الإغماء (أثر الإغماء في العقود والإيقاعات)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الإغماء (توضيح).
يشترط في
صحّة المعاملات والتصرّفات الإنشائية -
عقداً أو
إيقاعاً -
الأهلية ، أي كون المنشئ
عاقلًا قاصداً للإنشاء، فلا يصحّ عقد
المجنون وإيقاعه، وكذا
المغمى عليه والنائم ،
فلو طلّق أو أجرى
صيغة البيع أو
النكاح ونحوهما حال الجنون أو الإغماء أو النوم، فلا أثر لما أجراه في هذه الحالات ويكون
باطلًا ، وفيما يلي التفصيل.
ذكر الفقهاء بأنّه يشترط في المتعاقدين
البلوغ والعقل والاختيار ، فلا يصحّ
بيع المجنون ولا المغمى عليه،
ولو رضي بما فعل بعد
زوال عذره
بلا خلاف فيه،
بل ادّعي عليه
الإجماع ؛
لأنّه لا
قصد له فلا يصح عقده، ولأنّه يكون فاقد العقل المعتمد به في
التكاليف الشرعية .
واستدلّ له بقوله تعالى: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ».
وبما رواه
سماعة عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام- في
حديث - أنّ
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من كانت عنده
أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم امرئ
مسلم ولا
ماله إلّا
بطيبة نفسه ».
ولا فرق في ذلك بين البيع وسائر
العقود كما صرّح به جماعة من
الفقهاء .
ولا خلاف بين الفقهاء
بأنّه لو صدر
الإيجاب من المكلّف ثمّ اغمي عليه قبل صدور
القبول من الآخر بطل حكم الإيجاب، فلو قبل بعد ذلك كان لغواً؛
لأنّ
العقد اللازم قبل
تمامه يكون بمنزلة
الجائز ، يجوز لكلّ منهما
فسخه ويبطل بما يبطل به الجائز.
ونوقش فيه بأنّه لا دليل على
بطلانه إلّا ما يظهر من دعوى الإجماع عليه، مع أنّه لا
مانع من
صحّة العقد لو عرض
الجنون أو
الإغماء بعد الإيجاب، ثمّ حصل القبول بعد زوالهما من غير حاجة إلى تجديد إيجاب آخر؛ لصدق حصول
العقد الشرعي المشتمل على الإيجاب والقبول.
واستدلّ له في
الجواهر بأنّ ظاهر أدلّة شرطية
القصد والرضا ونحوها في العقد اعتبار ذلك في تمام العقد الذي هو عبارة عن الايجاب والقبول لا ايجاب وحده، فإذا ارتفعت القابلية بعد الايجاب قبل القبول لم يحصل الشرط في تمام العقد.
وظاهر
الشيخ الأنصاري الاستدلال عليه بتوقف معنى
المعاقدة والمعاهدة على ذلك.
وقال
السيد الخوئي معلّقاً على قول
السيد اليزدي : (يشترط
بقاء المتعاقدين على
الأهلية إلى تمام العقد، فلو أوجب ثمّ جنّ أو اغمي عليه قبل مجيء القبول لم يصحّ)
: «الكلام في هذه المسألة يقع في جهات:
فيما ذكره الشيخ الأنصاري من اعتبار أهليّة القابل للقبول حين الإيجاب.
في اعتبار اتّصاف الموجب بالأهليّة حين صدور القبول من القابل.
في اعتبار
استمرار أهليّة الموجب من حين الإيجاب إلى حين صدور القبول بحيث لا تتوسّط بينهما حالة عدم الأهليّة له.
أمّا الجهة الاولى والثالثة فهما ممّا لا دليل عليهما؛ لأنّ عنواني المعاهدة والمعاقدة المعتبرين في العقود إنّما يتوقّفان على أهليّة القابل للقبول حين القبول خاصّة، ولا يتوقّفان على أهليّته له حين الإيجاب، وكذا توسّط حالة عدم الأهليّة بين حالتي الأهليّة في حين الإيجاب والقبول لا يضرّ بصدق المعاقدة والمعاهدة.
وأمّا الجهة الثانية فالظاهر أنّه لا ينبغي
الإشكال في اعتبار بقاء الموجب على أهليّته حين صدور القبول من الطرف الآخر، باعتبار أنّ ارتفاع أهليّته يستلزم سقوط
التزامه وزواله، وبه لا يتحقّق عنوان المعاهدة والمعاقدة، فإنّ تحقّقه يتوقّف على انضمام أحد الالتزامين بالآخر، فإذا فرض ارتفاع التزام الطرف الأوّل-
بالموت أو الجنون أو الإغماء- نتيجة عدم أهليّته له حين صدور الالتزام من الآخر لم يكن لالتزام الآخر أثر بالمرّة».
ذكر بعض
الفقهاء أنّه إذا اغمي عليه بعد تمامية العقد، فإن كان من العقود اللازمة-
كالبيع والنكاح والإجارة ونحوها- فلا يشترط في بقاء أثرها استمرار
الإفاقة وعدم الإغماء من أحد المتعاقدين، فإذا تمّت شرائط صحّة العقد حين وقوعه فقد تمّ وترتّبت عليه آثاره وإن اغمي على أحد المتعاقدين بعده.
وإن كان العقد من العقود الجائزة
الإذنية - أي العقود التي تكون عبارة عن مجرّد إذن أحدهما للآخر في أمر من الامور
كالوكالة والعارية والوديعة وغيرها- فليس التزام من أحدهما بالوفاء والبقاء عند
المعاوضة والمبادلة في البين، وقوامها بالإذن فقط، فإذا فسخ وارتفع الإذن فلا يبقى شيء في البين، فعلى هذا فلو مات أحدهما أو اغمي عليه يبطل العقد.
قال
الشهيد الثاني في الوديعة: «لا خلاف في كون الوديعة من العقود الجائزة، فتبطل بما يبطل به من
فسخها وخروج كلّ منهما عن أهلية
التكليف بموت أو جنون أو إغماء».
وفي الوكالة: «هذا (بطلان الوكالة بالموت والجنون والإغماء) موضع وفاق؛ ولأنّه من أحكام العقود الجائزة، ولا فرق عندنا بين طول زمان الإغماء وقصره».
وقال في
عقد المضاربة : «لمّا كان هذا العقد من العقود الجائزة بطل بما يبطل به من موت كلّ منهما وجنونه وإغمائه».
وقد نوقش في ذلك من قبل جملة من الفقهاء.
وأمّا إذا كان العقد جائزاً من طرف ولازماً من طرف آخر-
كالرهن الذي هو جائز من قبل المرتهن ولازم من طرف الراهن،
والهبة اللازمة من طرف المتّهب الجائزة من طرف الواهب في غير المعوّضة ولغير ذي الرحم- فلو نطق بالعقد ثمّ جنّ أو اغمي عليه أو مات قبل
القبض ، فقد اختلف الفقهاء على ثلاثة أقوال:
فذهب بعض إلى عدم كون القبض شرطاً في العقد، فالعقد لازم بالإيجاب والقبول، ولا يضرّ الجنون والإغماء؛
لأنّ الرهن قد ثبتت صحّته،
وإبطاله يحتاج إلى شرع وليس في الشرع ما يدلّ عليه.
وذهب آخرون إلى اشتراط القبض، ولكن قالوا بأنّ القبض شرط في الصحّة، فلو اغمي عليه قبل القبض لا يصحّ؛
لأنّ القبض جزء
السبب فهو بدون إذن الراهن غير مستحقّ؛ إذ لم تحصل الرهانة إلى الآن فهو
ظلم وعدوان .
واختار ثالث بأنّ اشتراط القبض شرط في لزوم العقد، فلو اغمي عليه قبل القبض فالعقد صحيح ولكنّه غير لازم كبيع
الخيار .
وهكذا الكلام في الهبة، فذهب بعض إلى أنّ القبض شرط في اللزوم، فلو مات أو جنّ أو اغمي عليه صحّت الهبة؛ لأنّه عقد يقتضي
التمليك ، فلا يشترط في صحّته القبض كغيره من العقود.
وذهب آخرون إلى أنّ القبض شرط في صحّته، فلو مات الواهب أو جنّ أو اغمي عليه لم تصحّ الهبة ويبطل؛
لأنّه
ركن لها.
وأمّا
الصرف والسلم فقد أفتى الفقهاء بأنّ القبض شرط فيهما، ولولا القبض لما صحّ عقده، فلو مات البائع أو
المشتري أو اغمي عليه قبل القبض بطل العقد.
ذكر جملة من الفقهاء أنّ
الشركة من العقود الجائزة،
ورتّب بعضهم على ذلك فسخها بإغماء كلّ من الشريكين أو أحد الشركاء.
والمراد من بطلان الشركة وفسخها هو بطلان الإذن في
التصرّف ، لا بطلان أصل الشركة؛ وذلك لأنّ الشركة في معنى
الوكالة ، بل هي وكالة في التحقيق، وحينئذٍ فتنفسخ بإغماء كلّ من الشريكين أو أحد الشركاء؛ لبطلان الوكالة.
قال
الشهيد الثاني في شرح قول
المحقّق الحلّي : ويبطل الإذن (أي إذن الشريك)
بالجنون والموت : «لبطلان الوكالة بهما»، ثمّ قال: «وفي معناهما الإغماء
والحجر للسفه والفلس ».
وقال
المحقق النجفي عطفاً على كلام المحقّق المزبور: «والإغماء وغيرهما ممّا تبطل به العقود الجائزة»، ثمّ قال: «بخلاف أصل الشركة فإنّها لا تبطل بشيء من ذلك. نعم، ينتقل أمر القسمة إلى
الوارث أو
الولي أو غيرهما».
وقال
السيد الحكيم : الوجه في
الحكم ببطلان الشركة في الموت ظاهر؛ لانتقال
المال إلى الوارث فلا يجوز التصرّف بغير إذنه، وأمّا في الجنون والإغماء فغير ظاهر لولا ظهور الإجماع، وكما أنّ الإذن لا تبطل
بالنوم ، لا تبطل
عرفاً بالإغماء والجنون والسفه، وإذا شكّ
فالاستصحاب كاف في ترتيب الأحكام.
وقال
السيد الخوئي : «فإنّ حكم المجنون حكم
الحيوانات من حيث
فقدانه الأهلية ، وحيث إنّ جواز
التصرّف متوقّف على
الإذن بقاءً، وهو منتفٍ في المقام؛ نظراً لانعدام أهليّته، فلا محيص عن
الالتزام ببطلان الشركة وعدم
جواز تصرّف الآخر في المال المشترك».
ثمّ قال: «فإنّه (الإغماء) ملحق بالجنون، فإنّه لا يقاس بالنائم- على ما هو المتسالم عليه بينهم- فإنّ الإذن السابق لا أثر له، واللاحق ساقط عن
الاعتبار ؛
لانتفاء أهليّة المجيز».
ويبحث فيه تارةً عن إغماء
الموصي واخرى عن إغماء الوصي.
أمّا إغماء الموصي فقد ذكر جملة من الفقهاء أنّه إذا أوصى حال إغمائه لا تصحّ وصيته، أمّا لو أوصى ثمّ جنّ أو اغمي عليه لم تبطل وصيّته
وإن استمرّ إلى الموت.
قال
السيد الخوئي : «لا تصحّ وصيّة المجنون والمغمى عليه
والسكران حال جنونه وإغمائه وسكره، وإذا أوصى حال عقله ثمّ جنّ أو سكر أو اغمي عليه لم تبطل وصيّته».
واستدلّ له:
۱-
بالأصل .
۲- وبظهور صحيح
أبي ولّاد عن
الإمام الصادق عليه السلام في وصيّة
القاتل لنفسه: «إن كان أوصى قبل أن يحدث حدثاً في نفسه من
جراحة أو قتل اجيزت وصيّته في ثلثه»
باعتبار ظهوره في صحّة الوصيّة مع تعقّبها بالفعل المانع من التصرّف، فكذلك غيره من الموانع.
۳- وبأنّ اعتبار
العقل إنّما هو حال
إنشاء الوصيّة ولا يعتبر
استمراره ،
وقد نسب ذلك إلى الأصحاب.
وأمّا إغماء الوصي فقد وقع الخلاف في أنّ الصفات المعتبرة في الوصي من
البلوغ والعقل
والحرية ، هل هي معتبرة حال الوصية، أو حين
وفاة الموصي، أو من حين الوصيّة إلى حين الوفاة، أو إلى حين نفوذ الوصيّة وانتهائها، أو من حين الوفاة إلى حين
الانتهاء ؟
وتفصيل ذلك موكول إلى مصطلح (وصيّة).
وما نحن بصدده الآن هو عروض الإغماء للوصي بعد تماميّة الوصيّة وصيرورته وصيّاً.
قال
المحقق النجفي : «إنّما البحث في
انفساخ الوصيّة بعروض ذلك بعد الوفاة فلا تعود حينئذٍ، وعدمه- وإن كان لا تصرّف له حينئذٍ، بل أقصاه قيام
الحاكم - مثلًا- مقامه، فإذا زال العارض عادت
ولايته ، كالأب الذي اعتراه الجنون ثمّ زال، فإنّه لا تنقطع بذلك ولايته على ولده الصغير- احتمالان، بل الثاني منهما لايخلو من قوّة».
ثمّ نَسَب إلى بعضهم المفروغيّة من
بطلان الوصاية بذلك.
ذكر
الفقهاء أنّه لا يصحّ
طلاق المغمى عليه؛
لعدم
القصد .
وقد ادّعي
استفاضة النصوص على أنّه لا طلاق له، منها:
رواية السكوني عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «كلّ طلاق جائز إلّا طلاق
المعتوه أو
الصبي أو
مبرسم (البرسام: علّة يُهذَى فيها صاحبها، وهو المبرسم.)
أو
مجنون أو
مكره ».
قال جماعة من الفقهاء: إنّه لا يصحّ طلاق
الولي عن المغمى عليه.
وقال
المحدث البحراني : «ظاهر الأصحاب
الاتّفاق على عدم
جواز طلاق الوليّ عنه؛ لعدم الدليل على ذلك»، ولأنّ له أمداً قريباً إلى
الإفاقة ، فهو
كالنائم .
وقال
السيد السيستاني : «وأمّا المجنون الأدواري فلا يصحّ طلاق الولي عنه وإن طال دوره بل يطلّق هو حال إفاقته، وكذا السكران والمغمى عليه فإنّه لا يصحّ طلاق الولي عنهما، بل يطلّقان حال إفاقتهما».
ذكر الفقهاء أنّ من جملة
العيوب التي توجب
فسخ النكاح الإغماء المستقرّ الذي لا يزول، وأمّا الإغماء العارض
لمرض كغلبة المرّة ونحوها فلا يوجب الفسخ.
قال
الشيخ الطوسي : «إن غلب على عقله لمرض فلا خيار، فإن برئ من مرضه فإن زال الإغماء فلا كلام، وإن زال المرض وبقي الإغماء فهو كالجنون، فلصاحبه
الخيار ».
وقال
المحقّق الحلّي : «لا يثبت الخيار مع
السهو السريع
زواله ، ولا مع الإغماء العارض مع غلبة المرّة (أي أحد
الأخلاط الأربعة )،
وإنّما يثبت الخيار فيه مع
استقراره ».
الموسوعة الفقهية، ج۱۵، ص۲۲۷-۲۳۵.