تحصيل العلم بالقبلة مع التمكن
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
واعلم أنّ مقتضى الأصول والنصوص وفتوى الأصحاب من غير خلاف معروف : وجوب تحصيل
العلم بالقبلة عينا أو جهة مع
الإمكان ، ولو بالأمارات المتقدمة المستندة إلى القواعد الرياضية، بناء على
إفادتها العلم بالجهة، كما صرّح به جماعة، كالفاضلين في المعتبر والمنتهى على ما حكي عنهما،
والشهيدين في روض الجنان والذكرى،
وإن كان يظهر من بعضهم إفادتها المظنة، ولعلّها بالنسبة إلى العين، وإلّا فالأمر بالنسبة إلى الجهة كما ذكره الجماعة.
وإن فقد العلم جاز
الاكتفاء بالظن الحاصل بأيّ نحو كان من الأمارات المفيدة له، متحرّيا في ذلك الظن الأقوى، بلا خلاف إلّا ما يحكى عن المبسوط، حيث أوجب الصلاة إلى أربع جهات إذا فقد العراقي ما نصب له من العلامات.
وهو غير ظاهر في المخالفة حتى في صورة حصول المظنة بجهة القبلة من غير تلك العلامة،
لاحتمال اختصاصه بصورة فقدها بالكلية كما هو الغالب، ولعلّه لذا لم ينقل عنه الخلاف هنا إلّا نادر. وعلى تقدير ظهور المخالفة فهو شاذّ، محكيّ على خلافه
الإجماع من المسلمين كافّة في كثير من العبائر، كالمعتبر والمنتهى والتحرير والتذكرة والذكرى،
وبه صرّح بعض الأجلّة، حيث قال : وهل له
الاجتهاد إذا أمكنه الصلاة إلى أربع جهات؟ الظاهر إجماع المسلمين على تقديمه وجوبا على الأربع قولا وفعلا، وأن فعل الأربع حينئذ بدعة، فإن غير المشاهد للكعبة ومن بحكمه ليس إلّا مجتهدا أو مقلدا، فلو تقدّمت الأربع على الاجتهاد لوجبت على عامة الناس وهم غيرهما أبدا، ولا قائل به.. إلى آخر ما قال،
ونعم ما قال.والمعتبرة به مع ذلك مستفيضة، ففي الصحيح : «يجزي
التحري أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة».
وفي الموثق : «عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم تر الشمس ولا القمر ولا النجوم، قال : اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك».
وقريب منهما الصحيح : في الأعمى يؤمّ القوم وهو على غير القبلة، قال : «يعيد ولا يعيدون، فإنّهم قد تحرّوا».
وفي آخر : الرجل يكون في قفر من الأرض في يوم غيم فيصلّي لغير القبلة، كيف يصنع؟ قال : «إن كان في وقت فليعد صلاته، وإن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده».
ونحوه الأخبار الدالّة على عدم
الإعادة بعد خروج الوقت في صورة التحري، منها : صحيحة
يعقوب بن يقطين .
نعم ربما ينافي ذلك المرسل الآتي الظاهر في نفي الاجتهاد من أصله، مضافا إلى
الأصل الجابر لضعف سنده، مضافا إلى الجابر الآتي، وهو لزوم الأربع صلوات إلى الجهات الأربع من باب المقدمة لتحصيل
الأمر بالاستقبال بقول مطلق. لكن في مقاومتها للأدلة المتقدمة نصا وفتوى
إشكال ، والظاهر بل المقطوع به عدمها.
(وإذا فقد العلم بالجهة والظن) بها مطلقا، لغيم أو ريح أو ظلمة أو شبهها (صلّى الفريضة) - في «ح» زيادة : الواحدة.- مطلقا أي كائنة ما كانت من الصلوات الخمس والعيدين والجنازة وغيرها. منه رحمه الله.(إلى أربع جهات) متقاطعة على زوايا قوائم، أو مطلقا كيف اتفق، أو بشرط التباعد بينها بحيث لا يكون بين كل واحدة وبين الأخرى ما يعدّ قبلة واحدة لقلّة
الانحراف ، على اختلاف الأقوال، إلّا أن أشهرها بل وأصحّها الأوّل،
اقتصارا على المتبادر من النص والفتوى.
(ومع الضرورة) بخوف لصّ أو سبع أو نحوهما (أو ضيق الوقت) عن الصلوات الأربع (يصلي إلى أيّ جهة شاء) ما قدر منها-في «ش» و «م» : يصلي ما قدر منها إلى أيّ الجهات شاء.- ولو واحدة، كما صرّح به جماعة،
أو يصلّيها خاصة ولو قدر على الزيادة، كما هو ظاهر العبارة وكثير من عبائر الجماعة،
وهو الأوفق بالأصل، كالأول
بالاحتياط اللازم المراعاة في العبادة.
ولا خلاف نصّا وفتوى في جواز الاقتصار عن الأربع صلوات بالمقدور منها أو الواحدة في صورة الضرورة. وإنما اختلفوا في وجوبها مع الإمكان على أقوال، ما في المتن من وجوبها أشهرها، بل في ظاهر المعتبر والمنتهى وشرح القواعد للمحقق الثاني أنّ عليه إجماعنا،
وحكي التصريح به عن الغنية،
وهو الحجة، مضافا إلى الأصل المتقدم إليه
الإشارة من لزوم
الإتيان بالأربع من باب المقدمة تحصيلا للأمر المطلق
باستقبال القبلة.
وخصوص المرسل : قلت : جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم يعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد، فقال : ليس كما يقولون، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه».
خلافا للعماني،
وظاهر [[|الصدوق]] كما قيل،
فيصلّي حيث شاء، ومال إليه الفاضل في المختلف والشهيد في الذكرى،
وغيرهما من متأخّري متأخّري أصحابنا.
التفاتا إلى الصحيح : «يجزي المتحير أبدا أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة».
والصحيح المروي في الفقيه : عن الرجل يقوم في الصلاة ثمَّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أنه قد انحرف عن القبلة يمينا وشمالا، فقال : «قد مضت صلاته، فما بين المشرق والمغرب قبلة، ونزلت هذه
الآية في قبلة المتحير : (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).
والمرسل كالصحيح بابن أبي عمير المجمع على تصحيح ما يصح عنه : عن قبلة المتحيّر، فقال : «يصلي حيث يشاء».
وطعنا في
الإجماع : بعدم المسموعية في محل النزاع. وفي الأصل : بمنع وجوب الاستقبال مع الجهل بالقبلة
استنادا إلى ما تقدم من المعتبرة. وفي الخبر : بضعف السند بالإرسال وغيره، والمتن بتضمنه سقوط
الاجتهاد من أصله، وهو مخالف للإجماع الظاهر والمحكي .
وفي الجميع نظر :
لانجبار الضعف
بالإرسال وغيره بالشهرة العظيمة والإجماعات المحكية حدّ
الاستفاضة التي كل منها حجة-في «م» زيادة : برأسه.- مستقلة.واحتمال الاجتهاد الممنوع عنه، الاجتهاد في مسألة قبلة فاقد العلم، وهي جملة أنه يعمل بالظن مع القدرة عليه وإلّا فيسقط اعتبار القبلة.
وهو وإن بعد لكن لا محيص عنه، جمعا، وصيانة للنص عن المخالفة للإجماع مهما أمكن، سيّما مع
اعتضاده ـ بعد فتوى الأصحاب والإجماع المحكي ـ بالمرسل الآخر المروي في الفقيه من دون هذا المحذور، وكذا في الكافي.
مع أنه حجّة مستقلّة بنفسه، لانجباره بما مضى، وبالأصل الذي قدّمناه.والجواب عنه بما مرّ من منع وجوب استقبال القبلة مع الجهل بها. منه رحمه الله.فرع تسليم سند المنع. وهو غير مسلّم، لإرسال الخبر الأخير وإن قرب من الصحيح، لضعفه عن المقاومة للمنجبر بالعمل، لكونه أقوى منه، بل ومن الصحيح وإن تعدّد واستفاض، على الصحيح.
وبه يظهر الجواب عن الصحيحين الأوّلين. مع احتمال القدح في أوّلهما بأنّ راويه قد رواه بدل ما هنا : «يجزي التحرّي» لا المتحيّر، فيحتمل كون
الأصل هذا والتحريف وقع في المبدل، ومعه لا يصح
الاعتماد عليه في مقابلة ما مضى.واتحادهما سندا ومتنا ـ غير ما وقع فيه
الاختلاف ـ مع الأصل، يدفع احتمال التعدّد رواية، وأنه روى بهذا مرّة وبالآخر اخرى.
وفي الثاني منهما بأن محل الدلالة : «ونزلت هذه الآية في قبلة المتحيّر» إلى آخره. وهو كما يحتمل كونه من تتمّته كذا يحتمل كونه من كلام الفقيه، بل هذا أظهر على ما يشهد به سياق الخبر، مع أنه مروي في التهذيب بدون هذه الزيادة.
فإذا : يشكل الاستناد إلى هذه المعتبرة سيّما في مقابلة خصوص ما مرّ من المراسيل المنجبرة بالشهرة والإجماعات المحكية التي كل منها حجّة مستقلة. وتخيّل الجواب عنه بما مرّ إليه الإشارة، مضعّف بعدم انطباقه على قواعد
الإمامية ، كما مرّ غير مرّة.ثمَّ لو سلّم اعتبار هذه الأدلة وخلوصها عن القوادح المتقدمة، فغايتها
إيراث شبهة في المسألة، بناء على أنّ ترجيحها على الأدلة المقابلة فاسد بلا شبهة. فينبغي الرجوع إلى مقتضى الأصل، وهو ما مرّ من لزوم فعل الأربع من باب المقدمة.
والقدح فيه ـ زيادة على ما مر ـ بإمكان تحصيل المأمور به بصلوات ثلاث إلى ثلاث جهات.ممنوع بعدم تحصيل القبلة الواقعية بذلك، بل غايتها تحصيل ما بين المشرق والمغرب، وهو ليس بقبلة، بل هي الجهة المخصوصة التي لا يجوز
الانحراف عنها ولو بشيء يسير، إلّا فيما استثني بالمرة، وكون ما نحن فيه منه أوّل الكلام. ولا كذلك الصلاة إلى الأربع جهات، فإنّها وإن لم تحصل الجهة الواقعية كما هي، إلّا أنه يدفع الزائد عنها بعدم القائل به بلا شبهة و في «ح» : ولا شبهة. ولو سلّم فساد هذا الأصل، فلنا أصل آخر هو
استصحاب شغل الذمة اليقيني، المقتضي لوجوب تحصيل
البراءة اليقينية ، ومرجعه إلى استصحاب الحالة السابقة، وهو أخصّ من أصالة البراءة فتكون مخصّصة.
وللمحكي عن
ابن طاوس ، فأوجب استعمال القرعة، فإنها لكل أمر مشكل.
ويضعف بأنه لا إشكال هنا على كلّ من القولين السابقين، لاستناد كل منهما إلى حجّة شرعيّة ينتفي معها
الإشكال بالمرة.ومن هنا ينقدح ما في المدارك من نفي البأس عن هذا القول،
مع أنّه اختار القول الثاني الذي مقتضاه جواز الصلاة إلى أيّ جهة شاء، وصحّتها كذلك ولو من دون قرعة، ولا كذلك القول بلزومها، فإنّ مقتضاه
البطلان لو صلّيت من دونها.
رياض المسائل، ج۲، ص۲۷۲-۲۷۹.