القدرة على التسليم في الإجارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ومما يشترط في
المنفعة أن تكون مقدورة
التسليم والتسلّم للمتعاقدين،
فلا تصح
إجارة ما لا يقدر المؤجر على تسليمه، أو لا يقدر المستأجر على تسلّمه؛ لأنّ القدرة على ذلك شرط في صحة
المعاوضات بل ركن فيها، حيث إنّه مع عدمه ينتفي الغرض النوعي من المعاوضة؛ إذ ليس الغرض منه مجرد اعتبار
التمليك بعوض من دون تسليط
واستيلاء في الخارج، فإذا لم يكن شيء له بإزاء العوض فكأنّه لا معاوضة عرفاً ولا عقلائياً، بل يرونه أكلًا للمال بالباطل وبلا ازاء.
هذه
السيرة والارتكاز العقلائي ممضاة
شرعاً ، حيث لم يردع عنها، بل ما ورد في كفاية الضميمة في بيع
العبد الآبق وبيع
السمك في الماء
واللبن في الضرع
يمكن أن يكون تأكيداً وإمضاءً لمفاد هذه السيرة العقلائية. فالبحث هنا مشترك بين
البيع والإيجار.
وقد استند أيضاً في خصوص المقام إلى أنّ المنفعة مع عدم
القدرة على تسليمها لا تكون مملوكة؛ لأنّها تدريجية تنعدم آناً فآناً، فمع عدم إمكان
الانتفاع بها وعدم الاستيلاء عليها لا تعتبر مملوكيته، فلا تصح الإجارة.
وقد نوقش فيه بوجوه:
عدم القدرة على التسليم للمستأجر أعم من عدم إمكان انتفاع المالك بنفسه، فقد يكون المانع بالنسبة للغير فقط، فيعقل جعل الملكية للمالك.
أنّ المملوكية لمنافع العين ليست مشروطة بامكان
الاستيلاء الفعلي الخارجي عليها، ولهذا تبقى المنافع على ملكية صاحب العين وتكون مضمونة له إذا غصبه
الغاصب واستعمله.
نعم، هذا الكلام قد يصح بالنسبة إلى إجارة الأعمال، فيقال: إنّ ما لا يتمكن الإنسان عليه من العمل لا يكون مملوكاً له، بل لا وجود له فلا مال ليكون مملوكاً.
وكذا استند إلى دليل الغرر.
حتى قيل: لا مستند إلّا دليل نفي
الغرر بناءً على إرادة ما يعم الخطر من الغرر لا خصوص
الجهالة . والثابت منه مخصوص بالبيع حيث ورد نهي
النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر
فيتوقف الاستدلال به في غيره على فهم مناط قطعي، أو الغاء خصوصية البيع عرفاً، أو التمسك بمرسلة
الصدوق المطلقة: «نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغرر»، بدعوى انجبار سندها بعمل المشهور به.
قال
المحقق النجفي : «وينجبر بعمل الأصحاب».
وقال في موضع آخر:
«وهو المشهور المعتبر المتلقى بالقبول، بل قيل: إنّه قد أجمع عليه المؤالف والمخالف القائل بحجية
خبر الواحد وغيره».
وإن استشكل عليه آخرون.
أمّا الاستدلال بالوجوه الاخرى كدعوى أنّها معاملة
سفهية أو عدم شمول الأمر بالوفاء إذا لم يتحقق التسليم أو التسلّم، أو دعوى
الإجماع على ذلك.
فأُجيب عنه بأنّ الباطل معاملة السفيه لا المعاملة السفهية وأنّ السفاهة ليست دائمية،
وكفاية الاستناد إلى سائر العمومات كآية «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ»، واحتمال استناد الإجماع إلى الأدلّة المذكورة.
صرّح كثير من الفقهاء
بأنّ المراد من القدرة ما هو أعم من القدرة العقلية والشرعية، وقد ادعي الإجماع على ذلك،
فلا يجوز إيجار
الجنب والحائض مثلًا لكنس المسجد حيث لا يجوز لهما المكث فيه، فيكون غير متمكّناً شرعاً من الكنس وإن لم يكن الكنس بعنوانه محرماً.
إلّا أنّ الوجوه المتقدمة لهذه الشرطية لا تقتضي أكثر من شرطية القدرة التكوينية على التسليم أو التسلّم ليتحقق الغرض النوعي من المعاملة، بل لعلّ الشرط
إحرازها حين العقد لكي لا يلزم الغرر، ولم يرد عنوان شرطية القدرة أو عدم العجز في دليل ليقال: إنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلًا.
ومن هنا أضاف بعض الفقهاء شرطاً آخر غير القدرة على التسليم، كما قال
السيد اليزدي : «السابع: أن يتمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المستأجرة، فلا تصح إجارة الحائض لكنس المسجد»،
وسيأتي هذا البحث في إجارة العمل مفصّلًا.
يجوز إجارة ما لا يقدر على تسليمه معلّقاً على القدرة أو وجود المحل وإمكان
تسليم العين، لكنّه مبني على جواز التعليق في
العقود ، فإن قيل بالصحة فيما يكون المعلّق عليه مما يقتضيه العقد نفسه فهو المطلوب، كما هو صريح كلام بعض من الفقهاء.
قال المحقق النجفي: «ويمكن أن ينزل المنع فيهما (في النص
والفتوى ) على إرادة
الشراء اللازم الذي ليس للمشتري بعد ذلك
فسخه اختياراً. ولا ريب في احتياج ذلك إلى الضميمة... فمقتضى ذلك جواز بيعه منفرداً إذا كان على
ضمان البائع، بمعنى كونه مراعى بحصوله، وإلّا كان من مال البائع، ويرجع المشتري على
ثمنه . ولعلّه إلى هذا نظر
ابن الجنيد فانّه قال في المحكي عنه: ولا يشتري- أي الآبق- وحده، إلّا إذا كان بحيث يقدر عليه المشتري أو يضمنه البائع... ويحتمل قوياً منع الثاني منه (انحصار صحة بيع الآبق على وجه اللزوم في الضميمة فقط)، بدعوى حصول اللزوم فيه باشتراط الاسقاط (أي اسقاط خيار تعذر التسليم) حال عدم الضميمة»،
فمعه يجوز بيعه وإجارته منفرداً.
ويمكن أن يناقش بأنّ القدرة على التسليم شرط في صحة العقد؛ لكونه محققاً للغرض النوعي والأصلي من المعاملة، فلا يقاس بموارد تعذّر التسليم بعد ثبوت القدرة عليه اتفاقاً، أو موارد عدم التسليم عمداً حيث يكون فيها الخيار للمستأجر أو المشتري.
تعرّض الفقهاء إلى مسألة الإيجار على منفعة مجهولة التحقق حتى مع الضميمة.
وهذا البحث أعم من شرطية القدرة على التسليم وشرطية وجود
المعوّض خارجاً، حيث يكون في مثل إجارة العبد الآبق من عدم القدرة على التسليم، وفي باب إجارة الأشجار للسنين القادمة من عدم وجود المنفعة خارجاً، إلّا أنّهم لم يفصّلوا بين البحثين.
لكن استشكلوا فيه رغم القول بصحته في البيع
للروايات الخاصة.
وكأنّ وجه إشكالهم في صحة الإجارة في هذه الموارد مع الضميمة هو اختصاص روايات الصحة مع الضميمة بباب البيع، فلا يمكن التعدي منها إلى غيره كما قال
العلّامة : «لا يصح استئجار الآبق؛ لأنّ تسليم المنفعة بتسليمه، وتسليمه متعذر، ولو كان المستأجر يتمكن من تحصيله احتمل قوياً الجواز، وكذا لو ضم إليه غيره في الإجارة واستأجرهما احتمل الجواز كالبيع. والمنع لتعذر التسليم والحمل على البيع قياس لا نقول به».
صريح جماعة
كالشهي د والمحقق الثانيين
عدم الجواز، وكذا
المحدث البحراني وغيره ممن تأخّر عنه.
وهو ظاهر عبارات
القدماء أيضاً، حيث أطلقوا عدم جواز إجارة الآبق من غير فرق بين الانفراد ومع الضميمة.
وفي قبالهم من ذهب إلى صحة الإجارة مع الضميمة، وهو ظاهر كلام العلّامة في قواعده،
وصريح عبارة الشهيد
والمحقق الأردبيلي والبهبهاني وغيرهم من الفقهاء
حيث استندوا في ذلك إلى وجوه:
الأوّل:
التمسّك بمقتضى القاعدة؛ لأنّ الباطل عند العقلاء انتفاء أصل المعوّض لا مقداره، فإذا وجد بإزاء العوض شيء كان الغرض النوعي من المعاوضة محفوظاً.
ومجرد احتمال هذه النكتة كافٍ في إثبات الصحة بناءً على التمسّك بالعمومات في أصل الاشتراط؛ لأنّ مقتضاها هو الصحة، وإنّما يخرج عنها بالسيرة العقلائية على شرطية الغرض النوعي في العقود، وحيث إنّه دليل لبّي فمع الشكّ واحتمال كفاية وجود ما بإزاء للعوض في الحكم بصحة
المعاوضة في الجملة فالمرجع عمومات الصحة لا محالة.
الثاني:
التمسّك بالروايات الواردة في
بيع الثمار ، وقد عبّر في بعضها بالاستئجار بناءً على إرادة الإيجار منها، أو إمكان دعوى شمولها وإطلاقها للإجارة.
منها: صحيح
الحلبي عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «تقبّل الثمار إذا تبيّن لك بعض حملها سنة وإن شئت أكثر، وإن لم يتبيّن لك ثمرها فلا تستأجر».
وظاهر التقبّل فيها هو الاستئجار، كما أنّ التعبير ب «تبيّن لك بعض حملها» قرينة على أنّ النظر إلى محل الفرض وهي المعاوضة على المجهول وجوده، وأنّه جائز إذا كان بعضه معلوم الحصول.
وكذا الروايات الواردة في إجارة
النخل والكرم والثمار ثلاث سنين أو أكثر كرواية الحلبي قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن شراء النخل والكرم والثمار ثلاث سنين أو أربع سنين؟ فقال: «لا بأس، تقول: إن لم يخرج في هذه السنة اخرج في قابل، وإن اشتريته في سنة واحدة فلا تشتره حتى يبلغ، وإن اشتريته ثلاث سنين قبل أن يبلغ فلا بأس»،
والمستفاد منها أنّه مع الجهل بوجود المنفعة والثمرة صحّة المعاوضة إذا كانت لأكثر من سنة، حيث إنّه عادة يكون فيه الثمر، وأنّه إن لم يكن في العام الأوّل ففي الثاني أو الثالث.
وكذا ما ورد في إجارة الغنم بلحاظ منفعتها من الصوف واللبن كرواية
ابراهيم ابن ميمون أنّه سأل أبا عبد اللَّه عليه السلام فقال:
نعطي الراعي الغنم بالجبل يرعاها وله أصوافها وألبانها، ويعطينا لكلّ شاة دراهم؟ فقال: «ليس بذلك بأس»، فقلت:
إنّ أهل المسجد يقولون: لا يجوز لأنّ منها ليس له صوف ولا لبن، فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «وهل يطيّبه إلّا ذاك، يذهب بعضه ويبقى بعض»،
حيث تدلّ على صحة العقد بوجود صوف ولبن ولو في الجملة وفي بعضها.
الثالث:
التمسّك بعموم التعليل الوارد في روايات بيع الآبق مع الضميمة- كذيل موثقة
عمار : «إذا لم يقدر على العبد كان الذي نقده فيما اشترى منه».
وبما ورد في بيع المجهول مع وجود شيء معلوم
من أنّه إذا لم يكن موجوداً كان رأس ماله في الضميمة.
فيستفاد من ذلك ضابطة كلية
وهي أنّ المحذور عدم وجود الشيء بإزاء
رأس المال ، فإذا كان هناك ضميمة لم يكن فيه بأس من دون خصوصية لكون المعوّض رقبة- كما في البيع- أو منفعة- كما في الإيجار- مع أنّ المورد يناسب الإيجار أيضاً؛ لأنّ الحيوان قد يستأجر للبنه وصوفه
ونمائه ، بل قيل بالجواز بطريق أولى في الإجارة؛ لأنّها تحتمل من
الغرر ما لا يحتمله البيع.
إلّا أنّه نوقش بأنّ هذه الفقرة ليست في مقام بيان التعليل لتجري في الإجارة أيضاً، بل من المحتمل أن يكون ذلك بياناً لحكم تعذّر
الآبق ، وأنّ المشتري لا يرجع إلى البائع بما قابله من الثمن، بل تكون معاوضة قهرية بين تمام الثمن وبين الضميمة. مضافاً إلى احتمال استناد الصحة في البيع إلى إمكان الانتفاع بالآبق بالعتق ونحوه، وليس الأمر كذلك في الإجارة.
واجيب عنه: بإمكان استظهار التعليل وإعطاء الضابطة الكلية من الرواية، خصوصاً بعد تحكيم مناسبات الحكم والموضوع المحكّمة في المعاملات العقلائية الامضائية، وأنّ الصحة في البيع لو كانت مستندة إلى إمكان عتق الآبق لم يكن وجه للتفصيل بين وجود الضميمة وعدمها، مضافاً إلى ما تقدم من كفاية العمومات في الحكم بالصحة.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۸۳-۹۰.