عدم جواز الصلاة في جلد الميتة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
اعلم أنه (لا يجوز الصلاة في
جلد الميتة ولو دبغ) إجماعا على الظاهر، المصرّح به في كثير من العبائر
:
وللنصوص المستفيضة التي كادت تكون متواترة، بل قيل : متواترة،
ففي الصحيح : عن جلد الميتة أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال : «لا، ولو دبغ سبعين مرّة».
وفي القريب منه سندا : في الميتة، قال : «لا تصلّ في شيء منه ولا شسع» -الشسع ـ بالكسر ـ واحد شسوع النعل، وهو ما يدخل بين الإصبعين في النعل العربي ممتد إلى الشراك-.
وظاهره عموم المنع لما ليس بساتر أيضا، وبه صرّح جماعة من أصحابنا،
ويستفاد من أخبار أخر أيضا، منها الموثق وغيره : «لا بأس بتقليد السيف في الصلاة فيه الغراء ما أثبتناه موافق للفقيه ونسخة الوافي من
التهذيب و «ل» و «م»، وهو بالمدّ والقصر : الذي يلصق به الأشياء ويتّخذ من أطراف الجلود
والسمك . وفي التهذيب المطبوع والوسائل و «ش» و «ح» : الفراء ـ بالفاء ـ جمع الفرو، وهو الذي يلبس من الجلود التي صوفها معها.
والكيمخت -
الكيمخت ـ بالفتح فالسكون ـ فسّر بجلد الميتة المملوح، وقيل هو الصاغري المشهور-
ما لم يعلم أنه ميتة».
وفي الخبر : كتبت إلى
أبي محمد عليه السلام : يجوز للرجل أن يصلّي ومعه فارة المسك؟ فكتب : «لا بأس به إذا كان ذكيّا».
وإطلاق النص والفتوى يقتضي عدم الفرق بين ذات النفس وغيرها، وبه صرّح بعض أصحابنا.
خلافا لآخرين،
فقيّدوها بالأولى، لكونها
المتبادر من
الإطلاق جدّاً. وهذا أقوى، وإن كان الأوّل أحوط وأولى وقد ادعى الفاضل في المنتهى إجماعنا على فساد الصلاة في جلد ما لا يؤكل، وعدّ منه القنفذ واليربوع والحشرات، والظاهر أن نحو القنفذ وكثير من الحشرات ليس لها نفس، لكن علل المنع فيه بما يدل على
اختصاص المنع فيها بما له نفس سائلة. منه رحمه الله.
وينبغي عليه تقييد غير ذي النفس بنحو السمك ممّا له الجلد الذي هو مورد النص، دون نحو القمل والبق
والبرغوث ، للقطع بعدم البأس فيها.
ثمَّ إن هذا إذا علم كونه ميتة، أو وجد في يد كافر. أما مع الشك في التذكية فقد مضى في أواخر كتاب الطهارة المنع عنه أيضا . وفاقا لجماعة.
خلافا لنادر،
وقد عرفت مستنده، وضعفه بمعارضته بالمعتبرة المستفيضة المعتضدة بالشهرة
واستصحاب بقاء شغل الذمة.
نعم لو أخذ من بلاد
الإسلام حكم بذكاته، وكذا لو أخذ من يد مسلم، للنصوص المستفيضة المتقدمة ثمة. ومقتضاها إطلاقا عدم الفرق بين كون المسلم المأخوذ منه ممّن يستحل الميتة بالدبغ وعدمه. وبه صرح جماعة،
مستندين إلى إطلاق المستفيضة، بل عمومها الناشئ عن ترك
الاستفصال في جملة منها.
خلافا للتذكرة والتحرير والمنتهى،
فمنع عمّا يؤخذ عن يد مستحلّ الميتة بالدبغ مطلقا وإن أخبر بالتذكية، لأصالة العدم.وفيه ـ بعد ما عرفت من إطلاق النص أو عمومه ـ نظر.وأما الخبران : «كان
علي بن الحسين عليه السلام رجلا صردا-الصرد بفتح الصاد وكسر الراء المهملة : من يجد البرد سريعا ـ
لا يدفئه فراء
الحجاز ، فإن دباغها بالقرظ -القرظ بالتحريك : ورق السلم يدبغ به الأديم ـ،
فكان يبعث إلى
العراق فيؤتى من قبلكم بالفراء فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه، وكان يسأل عن ذلك، فيقول : إن أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة، ويزعمون أن دباغه ذكاته».
كما في أحدهما.
وفي الثاني : إني أدخل سوق المسلمين فأشتري منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها : أليست ذكية؟ فيقول : بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية؟ فقال : «لا، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول : قد شرط الذي اشتريتها منه أنّها ذكية» قلت : وما أفسد ذلك؟ قال : «
استحلال أهل العراق للميتة، وزعمهم أن دباغ جلد الميتة ذكاته»
الحديث.
فلا يعارضان ما قدّمنا، لضعف سندهما، بل ودلالتهما أيضا، فإنّ غاية ما يستفاد من الأوّل أنه عليه السلام كان ينزع منه فرو العراق حال الصلاة، ومن الجائز أن يكون ذلك على جهة الأفضلية. وفي لبسها في غير حال الصلاة
إشعار بعدم كونه ميتة.ومن الثاني المنع عن بيع ما أخبر بذكاته على أنه مذكّى، وهو غير دالّ على تحريم
استعماله . بل نفي البأس عن بيعه أخيرا يشعر بل يدل على عدم كونه ميتة، لعدم جواز بيعها إجماعاً.
(وكذا) لا تجوز الصلاة في جلد (ما لا يؤكل لحمه) شرعا مطلقا (ولو ذكّي ودبغ، ولا في صوفه وشعره ووبره) بإجماعنا الظاهر، المصرّح به في كثير من العبائر، كالخلاف والغنية والمعتبر والمنتهى والتذكرة ونهاية الإحكام، وشرح القواعد للمحقق الثاني، وروض الجنان،
ونفى عنه الخلاف في السرائر،
وادعاه في
الانتصار في وبر الثعالب
والأرانب وجلودهما، قال : وإن ذبحت ودبغت.
والنصوص به مع ذلك مستفيضة، وفيها الصحاح والموثّقات وغيرها، منها الصحيح : عن الصلاة في جلود السباع، فقال : «لا تصلّ فيها».
والموثّق المرويّ بعدّة طرق : عن جلود السباع، فقال : «اركبوها ولا تلبسوا شيئا منها تصلّون فيه»
كما في طريقين، وفي آخرين : عن لحوم السباع وجلودها، فقال : «أما لحوم السباع فمن الطير والدواب فإنّا نكرهه، وأما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا شيئا منها تصلّون فيه».
واختصاصها بالسباع غير ضائر بعد عدم قول بالفرق بين الأصحاب، مستندا إلى عموم كثير من النصوص في الباب، منها الموثق كالصحيح ـ بل قيل صحيح ـ «إن الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد، لا تقبل تلك الصلاة حتّى تصلّي في غيره مما أحلّ الله تعالى أكله» ثمَّ قال : «يا
زرارة ، فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله
[۵۷] وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائز إذا علمت أنه ذكي قد ذكّاه الذبح، وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله أو حرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسد، ذكّاه الذبح أو لم يذكّه».
ومنها المروي في الفقيه في وصية
النبي صلي الله وعليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : «يا علي لا تصلّ في جلد ما لا يشرب لبنه ولا يؤكل لحمه».
والمروي عن العلل : «لا تجوز الصلاة في شعر ووبر ما لا يؤكل لحمه، لأن أكثره مسوخ».
والمرسل في التهذيب، المروي عن العلل صحيحا. كان
أبو عبد الله علیه السلام يكره الصلاة في وبر كل شيء لا يؤكل لحمه
والمراد بالكراهة فيهما التحريم، كما يستفاد من تتبّع نصوص الباب.
والخبر : كتبت إليه : يسقط على ثوبي الوبر والشعر مما لا يؤكل لحمه من غير تقية ولا ضرورة، فكتب : «لا تجوز الصلاة فيه».
وظاهره إطلاق المنع (ولو كان) شعرات ملقاة على الثوب، فضلا عن أن يكون (قلنسوة أو تكة) مضافا إلى وقوع التصريح بالمنع فيهما على الخصوص في الصحيح المروي في الكافي والتهذيب عن
علي بن مهزيار : قال : كتب إليه
إبراهيم بن عقبة : عندنا جوارب وتكك تعمل من وبر الأرانب، فهل تجوز الصلاة فيه من غير ضرورة ولا تقية؟ فكتب عليه السلام : «لا تجوز الصلاة فيها».
ونحوه الخبر المروي في التهذيب والاستبصار بسند محتمل الصحة في الأخير.
هذا مضافا إلى إطلاق النصوص بالمنع عن الصلاة في نحو
الوبر والشعر.
وتوهم اختصاصه بالملابس بملاحظة لفظة «في» المقتضية لذلك مدفوع بعدم جريانه في الموثق كالصحيح المتقدم ، لدخولها عليهما وعلى
البول والروث أيضا، وليست بالنسبة إليهما للظرفية قطعا، بل لمطلق الملابسة. ومثله حجّة، سيّما بعد اعتضاده بالشهرة بين الطائفة عموما في أصل المسألة، وخصوصا في نحو التكّة، على الظاهر، المصرّح به في كلام جماعة ومنهم صاحبا المدارك والذخيرة،
بل صرّح الأخير بالشهرة على
الإطلاق حتى في نحو الشعرات الملقاة، كخالي
العلامة المجلسي فيما حكي عنه.
مع مخالفته العامّة، كما صرّح به جماعة،
واعتضاده بالصحيحين وما قبلهما من الرواية.خلافا للمبسوط وابن حمزة، فيجوز مع الكراهة،
وحجّتهما غير واضحة عدا ما في المختلف من وجه اعتباري ضعيف وهو : إنه قد ثبت للتكّة والقلنسوة حكم مغاير لحكم الثوب من جواز الصلاة فيهما وإن كانا نجسين أو من حرير محض، فكذا يجوز لو كانا من وبر الأرانب وغيرها.
ومكاتبة أخرى صحيحة : هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه، أو تكة حرير محض، أو تكة من وبر الأرانب؟ فكتب : لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض، وإن كان الوبر ذكيّا حلّت الصلاة فيه».
وفيها ـ بعد
الإغماض من كونها مكاتبة تضعف عن مقاومة الرواية مشافهة وإن قصرت عن الصحة،
لانجبارها كما عرفت بالشهرة المرجّحة لها على الصحيح، بل الصحاح، مع اعتضادها بالمكاتبات الثلاث التي جملة منها كما عرفت صحيحة لا يعارضها هذه المكاتبة للشهرة ـ : أنها قاصرة الدلالة بما ذكره الماتن في المعتبر ـ وحكاه عنه في الذكرى ساكتا عليه ـ : من أن غايتها أنها تضمنت قلنسوة عليها وبر، فلا يلزم جوازها من الوبر.
وما يقال : من أنها مصرّحة بجواز الصلاة في الوبر المسؤول عنه، ومن جملة ما وقع السؤال عنه التكّة المعمولة من وبر الأرانب، فكيف يدّعى أنها تضمنت ما على القلنسوة من الوبر لا غير؟.
يمكن الجواب عنه : بأن ما ذكره حسن لو عطف قوله : «أو تكة» على قوله : «قلنسوة» مع أنه يحتمل العطف على قوله : «وبر» بعد قوله : «عليها» ولا ترجيح للأول-في «ح» زيادة : على الثاني- بل قرب المرجع يرجّح الثاني وإن بعد عن
الاعتبار ، لكن غايته التوقف في الترجيح-في «ح» زيادة : فتأمل.-ولو سلّم ترجيح الأوّل لكان المتعين حملها على
التقية ، لكون الجواز مذهب العامة كما صرّح به جماعة ، ويشير إليه كونها مكاتبة.مع أنّها متضمنة
لاشتراط كون الوبر مذكّى في حلّ الصلاة فيه، وهو خلاف
الإجماع نصّا وفتوى بأيّ معنى اعتبر
التذكية فيها : بمعنى الطهارة أو قبول الحيوان ذي الوبر التذكية، إذ الطهارة غير مشترطة في نحو التكة التي هي مورد السؤال مما لا يتم فيه الصلاة
اتفاقا . وكذا قبول الحيوان التذكية، لعدم اشتراطها في الوبر من طاهر العين منه الذي هو مورد البحث في المسألة إجماعاً.
قيل : ولعل المراد من التذكية فيها كونه مما يؤكل لحمه، ويشير إلى ذلك بعض الأخبار : في الصلاة في الفراء، فقال : «لا تصلّ فيها إلّا ما كان ذكيّا» قال، قلت : أليس الذكي ما ذكّي بالحديد؟ فقال : «بلى إذا كان مما يؤكل لحمه».
ولا بأس به ـ وإن بعد ـ جمعا. ولكن الأولى حملها على التقية، لما مرّ؛ مضافا إلى مناسبة اشتراط التذكية فيها لما يحكى عن الشافعي وأحمد : من اشتراطهما كون الشعر ونحوه مأخوذا من الحي، أو بعد التذكية، وأنه إذا أخذ من الميت فهو نجس لا تصح الصلاة فيه نقله عن الشافعي في صحيح مسلم بشروح النووي وحكاه عن أحمد في المغني والشرح الكبير.
ومما ذكر ظهر ضعف
الاستناد إلى هذه الرواية للحكم بجواز الصلاة في الشعرات الملقاة خاصة دون التكة، نظرا إلى صحتها وضعف الرواية السابقة المصرحة بالمنع فيها بالخصوص.لأن الضعف كما عرفت بما مرّ مجبور، والصحيحة قد عرفت وجوه القدح فيها، سيّما التقية.
وأضعف منه الاستناد لذلك بأن فيه الجمع بين الأخبار المانعة بحملهاعلى الثوب المعمول من ذلك، والمجوّزة بحملها على الشعرات الملقاة على الثوب.
لعدم الشاهد عليه أوّلا، وفقد التكافؤ ثانيا، مع تصريح
المكاتبة الصحيحة أخيرا ـ بزعمه ـ بجواز الصلاة في التكة والمكاتبة الأولى بالمنع من الشعرات الملقاة، وقريب منها الموثقة كالصحيحة المتقدمة كما عرفته، فكيف يتم له الجمع بما ذكره؟وقريب منه في الضعف ما ذكره الشيخ : من الجمع بينهما بحمل المجوّزة على ما يعمل منها ما لا يتم الصلاة فيه وحده كالتكة ونحوها، والمانعة على غيره.
إذ فيه إطراح للمكاتبتين المصرّحتين بالمنع عن التكة والقلنسوة .
وأضعف من الجميع الاستناد للجواز في الشعر الملقى بالمعتبرة الدالة على جواز الصلاة في شعر
الإنسان وأظفاره كما في الصحيحين،
وبزاقه كما في المروي عن قرب الإسناد.
فإنّ الظاهر خروج ذلك ـ كفضلات ما لا يؤكل لحمه غير ذي النفس مما لا يمكن التحرز عنه كالقمل والبرغوث والبق ونحوه ـ عن محل النزاع، كما صرّح به جماعة من الأصحاب،
لاختصاص أدلّة المنع نصا وفتوى بحكم التبادر وغيره بغير ذلك جدّا، مع لزوم العسر الحرج والضيق في التجنب عن نحو ذلك قطعا، ومخالفته لإجماع المسلمين، بل الضرورة أيضا.
ويعضد المختار ما سيأتي من الأخبار المانعة عن الصلاة في الخزّ المغشوش بوبر الأرانب ، فتأمّل، والمانعة عن الصلاة في الثياب
الملاصقة لوبر الأرانب والثعالب ، بناء على أنّ الظاهر أنّ وجه المنع فيها إنما هو
احتمال تساقط الشعرات منهما عليها، ولا يتمّ إلّا بتقدير المنع عن الصلاة معها مطلقا.
رياض المسائل، ج۲، ص۲۹۵-۳۰۵.