كيفية لبس ثوبي الإحرام
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ظاهر
الفقهاء عدم
اعتبار كيفيّة خاصّة في لبس الثوبين، وإنّما المعتبر صدق
الاتّزار و
الارتداء عرفاً،
وإن قيل: إنّه يعتبر في الاتزار ستر ما بين السرّة والركبة، وفي الارتداء ستر ما بين المنكبين،
ولعلّه تبيين لما هو
المعروف فيهما.
وعليه، فإنّ للمحرم أن يتزر بأحدهما كيف شاء،
وهو مورد
اتفاق الفقهاء ظاهراً،
ولم يرد فيه نصّ خاصّ سوى ما ورد في
التوقيع المروي في
الاحتجاج : أنّ
محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري كتب إلى
صاحب الأمر عليه السلام يسأله هل يجوز أن يشدّ عليه مكان العقد تكّة؟ فأجاب عليه السلام: «لا يجوز شدّ المئزر بشيء سواه من تكّة أو غيرها».
وكتب أيضاً يسأله: يجوز أن يشدّ المئزر من خلفه على عنقه بالطول أو يرفع طرفيه إلى حقويه ويجمعهما في خاصرته ويعقدهما ويخرج الطرفين الأخيرين بين رجليه ويرفعهما إلى خاصرته ويشدّ طرفيه إلى وركيه فيكون مثل
السراويل يستر ما هناك؟ فأجاب عليه السلام: «جائز أن يتّزر
الإنسان كيف شاء إذا لم يحدث في المئزر حدثاً بمقراض ولا
إبرة تخرجه عن حدّ المئزر وغرزه غرزاً، ولم يعقده ولم يشدّ بعضه ببعض، وإذا غطّى سرّته وركبتيه كلاهما فإنّ السنّة المجمع عليها بغير خلاف تغطية السرّة والركبتين، والأحبّ إلينا و
الأفضل لكلّ أحد شدّه على السبيل المألوفة المعروفة للناس جميعاً إن شاء اللَّه تعالى».
أمّا الثوب الآخر فإنّه يجوز الارتداء به بلا خلاف،
بل اقتصر بعضهم عليه،
ولكن ذهب أكثرهم إلى
التخيير بين الارتداء والتوشّح به،
وهو تغطية المنكبين بأن يدخل طرفه تحت
إبطه الأيمن ويلقيه على عاتقه الأيسر كالتوشّح بالسيف كما ذكره
الأزهري وغيره،
أو بالعكس، أي يدخل طرفه تحت الابط
الأيسر ويلقيه على
الأيمن .
والمستند في جواز التوشّح
إطلاق روايات لبس الرداء،
ولعلّ من اقتصر على الارتداء
أو
الاتشاح أراد الأعمّ أو
التمثيل ،
وإلّا فليس في النصوص كيفيّة خاصّة للبس الرداء،
وإن كان الارتداء أولى؛ للتعبير عنه في النصوص بالرداء المنساق منه الارتداء بحسب المتعارف،
بل ربّما مال بعض الفقهاء إلى تعيّنه؛ نظراً إلى أنّه ليس هناك إطلاق يشمل التوشّح، فإنّ
المتبادر من لبس الرداء الارتداء به، كما أنّ المتبادر من لبس
العمامة والمنطقة التعمّم و
التمنطق .
واعترض عليه بأنّ مجرّد
التعارف الخارجي لا يوجب
الانصراف ؛ إذ
العبرة بالصدق العرفي.
ذهب جمع من الفقهاء إلى عدم جواز عقد
الرداء ،
واستدلّ له- مضافاً إلى أنّ
الإلقاء هو المستفاد من
الأمر بالارتداء دون العقد والشدّ الذي هو غير الارتداء
- بصحيحة أو موثّقة
سعيد الأعرج : أنّه سأل
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن المحرم يعقد إزاره في عنقه؟ قال: «لا».
والمراد من
الإزار هو الرداء بقرينة السؤال؛ لأنّه هو الذي يُعقد في العنق.
واورد على
الاستدلال بها بما يلي
:
أوّلًا: بأنّها لا دلالة فيها على
التحريم ؛ لاحتمال أن يكون السؤال عن وجوب العقد في عنقه لمناسبته الستر الذي هو أقرب إلى مقام
العبادة و
التواضع ، فيكون النفي في الجواب بنفي الوجوب، لكن استبعد بعضهم هذا
الاحتمال .
وثانياً: بأنّ الرواية واردة في الإزار، وحمله على الرداء بعيد جداً.
وثالثاً: بضعف السند لوقوع
عبد الكريم بن عمر في طريقه.
ولذلك احتمل
المحقّق الأردبيلي وسبط
الشهيد الثاني الكراهة، بل ذهب
السيد الخوئي إلى الجواز من دون كراهة،
كما قال
السيد اليزدي : «يجوز الاتّزار بأحدهما كيف شاء والارتداء بالآخر أو التوشّح به أو غير ذلك من الهيئات، لكن الأحوط لبسهما على الطريق المألوف، وكذا
الأحوط عدم عقد الازار في عنقه، بل عدم عقده مطلقاً ولو بعضه ببعض، وعدم غرزه بإبرة ونحوها، وكذا في الرداء الأحوط عدم عقده، لكنّ
الأقوى جواز ذلك كلّه في كلّ منهما ما لم يخرج عن كونه رداء أو إزاراً ويكفي فيهما المسمّى».
هذا في عقد الرداء في العنق، أمّا في عقده في غير العنق فقد يقال: إنّه لا دليل على المنع فيه أصلًا حتّى لو حملنا الإزار على الرداء؛ لأنّ
الممنوع إنّما هو عقده في العنق كما في النصّ، أمّا العقد مطلقاً أو غرزه بإبرة ونحوها فلا دليل عليه.
أمّا الإزار فقد أطلق جماعة من الفقهاء جواز عقده،
بل صرّح بعضهم جواز عقده مطلقاً حتى في العنق بشرط عدم الخروج عن كونه إزاراً، كما تقدّم من السيد اليزدي.
واستدلّ له- مضافاً إلى
الأصل ، وأنّه ممّا يحتاج إليه في
ستر العورة وكونه طريق لبس الإزار- برواية القدّاح عن
أبي جعفر عليه السلام : «أنّ عليّاً كان لا يرى بأساً بعقد الثوب إذا قصر ثمّ يصلّي فيه وإن كان محرماً».
وأمّا ما ورد في رواية سعيد الأعرج
وكذا صحيحة
علي بن جعفر من النهي عن عقد الإزار في العنق أو الرقبة، فلعلّ المراد منه هو الرداء؛ إذ ليس الطريق المألوف في الإزار العقد على الرقبة أو العنق.
ولكن ربّما يقال هنا
بالاحتياط ، وعدم عقده مطلقاً؛ نظراً إلى ما ورد في التوقيع المتقدّم من النهي عن عقده مطلقاً.
وفصّل السيد الخوئي بين عقد الإزار على العنق فلا يجوز، وبين عقده في غيره فيجوز، فقال: «المعتبر في الإزار عدم عقده في عنقه، فإنّ ذلك كان أمراً متعارفاً في الأزمنة السابقة إذا كان الإزار واسعاً كبيراً، ويدلّ عليه روايتان: الاولى:
صحيحة سعيد الأعرج...
والثانية: صحيحة علي بن جعفر قال: «المحرم لا يصلح له أن يعقد إزاره على رقبته ولا يعقده»... أمّا عدم عقده مطلقاً ولو في غير العنق أو غرزه بإبرة ونحوها فلا دليل عليه إلّا خبر الاحتجاج، ولضعفه سنداً لا يمكن
الاستناد إليه».
صرّح بعض الفقهاء بأنّ من شروط
لبس ثوبي الإحرام نيّة القربة،
أمّا التجرّد عن
الثياب فلا تعتبر فيه نيّة
القربة ، وإن ذكر السيد اليزدي أنّ الأحوط الأولى اعتبارها فيه أيضاً.
وقد استدلّ للزوم ذلك في اللبس بأنّه من العبادات- كالتلبية- المرتكزة لدى المتشرّعة، أمّا التجرّد فهو كغيره من تروك الإحرام ليس من العبادة التي يعتبر فيها
التقرّب .
وتجزي
استدامة نيّة الإحرام عن نيّة اللبس، ومع عدم الاستدامة لا بدّ منها، ولا حاجة فيها بعد قصد القربة إلى شيء، والأحوط فيها أن ينوي اللبس للإحرام بنوع خاصّ من أقسام الحجّ أو من قسمي العمرة، كما صرّح به
كاشف الغطاء .
ولا تجب
المباشرة في لبس ثوبي الإحرام، بل يصحّ بمباشرة الغير فيه أيضاً لإطلاق الأدلّة والأصل.
لو لم يكن مع المحرم ثوبا الإحرام وكان معه قباء جاز له لبسه مقلوباً بلا خلاف،
بل عن ظاهر
التذكرة و
المنتهى : أنّه موضع وفاق،
وفي
المفاتيح : أنّه إجماعي.
وقال
السيد العاملي : «هذا الحكم مقطوع به في كلام
الأصحاب ، بل ظاهر التذكرة والمنتهى أنّه موضع وفاق، ويدلّ عليه روايات كثيرة».
وتدلّ عليه الروايات المعتبرة المستفيضة:
منها: صحيحة
الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إذا اضطر المحرم إلى
القباء ولم يجد ثوباً غيره فليلبسه مقلوباً، ولا يدخل يديه في يدي القباء».
ونحوها روايتا
علي بن أبي حمزة و
أبي بصير .
ومنها: خبر
عمر بن يزيد : «يلبس المحرم الخفّين إذا لم يجد نعلين، وإن لم يكن له رداء طرح قميصه على عنقه، أو قباءه بعد أن ينكسه».
ومنها: رواية
محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «يلبس المحرم القباء إذا لم يكن له رداء، ويقلب ظهره
لباطنه ».
ومنها: رواية
الحنّاط عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «من اضطر إلى ثوب وهو محرم وليس معه إلّا قباء فلينكسه وليجعل أعلاه أسفله ويلبسه».
ونحوها رواية
جميل عن أبي عبد اللَّه عليه السلام.
وهل يكون لبسه مقلوباً بدلًا عن ثوب الإحرام فيكون واجباً أو انّه
ترخيص في
لبس المخيط ؟ قولان ذهب إلى الأوّل منهما بعض الفقهاء.
قال الشهيد الثاني: «المراد بالجواز هنا معناه الأعم، والمراد منه الوجوب؛ لأنّه بدل عن الواجب وعملًا بظاهر الأمر في النصوص».
وهو ظاهر فتاوى بعض الفقهاء المعاصرين
واختار بعض آخر الأوّل.
قال: «الذي يظهر من أخبار الباب أنّ لبس القباء مقلوباً ليس من باب البدليّة من ثوبي الإحرام، بل النظر إلى الترخيص في لبس المخيط الممنوع في حال الإحرام، فلا يناسب ذكره في المقام، والشاهد على هذا ترخيص لبس الخفين مع عدم وجدان نعلين، فإنّ لبس النعلين لا مدخليّة له في الإحرام... وعلى هذا فيدور الأمر مدار
الاضطرار العرفي المجتمع مع وجدان الإزار وفقدان الرداء كما يظهر من الصحيح أعني صحيح عمر بن يزيد المذكور،
ويمكن أن يجمع بينه وبين صحيح الحلبي المتقدّم بحمله على عدم وجدان ثوب غيره ممّا يقوم مقام القباء أي الرداء، وممّا ذكر يظهر أنّه لا مجال لحمل الأمر على الوجوب، بل الأمر في مقام توهّم
الحظر أو بلحاظ خصوصيّة القلب والنكس».
ثمّ إنّ المستفاد من هذه الروايات عدم جواز لبس القباء على النحو المتعارف، بل لا بدّ من رعاية جهة الشبه بالرداء وحفظ الهيئة المخصوصة.
وحينئذٍ لا بد من لبس القباء مقلوباً كما في بعض الروايات أو منكوساً كما في البعض الآخر، وعليه فهل المراد من القلب والنكس شيء واحد أو هما شيئان متغايران حتى يحتاج إلى ترجيح إحدى الطائفتين من الروايات أو
التخيير بينهما؟
الظاهر من فتاوى جماعة من الفقهاء أنّ المراد بالقلب هنا جعل ظاهره باطناً كما هو صريح صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة.
ويشهد له النهي عن
إدخال اليدين في يدي القباء الوارد في صحيحة الحلبي المتقدّمة؛ لعدم تصوّر إدخال اليدين في يدي القباء عند نكسه.
قال
الشيخ الطوسي : «إذا لم يكن مع
الإنسان ثوبا الإحرام وكان معه قباء فليلبسه مقلوباً لا يدخل في يدي القباء، ولا يجوز له أن يلبس السراويل إلّا إذا لم يجد الإزار».
وتبعه على ذلك ابنا حمزة والبراج والمحقّق في المختصر والعلّامة في
الإرشاد .
بينما حاول الحلّي
حمل القلب الوارد في الأخبار والفتاوى على
إرادة جعل
الأعلى من القباء أسفل كما ورد في رواية الحناط، لا أن يجعل ظاهره باطناً وباطنه ظاهراً؛ لأنّه يشبه لبس المخيط وهو حرام عليه، وبذلك أفتى المحقّق في
الشرائع والعلّامة في القواعد والتذكرة والشهيد.
قال
المحقّق الحلّي : «إذا لم يكن مع الإنسان ثوبا الإحرام وكان معه قباء جاز لبسه مقلوباً بأن يجعل ذيله على كتفيه».
وقد خيّر جماعة منهم ابن سعيد و
العلّامة الحلّي في بعض كتبه
بين الأمرين، ولعلّه المشهور بين المتأخّرين.
قد يقال: إنّ الأولى الجمع بين الكيفيتين من النكس والقلب
عملًا بمدلول النصّ من الجانبين، ويدلّ عليه خصوص رواية مثنّى الحناط الماضية.
قال الشهيد الثاني: «للقلب هنا تفسيران: أحدهما: جعل ذيله على الكتفين، والثاني: جعل باطنه ظاهره، ولا يخرج يديه من كمّيه، والأقوى
الاجتزاء بكلّ واحد منهما لدلالة النصوص عليهما، وإن كان الأوّل أولى، بل خصّه ابن ادريس به، واختاره في
الدروس ، فهو حينئذٍ مجز إجماعاً. وأكمل منه الجمع بينهما، عملًا بمدلول النصّ من الجانبين، وإن لم يقل أحد بتحتّم الثاني».
ثمّ إنّ المشهور
اختصاص الحكم بالقباء، لكن جاء في رواية عمر بن يزيد المتقدّمة أنّه لو لم يكن له رداء طرح قميصه على عنقه أو قباءه بعد أن ينكسه، واعتمده في الدروس حيث قال: «لو لم يجد إزار أجزأ السراويل، ولو فقد الرداء أجزأ القباء أو
القميص منكوساً، ولا يكفي قلبه».
وكذا
المحقّق النجفي حملًا لما في النصّ من القباء على المثال.
ثمّ إنّه بناءً على وجوب الإحرام في القباء مقلوباً لو لم يجد رداءً هل يشترط فيه عدم الإزار أيضاً أم لا؟
ظاهر جملة من الفقهاء كالشهيدين وغيرهما
عدم
الاشتراط ، بل يجوز لبس القباء وإن كان الإزار موجوداً كما هو الظاهر من بعض الأخبار المتقدّمة كخبري عمر بن يزيد ومحمّد بن مسلم.
وعليه، فلا بدّ من لبس القباء للإحرام عند فقد الرداء، كما لا بد من لبس السراويل عند فقد الإزار كما سيأتي البحث فيه.
لكن قد يقال: إنّ ظاهر أكثر النصوص اشتراط فقد الثوبين حتى صار مشهوراً بين القدماء،
بل الفتاوى كلّها
عدا الشهيدين، حيث اكتفيا بفقد الرداء خاصّة،
فإنّهم لم يذكروا حكم فقد الرداء، وإنّما تعرّضوا لحكم فاقد الثوبين فقط. وظاهره أن لا يكون له أحد منهما كما هو نصّ كثير منهم
ومن الأخبار.
وصرّح العلّامة الحلّي بأنّه يشترط في لبس القباء مقلوباً فقد الإزار حيث قال: «لا يجوز له لبس القباء مقلوباً مع وجود الإزار، ولو لم يجد رداءً لم يجز له لبس القميص، ولو عدم الإزار جاز له التوشّح بالقميص وبالقباء المقلوب؛ لقول الصادق عليه السلام: «وإن لم يكن له رداء طرح قميصه على عنقه أو قباءه بعد أن ينكسه»».
وقال
الفاضل الهندي : «الأحوط عندي التجنّب لغير ضرورة، ومنها أن لا يكون له ثوب إلّا رداء لا يمكنه الاتزار به فيتّزر، إمّا بقباء أو سراويل أو نحوهما، فهذه المسألة وما يأتي من فقد الإزار مسألة واحدة».
لا خلاف في أنّ المحرم إذا فقد الإزار يلبس السراويل
بدلًا عنه،
وجوّز الشهيد الثاني لبس القباء مع فقد الإزار.
ويدل على جواز لبس السراويل- مضافاً إلى ما تقدّم- الأخبار:
منها: خبر
معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «لا تلبس ثوباً له إزار وأنت محرم إلّا أن تنكسه، ولا ثوباً تدرعه، ولا سراويل إلّا أن لا يكون لك إزار».
ومنها: خبر
حمران عن أبي جعفر عليه السلام: «المحرم يلبس السراويل إذا لم يكن معه إزار ويلبس الخفّين إذا لم يكن معه نعل».
والظاهر عدم
اعتبار القلب
والفتق،
ولكن قال
ابن زهرة : وعند قوم من أصحابنا أنّه لا يلبس حتّى يفتق ويصير كالمئزر وهو أحوط.
ثمّ إنّ ظاهر النصوص والفتاوى أنّه لا فدية عليه بلبس القباء على الوجه المرخّص له، إلّا إذا أدخل اليدين في الكمّين فإنّه يلزمه كفارة لبس المخيط حينئذٍ، لا قبله.
وكذا لا فدية في لبس السراويل عند فقد الإزار،
بل ادّعي عليه الإجماع.
الموسوعة الفقهية، ج۶، ص۳۶۸-۳۹۲.