ
سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم،
مبغض للكذب، خوفاً من
اللَّه و
تعظيماً لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، لم ينسه، بل حفظ ما
سمع على وجهه، فجاء به كما
سمع، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ... وليس كلّ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسأله عن الشيء فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه... وقد كنت أدخل على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كلّ يوم دخلةً وكلّ ليلة دخلة، فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لم يصنع ذلك بأحدٍ من الناس غيري... فما نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم آية من
القرآن إلّاأقرأنيها وأملاها عليّ، فكتبتها بخطّي، وعلّمني
تأويلها و
تفسيرها ، وناسخها ومنسوخها، و
محكمها و
متشابهها ، وخاصّها وعامّها، ودعا اللَّه أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من
كتاب اللَّه، ولا علماً أملاه عليّ وكتبته منذ دعا اللَّه لي بما دعا، وما ترك شيئاً علّمه اللَّه من
حلال ولا حرام، ولا
أمر ولا نهي، كان أو يكون، ولا كتاب منزّل على أحدٍ قبله من
طاعة أو معصية إلّاعلّمنيه وحفظته، فلم أنْسَ حرفاً واحداً، ثمّ وضع يده على
صدري ودعا اللَّه لي أن يملأ
قلبي علماً و
فهماً و
حكماً و
نوراً ...»،
إلى غير ذلك من
التصريحات في
تأثير الجهل و
حبّ الدنيا في ظهور البدع وغيرها من المعاصي والزلّات.
الموسوعة الفقهية، ج۲۰، ص۱۱۶-۱۱۹.