لزوم الإباحة المعوضة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
اتّضح ممّا تقدّم أنّ
الإباحة بعوض تارة تخرّج على أساس كونها معاوضة أو عقداً مستقلًاّ، وأخرى على أساس أنّها إباحة معلّقة على تمليك العوض، وثالثة على أساس أنّها إباحة مقيّدة بالالتزام الشرطي بالعوض، ورابعة على أساس التوافق بين المبيح والمستوفي للمنفعة أو العين على تعيين مقدار
الضمان في المسمّى.فهذه تخريجات أو تصويرات أربعة للإباحة بعوض تختلف في الجواز واللزوم.
۱- فبناءً على
التخريج الأوّل لا بدّ وأن يقال بلزومها من كلا الطرفين أي طرف المبيح وطرف المملّك للعوض بمقتضى العمومات الدالّة على لزوم كلّ عقد ووجوب الوفاء به المقتضي للزوم العقد
ابتداءً نظير قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «المسلمون عند شروطهم» أو
بالإطلاق كأدلّة الصحّة
والإمضاء من قبيل: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» فإنّ مقتضى إطلاقها الأحوالي بقاء الإمضاء وترتّب الأثر حتى بعد رجوع المالك. كما أنّ مقتضى الأصل العملي- وهو
الاستصحاب - ذلك أيضاً.قال
الشيخ الأنصاري : «وعلى تقدير الصحّة ففي لزومها مطلقاً لعموم «المؤمنون عند شروطهم»، أو من طرف المباح له حيث إنّه يخرج ماله عن ملكه دون المبيح حيث إنّ ماله باقٍ على ملكه فهو مسلّط عليه، أو جوازها مطلقاً، وجوه: أقواها أوّلها ثمّ أوسطها».
وقد اعترض على هذا
الاستدلال من قبل المحقّقين: بأنّ مقتضى دليل «الناس مسلّطون على أموالهم» جواز رجوع المبيح عن إباحته؛ لأنّه باقٍ على ملكهبحسب الفرض، فيكون مقتضى السلطنة على ماله جواز الرجوع فيه، كما أنّ مقتضاه جواز تصرّفه فيه بما يوجب
انتفاء الإباحة.
وقد اختلف موقفهم في دفع هذا الإشكال، فذهب بعضهم كالمحقّق الاصفهاني إلى اللزوم بمعنى عدم تأثير الرجوع في رفع الإباحة مع جواز التصرّف للمبيح في ماله بما يوجب انتفاءها على المباح له، قال: «ينبغي أن يعلم أوّلًا أنّ إباحة التصرّف في المال تارة تستند إلى
إذن المالك ورضاه فمثلها بقاؤها ببقائهما كحدوثها بحدوثهما، وأخرى تستند إلى العقد على الإباحة ومثلها قابلة للّزوم بمعنى عدم انفكاك الإباحة عن موضوعها فليس للمبيح ردّ تلك
الإضافة كما أنّه ليس له ردّ الملكية، وحينئذٍ فلا يختصّ اللزوم بطرف الملكية، بل يعمّ طرف الإباحة.وأمّا المعارضة في طرف الإباحة بعموم دليل السلطنة؛ لأنّ المفروض بقاء المال على ملكه، فمندفعة بأنّ غاية ما يقتضيه دليل السلطنة أنّ المالك له التصرّف في ماله، إلّا أنّه غير السلطنة على عقده وردّ الإضافة، فإنّه محتاج إلى سلطنة جديدة متعلّقة بالعقد قوليّاً كان أو فعليّاً، كما مرّ الكلام سابقاً.نعم، التصرّف في نفس المال بما يوجب انتفاء موضوع تلك الإضافة لا مانع منه».
وذهب بعض
كالمحقّق الايرواني إلى اللزوم تكليفاً بمعنى حرمة الرجوع أو التصرّف الرافع للموضوع، لا وضعاً بمعنى صحّة التصرّف
وارتفاع الإباحة للمباح له برجوع المبيح قال: «ثمّ لزوم المعاملة إمّا أن يراد منه لزومها تكليفاً بمعنى أنّه لا يجوز فسخ
المعاوضة ويحرم فسخها، أو يراد منه لزومها وضعاً بمعنى أنّه لا أثر لرجوعه في حلّ المعاملة وحرمة التصرّف للمباح له...إذا عرفت هذا فاعلم أنّه لا سبيل إلى الحكم باللزوم الوضعي؛ فإنّ جواز التصرّف من المباح له بعد رجوع المبيح خلاف دليل سلطنة الناس ودليل لا يحلّ.وأمّا اللزوم تكليفاً فهو مقتضى الأدلّة التي يستدل بها على صحّة هذه المعاملة، أعني عموم «أَوْفُوا» و «المؤمنون عند شروطهم»».
ومثله ما ذكره
السيّد الگلبايگاني :«الأقوى هو الوجه الأوّل وهو اللزوم، لكن فيما إذا كان أخذ العوض في مقابل الإباحة الأبديّة، فيجب البقاء على إباحته
والالتزام بها تكليفاً لا وضعاً».
وذهب آخرون إلى اللزوم تكليفاً ووضعاً وعدم معارضة دليل
السلطنة مع أدلّة اللزوم. قال السيّد الطباطبائي اليزدي قدس سره: «مقتضى السلطنة على المال لزوم الإباحة المفروضة لا جوازها؛ لأنّه إذا كان مسلّطاً على ماله وقد أباحه بعوض، فيلزم أن تكون نافذة».
وقال
السيّد الحكيم : «ولا يعارضه عموم السلطنة بالإضافة إلى المبيح لكون المفروض صدور التصرّف من السلطان، فيكون مقتضى العموم القدرة عليه على ما هو عليه من اللزوم والجواز، فلا يصلح لمعارضة ما دلّ على لزومه؛ لما عرفت من أنّها لا تصلح للتشريع.وبالجملة: عموم السلطنة إنّما يقتضي شرطيّة إذن المالك في صحّة التصرّف، فإذا وقع التصرّف
بإرادة المالك وكان لازماً لم يصلح العموم لرفع لزومه».
وقال
السيّد الإمام الخميني : «إنّ التمسّك في ذيل كلامه- أي الشيخ الأنصاري- بأصالة التسلّط للجواز ليس على ما ينبغي؛ فإنّ الناس مسلّطون على أموالهم لا على الأحكام والأسباب».
ويتلخّص جواب القائلين باللزوم وضعاً وتكليفاً في أمرين:
أوّلًا- أنّ دليل السلطنة لا نظر له إلى تشريع الأسباب وترتّب الأثر عليها أو عدمه سواء في طرف
الإحداث أو
الإنهاء والفسخ؛ ومن هنا منع جملة من المحقّقين من التمسّك بدليل السلطنة لإثبات صحّة العقود.
ويمكن أن يلاحظ عليه: بأنّ المدّعى ليس تحكيم دليل السلطنة على الأسباب الشرعية، بل على تصرّف المالك في ماله بنقله إلى الغير أو أخذه من المباح له وحرمة تصرّفه فيه بدون رضاه؛ لأنّ موضوع كلّ ذلك هو الملك، وهو محفوظ للمبيح بحسب الفرض، ولازمه عدم اللزوم الوضعي. نعم حيث إنّه قد التزم بالعقد بأن يبيح ويأذن للمباح له بالتصرّف يكون رجوعه عن ذلك مخالفة لذلك الالتزام والشرط، فيحرم عليه تكليفاً فقط.وثانياً- لو فرض نظره إلى الأسباب فهو يقتضي السلطنة عليها كما هي، فإذا كان مقتضاها اللزوم كان مقتضى السلطنة عليها ذلك أيضاً، لا
انتقاضها وارتفاعها؛ فإنّه خلف السلطنة عليها بما هي كذلك.وهذا الجواب قد ناقش فيه المحقّق الاصفهاني «بأنّ نفوذها ( الإباحة) لا يلازم لزومها، كما في كلّ معاوضة نافذة، فالاستدلال بالصحّة على اللزوم غريب جدّاً.نعم، هذا إنّما يتوهّم إذا عقد على الإباحة على وجه لا رجعة فيها، فإنّ فرض وقوعها نافذة فرض عدم نفوذ الرجوع؛ لأنّ المنافي لا يقع صحيحاً بعد وقوع منافيه صحيحاً، وإلّا لزم صحّة المتنافيين.لكنّه خارج عن محلّ البحث؛ إذ الكلام في مجرّد العقد على الإباحة كالعقد على الملكية، واللزوم والجواز حكمان شرعيّان».
ويمكن توضيح ذلك ببيان آخر: أنّ البحث في
أصل اقتضاء الإباحة بعوض- بناءً على كونها عقداً والتزاماً بالإباحة في مقابل العوض- للّزوم تكليفاً ووضعاً أو تكليفاً فقط، يبتني على تحليل حقيقة الإباحة العقديّة، كما أشرنا إليه فيما تقدّم.
فإذا كانت بمعنى الالتزام بالإباحة على غرار الالتزام بالأفعال بأن يرضى ويبيح له التصرّف في ماله ما دام المال له أو في مدّة معيّنة فهذا غايته اللزوم تكليفاً، أي وجوب الإباحة والإذن للطرف الآخر، وأمّا إذا رجع عن إذنه وإباحته أو أراد منعه عن التصرّف كان جائزاً وضعاً، أي مؤثّراً، فترتفع الإباحة، ولكنّه محرّم عليه تكليفاً؛ لأنّه على خلاف التزامه بأن يبيحه له في تمام تلك المدّة.وإن كانت الإباحة العقديّة
إنشاءً للإباحة والمأذونية على غرار إنشاء النتائج الوضعية الاعتبارية، أي أن يكون الطرف الآخر مأذوناً في التصرّف والمال مباحاً له، نظير الالتزام بكونه وكيلًا بنحو شرط النتيجة، كانت الإباحة لازمة وضعاً وتكليفاً، فلا يؤثّر منعه أو رجوعه في ارتفاع المأذونية والإباحة ما دام المال ملكاً له.
فالمسألة مرتبطة بهذا التخريج
والتحليل للإباحة العقديّة، فمن يرى صحّته وعقديّته كان مقتضى دليل وجوب الوفاء بالعقود و «المسلمون عند شروطهم» لزوم هذا العقد وعدم تأثير رجوع المبيح في زوال الإباحة، ولا ينافيه دليل السلطنة؛ لأنّه كان بإرادة المالك وإنشائه.وإن شئت قلت: من حيث إنّه ملك للمبيح وإن كان له أن يرجع إلّا أنّه من حيث إنّه إنشاء والتزام من قبله نافذ وضعاً وتكليفاً، فلا أثر لرجوعه، ودليل السلطنة لا ينفي هذه الحيثيّة.ثمّ إنّه بناءً على التخريج والتفسير الأوّل للإباحة العقديّة إذا رجع المالك عن إباحته كان للطرف الآخر الرجوع بالعوض أيضاً لتخلّف الشرط؛ لأنّ تمليكه العوض كان مشروطاً بالإباحة.
نعم، قد يقال: بأنّ له أن يرجع بالعوض بالنسبة لا بتمامه، فإذا كان قد استوفى المنفعة وتصرّف بسكنى الدار مثلًا في نصف المدّة ثمّ رجع المالك عن إباحته كان له أن يرجع بنصف العوض لا أكثر؛ لأنّ الشرط المذكور
انحلالي .ثمّ إنّ نفس النتائج المترتّبة بناءً على كون الإباحة المعوّضة إباحة عقديّة بالتفسيرين المتقدّمين تترتّب على القول
بإرجاعها إلى عقد الجعالة بأن يجعل المبيح لمن يملّكه العوض إباحة التصرّف في ماله، فإنّه في طول تمليك العوض تكون الإباحة نافذة وحاصلة، فإن كانت بالنحو الأوّل كان رجوع المبيح رافعاً لها وضعاً ومحرّماً تكليفاً، وإن كانت بالنحوالثاني لم يكن نافذاً حتى وضعاً.
نعم، يختلف فرض الجعالة عن العقد المستقلّ بين الإباحة والعوض في لزوم الأمرين على المتعاملين في العقد المستقلّ بمجرّد إنشاء العقد، بخلافه في
الجعالة ؛ فإنّه لا لزوم على المجعول له كما لا لزوم على الجاعل، إلّا في طول تحقّق العمل من المجعول له، وهو التمليك للعوض في المقام.
۲- وبناءً على التخريج الثاني للإباحة المعوّضة أي كونها إباحة معلّقة على تمليك العوض تكون الإباحة مجّانية، ولكنّها مترتّبة على تحقّق عنوان أو عمل وهو تمليك الطرف للعوض، فيجوز للمبيح الرجوع كما هو الحال في سائر موارد الإباحة والإذن بتصرّف الغير، فلا التزام له بشيء، كما أنّ تمليك العوض من الطرف الآخر ليس إلّا هبة مجّانية بحاجة إلى قبض
وإقباض ، كما أنّ له الرجوع فيها إذا كان لغير ذي رحم.
۳- وبناءً على التخريج الثالث أي كونها إباحة مقيّدة بالتزام الآخر بتمليك العوض وإنشاء ذلك، فإن كان المبيح أيضاً ملتزماً بالإباحة رجع إلى التخريج الأوّل وكان التزاماً في مقابل التزام، وهو عقد كما أشرنا.وإن لم يكن التزام بالإباحة من قبل المبيح، بل كانت إذناً وإباحة فعليّة ولكن مشروطة ومعلّقة على التزام الآخر بتمليك العوض كما في الشروط ضمن العقود بحيث لو لم يلتزم فلا إذن وإباحة، فقد تقدّم من بعض الأعلام جعل مثل هذا الالتزام الشرطي مشمولًا لعموم «المسلمون عند شروطهم»؛ لأنّه ليس شرطاً والتزاماً ابتدائيّاً، بل قيد وشرط للإباحة، فيكون نظير الشرط ضمن العقد أو
الإيقاع ، فتكون الإباحة جائزة، ولكن شرط التمليك للعوض على تقدير الإباحة يكون لازماً وواجب الوفاء، فيكون اللزوم من قبل المملّك لا المبيح.
وإن كان على تقدير عدم الإباحة أو الرجوع فيها يجوز للمملّك أيضاً عدم العمل بالشرط؛ لأنّ الشرط كان على تقدير الإباحة لا مطلقاً.
وحينئذٍ فإن كان هذا
الاشتراط بنحو شرط النتيجة أي التزام بملكية العوض تحقّقت الملكية بنفس هذا الشرط واستحقّه المبيح وملكه عليه، فلا حاجة إلى تمليك آخر كما لا حاجة إلى قبض وإقباض؛ لأنّ التمليك بالشرط لا بعقد الهبة، فيكون لازماً عليه، ولا يصحّ فيه الرجوع ما لم يرجع المبيح عن إباحته.وإن كان الاشتراط بنحو شرط الفعل وجب عليه التمليك وكان هبة فيملكه المبيح في طول الإقباض.كما أنّه يجوز للمملّك الرجوع وضعاً لا تكليفاً إذا كان لغير ذي رحم متى شاء، بخلافه على الأوّل كما أشرنا، فما تقدّم عن بعض الأعلام من التسوية بين النحوين للاشتراط غير دقيق.
وقد يناقش في أصل صحّة مثل هذا الاشتراط ولزومه وشمول دليل وجوب الوفاء بالشرط له؛ لأنّه من الشرط الابتدائي لا ضمن عقد أو إيقاع؛ إذ المراد بالشرط ما يكون قيداً وشرطاً لالتزام عقدي أو إيقاعي،
والإذن أو الإباحة بحسب الفرض ليس التزاماً من قبل المبيح، وإنّما مجرّد رضا وطيب النفس بتصرّف الغير وإن كان مقيّداً ومشروطاً بالالتزام الشرطي المذكور.ويمكن أن يجاب: بأنّ عموم «المسلمون عند شروطهم» يشمل كلّ شرط، وإنّما قيل بخروج الشرط الابتدائي إمّا من باب
الإجماع أو من جهة أنّ عنوان الشرط ظاهر في كون الالتزام شرطاً وقيداً لإنشاء أو التزام آخر. وكلا الأمرين غير جاريين في محلّ الكلام:
أمّا الإجماع، فلاختصاصه بالشرط الابتدائي المحض الذي هو كالوعد، وليس المقام كذلك بل هو التزام في مقابل الإباحة ومن أجلها.
وأمّا
الاستظهار ، فهو شامل لمحلّ الكلام؛ إذ الالتزام بتمليك العوض قد وقع قيداً وشرطاً لإباحة المبيح ماله لصاحب العوض، فهو التزام وقع شرطاً في إنشاء الإذن
والإباحة ، فيكون على غرار الشروط الضمنيّة في العقود أو الإيقاعات الاخرى.
۴- وبناءً على التخريج الرابع للإباحة المعوّضة أيضاً لا لزوم للإباحة على المبيح، كما لا
استحقاق للعوض ابتداءً وقبل التصرّف
والاستيفاء ، وإنّما يستحقّه المبيح باستيفاء المباح له، إمّا على أساس كونه عقداً وتوافقاً كذلك بينهما، أو على أساس تبدّل ضمان الغرامة بالمسمّى ابتداءً بذلك عند العقلاء، وقد أمضاه الشارع أيضاً، فيكون بعد الاستيفاء لازماً على المستوفي على كلّ حال. وإن كان اللزوم على تقدير كونه عقداً لزوماً عقديّاً معامليّاً وعلى تقدير كونه حكماً عقلائيّاً لزوماً حكميّاً، ولكلٍّ منهما آثاره وأحكامه الخاصّة يراجع فيه بحث (خيار، لزوم).
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۱۷۳-۱۸۰.