إيجار المستأجر العين لآخر
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
اتفقت
الإمامية على جواز
إجارة ما استأجره المستأجر ثانياً لشخص آخر فيما لو لم يشترط المالك عدم الإجارة. قال
ابن زهرة : «إذا ملك المستأجر
التصرّف بالعقد جاز أن يملكه لغيره على حسب ما يتفقان عليه من زيادة أو نقصان. اللهم إلّا أن يكون استأجر الدار على أن يكون هو الساكن، والدابّة على أن يكون هو الراكب، فإنّه لا يجوز- والحال هذه- إجارة ذلك لغيره على حالٍ بدليل
الإجماع المشار إليه».
وهذا هو الموافق لمقتضى القواعد؛ لما تقدم من أنّ الإجارة إمّا تمليك للمنفعة أو تسليط على العين
للانتفاع بها، وهو لا يتوقف على ما يزيد عن ملك المنفعة أو الانتفاع، بل لا يشترط الملك الوضعي، وإنّما يكفي السلطنة وملك التصرف كما مرّ في إجارة الأعمال.
هذا مضافاً إلى
الروايات الكثيرة الواردة في جواز الإجارة بالأكثر أو المساوي، كما سيأتي البحث عنها.
ويشترط
إذن المالك في تسليم العين للمستأجر الثاني لو لم يتوقّف الانتفاع بالرقبة على وضع اليد عليها عرفاً،
وأمّا إذا توقّف استيفاء المنفعة على مباشرة الرقبة ففي تسليم العين مع إذن المالك وعدمه ثلاثة أقوال:
ما ذهب إليه المشهور
من جواز
التسليم بلا حاجة إلى إذن المالك.
عدم جواز ذلك بدون إذن المالك، فلو سلّم المستأجر ضمن، وهو ظاهر
الشيخ والحلّي ،
كما أنّه مختار العلّامة في بعض كتبه قال: «يجوز مع عدم الشرط أن يؤجر لمثله أو أقلّ ضرراً سواء كان قبل القبض أو بعده، وسواء كان المستأجر هو المؤجر أو غيره، ويضمن العين بالتسليم إلى المستأجر الثاني»،
وكذا
المحقق الثاني ،
وتبعهما
المحقق النجفي في الجملة.
التفصيل بين التسليم إلى أمين فيجوز من غير ضمان فيه، وبين التسليم إلى غير أمين فلا يجوز بلا إذن من المالك، ذهب إلى ذلك بعض الأعلام.
واستدلّ لعدم جواز التسليم بأنّ تمليك المنفعة لا يقتضي جواز أخذ الرقبة بلا إذن المالك، فتبقى قاعدة احترام مال الغير بحالها؛ لعدم توقّف جواز الإجارة على جواز التسليم،
مضافاً إلى عدم اناطة الإجارة الثانية بإذن المالك ليكون الإذن فيها إذناً في لوازمها، كما أنّ عدم
الضمان في الإجارة الاولى ليس لوجوب التسليم والتسليط على العين ليكون حال الإجارة الثانية حال الاولى، بل المناط إقدام المالك وهو مفقود بالنسبة إلى الإجارة الثانية؛ لعدم ارتباطها به كما هو واضح.
ومن هنا قال
المحقق الاصفهاني : إنّ الحكم بجواز التسليم وعدم الضمان على خلاف القاعدة، وإنّما ثبت الحكم بذلك بمقتضى إطلاق الأخبار الدالّة على جواز الإجارة بأكثر من الاجرة الاولى أو أقل منها أو بما يساويها،
وخصوص صحيحة
علي بن جعفر عن أخيه
أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن رجل استأجر دابة فأعطاها غيره فنفقت ما عليه؟ قال:
«إن كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامن، وإن لم يسمِّ فليس عليه شيء».
هذا، ولكن ظاهر أكثرهم موافقة جواز التسليم وعدم الضمان بمقتضى القاعدة؛ إذ لا معنى لتمليك المنفعة من دون إقباض وتصرّف في العين؛ لعدم منفعة في البين بدونه، وحينئذٍ يكون الاستئمان في العين من مقتضيات نفس عقد الإجارة.
مضافاً إلى أنّ مقتضى إطلاق الإجارة الاولى- من حيث
الاستيفاء المتوقّف على
الاستيلاء على العين عادة- الإذن من قبل المالك في الاستيلاء على الرقبة مطلقاً ولو كان ذلك من خلال استيفاء الغير ما لم تكن قرينة على التقييد في البين.
فلا وجه حينئذٍ لمنع مالك المنفعة من استيفائها بنفسه أو بسبب تمكين الغير من الاستيفاء مجاناً أو في قبال عوض، أميناً كان أم لا، فإنّه خلاف سلطنته على ملكه.
نعم يكون ضامناً
للإتلاف سواء كان ذلك من قبله أو من قبل غيره إن كان بلا إذن من المالك، كما أنّه لا فرق في ذلك بين الأمين وغيره.
وأمّا التلف من دون تعدّ أو تفريط فلا ضمان فيه ولو كان المستأجر
جائراً ، إلّا مع اشتراط المالك عدم الدفع إلى الغير.
وعليه فلا وجه للتفصيل بين التسليم إلى أمين أو إلى
خائن ، بدعوى
أنّ الإجارة وتمليك المنفعة يستلزمان الاستيلاء على الرقبة للمستأجر على نحو
الاستئمان لا أزيد، ومقتضى ذلك عدم جواز التسليم إلى الخائن، فإنّ الاستئمان يقتضي رفع ضمان التلف مطلقاً.
نعم، لو استظهر- ولو بمقتضى ارتكاز أو ظهور عرفي- اشتراط حفظ العين وعدم التفريط فيه من قبل المستأجر، وكان نفس دفع العين إلى غير الأمين نحو تفريط في العين ومشمولًا للمنع الارتكازي المزبور صحّ التفصيل المتقدم حينئذٍ،
إلّا أنّه ينبغي عندئذ الحكم بثبوت حق
الفسخ أيضاً للمؤجر؛ لتخلّف الشرط، بل
وبطلان الإجارة الثانية من غير الأمين على قول؛ لاشتراط عدمه في الإجارة الاولى ضمناً، وسيأتي البحث عنه.
وقد يستدلّ للتفصيل المذكور
بمصحّح
الصفّار قال: كتبت إلى
الفقيه في رجل دفع ثوباً إلى القصّار ليقصّره فدفعه القصار إلى قصّار غيره ليقصّره فضاع الثوب هل يجب على القصّار أن يردّه إذا دفعه إلى غيره وإن كان القصّار مأموناً؟
فوقّع عليه السلام: «هو ضامن إلّا أن يكون ثقة مأموناً إن شاء اللَّه»،
ونحوه ما في ذيله من مكاتبة
محمد بن علي بن محبوب .
وهذا الاستدلال مبني على أنّ المراد بالثقة المأمون القصّار الثاني لا الأوّل.
لكنّه خلاف الظاهر ولا أقلّ من
الإجمال .
تارة يكون شرط المباشرة موجباً لتقييد المنفعة كاستئجار دابة لركوبها بنفسه واخرى يكون متعلّق الإجارة- أي المنفعة- مطلقاً إلّا أنّه مشروط باستيفاء المستأجر بنفسه أو بعدم الإجارة من غيره.
فالإجارة الثانية لا كلام في عدم جوازها تكليفاً مع شرط المباشرة بأي نحو من الأنحاء.
وأمّا
حكمها الوضعي أي صحتها ففيه تفصيل:
إذا كان متعلّق الإجارة مقيّداً بانتفاع المستأجر- أي خصوص الحصة الخاصة من المنفعة وهي انتفاع المستأجر مباشرة- وبطلان الإجارة الثانية في هذه الحالة هو المشهور؛ لعدم ملكية المستأجر لمورد الإجارة الثانية حتى يملّكه إلى الغير إلّا أنّه لا بد من تقييده
بما هو الغالب من أنّ الغرض من الإيجار للغير هو انتفاع الغير به.
أمّا إذا كان الغرض من إجارة ما استأجره للغير انتفاع المستأجر الأوّل فلا محذور في الإجارة الثانية؛ إذ العبرة في ملاحظة التقييد بالاستيفاء الخارجي لا بالملكية، فمتى كان المستوفي هو المستأجر المذكور فقد روعي التقييد، وذلك كما لو استأجرت الزوجة داراً لتسكنها بنفسها فآجرتها لزوجها ليسكنها فيها. فإنّ الاجارة الثانية لا تنافي التقييد المزبور؛ إذ المتصدي للسكونة هي الزوجة بالنتيجة، غايته إنّ
الملكية كانت لها أيضاً فصارت لغيرها ولا ضير فيه بوجهٍ.
إذا كان منع المالك بنحو اشتراط استيفاء المنفعة بنفسه ولنفسه، أي يكون هو المباشر للاستيفاء والمنفعة راجعة إليه بأن يحمل على الدابة متاع نفسه لا متاع الغير، وقد ألحق جماعة من الفقهاء
ذلك بصورة التقييد أيضاً- الصورة السابقة- كما يستفاد من عبارة المسالك حيث قال: «وما ذكره المصنّف من منع إجارة غيره إذا شرط عليه الاستيفاء بنفسه ينبغي تقييده بما إذا لم يشترط المستأجر الأوّل على الثاني استيفاء المنفعة له بنفسه على جهة
الوكالة ؛ إذ لو شرط ذلك لم يقدح في صحّة الإجارة؛ لعدم منافاته لشرط الاستيفاء بنفسه، فإنّ استيفاءه بنفسه أعم من استيفائه لنفسه».
ومستند الحاق الاشتراط بصورة التقييد إمّا رجوع القيود في المنافع والأعمال إلى التقييد في متعلّق الإجارة حقيقة وإن ابرزت بلسان الشرط، أو لحوق الشرط بالتقييد حكماً لامتناع الجمع بين وجوب الوفاء بعقد الإجارة الثانية ووجوب
الوفاء بالشرط الواقع ضمن الإجارة الاولى، وحيث إنّ المفروض صحة الشرط فلا يبقى حينئذٍ مجال للوفاء بالعقد الثاني.
أو من جهة أنّ
التصرف المخالف للشرط باطل؛ لكونه مفوّتاً لحق الشرط.
أو من جهة
حرمة المنفعة في الإجارة الثانية؛ لكونها مخالفة للشرط الواجب، قال
السيد الحكيم : «إنّ بطلان الإجارة في هذه الصورة ليس من جهة نفي
السلطنة على الإجارة بل من جهة حرمة المنفعة».
وهذه الوجوه كلّها قابلة للمناقشة فالقائل بصحة الإجارة الثانية يقول: إنّ هذا الشرط لا يرجع إلى التقييد في المنفعة حقيقة، خصوصاً في إجارة الأعيان التي يكون متعلّق الإجارة والتمليك فيها منافع الأعيان الخارجية، كما لا يرجع إليه حكماً إمّا لعدم التنافي بين الشرط والإجارة الثانية إذا كان انتفاع المؤجر بنفسه معها ممكناً ولم تكن الإجارة الثانية على خصوص انتفاع المستأجر الثاني أو لأنّ مفاد أدلّة العقود هو الإرشاد إلى صحة ما يعتبره المتعاقدان، وهذا ما لا يتنافى مع وجوب العمل بالشرط تكليفاً، بل غايته ثبوت
الخيار على تقدير التخلّف.
كما أنّ الاشتراط لا يوجب حقّاً وضعياً للمشروط له لكي ينافي صحة التصرفات المنافية للشرط، على ما حقق في محله من بحث الشروط الضمنية.
وأمّا استلزام الشرط لحرمة المنفعة فأُجيب عنه بأنّ متعلّق الاشتراط استيفاء المنفعة بنفسه لنفسه، وهذا لا يستلزم إلّا حرمة مخالفة الشرط- أي عدم الاستيفاء بنفسه لنفسه- لا حرمة المنفعة على الغير؛ لعدم سريان الحرمة من أحد المتلازمين إلى الآخر.
ولو فرض رجوع مثل هذا الاشتراط إلى المنع عن تسليم العين للغير فغايته حرمة التسليم عليه، وهو فعل المؤجر لا التسلّم الذي هو فعل المستأجر، فلا يوجب بطلان الإجارة
.
نعم لو رجع الاشتراط إلى عدم رضا المالك بانتفاع الغير ولو باستيفاء المستأجر الأوّل ومباشرته كان هذا معناه التقييد وتعلّق الإجارة بخصوص انتفاع المستأجر الأوّل، فرجع إلى الصورة الاولى فيكون البطلان من جهة عدم الملك لا الحرمة.
إذا كان شرط المالك هو استيفاء المستأجر بنفسه، بمعنى مباشرته العين بنفسه ولو بما ينتفع به الغير كحمل متاع الغير على الدابة.
وقد حكم بعض
الفقهاء في هذه الصورة بصحة الإجارة الثانية إذا كان المباشر للاستيفاء المستأجر الأوّل كما إذا حمل متاعه بنفسه على الدابة، قال
السيد اليزدي : «نعم لو اشترط استيفاء المنفعة بنفسه ولم يشترط كونها لنفسه جاز أيضاً إجارتها من الغير، بشرط أن يكون هو المباشر للاستيفاء لذلك الغير».
وأمّا إذا لم يستوف هو بل سلّمها إلى الغير فقد حكم فيه بالبطلان مبنياً على كون التصرف المخالف للشرط باطلًا؛ لكونه مفوتاً لحق الشرط.
إلّا أنّ هذا إنّما يتّجه إذا كانت الإجارة الثانية مشروطة باستيفاء المستأجر الثاني بنفسه وبمباشرته، وأمّا إذا كانت مطلقة فلا وجه لبطلانها حتى إذا فرض حرمة التسليم إليه؛ لأنّ صحتها لا تنافي ذلك، ومن هنا علّق بعض الأعلام في المقام بقوله: «الظاهر عدم بطلان الإجارة في هذه الصورة، فإنّ حرمة التسليم لا تلازم بطلان الإجارة». وأضاف: «بل الظاهر عدم البطلان مع اشتراط التسليم أيضاً، فإنّ بطلان الشرط لا يوجب بطلان العقد الواقع فيه الشرط على الأظهر».
وهذه الإضافة إنّما تصح إذا كان شرط التسليم أو استيفاء المستأجر الثاني بنفسه بنحو الاشتراط ضمن العقد لا بنحو التقييد لمتعلّق الإجارة الثانية، وإلّا كانت صحة الإجارة منافية مع حق الشرط في الإجارة الاولى أو وجوب الوفاء به، فتبطل الإجارة الثانية نفسها بناءً على أحد هذين المبنيين.
ويظهر حاله مما تقدم، فإنّه لا تجوز الإجارة معه تكليفاً بلا اشكال كما مرّ، وذهب بعضهم
إلى البطلان وضعاً.
والمسألة مبنية على اختيار أحد القولين في مفاد الشرط ضمن العقد، فعلى القول بكون الشرط مستلزماً للحق الوضعي للمشروط له يقع
الإيجار باطلًا، وأمّا على القول الآخر فالإجارة صحيحة، غاية الأمر يثبت للمالك خيار الفسخ مطلقاً،
أو فيما إذا تعسّر الزام المستأجر بالوفاء بالشرط.
وأمّا المبنى المتقدم القائل ببطلان الإجارة الثانية لمنافاة لزوم الوفاء بها مع لزوم الوفاء بالشرط في الإجارة الاولى فالقائل به لا يرى جريانه في هذه الصورة، حيث قال: «
الشرط هنا نفس عدم الإيجار، فمتى آجر فقد خالف الشرط وارتكب
الحرام ، ولا نظر للشرط إلى ما بعد الارتكاب والمخالفة، فلا مانع من الحكم بصحة الإجارة الصادرة بعد افتراض وقوعها».
إلّا أنّ هذا يجعل الشرط مجرد انشاء
عقد الإجارة للغير لا الإجارة الصحيحة وإلّا كان شمول دليل لزوم الوفاء للإجارة الثانية في كل زمان زمان منافياً مع لزوم الوفاء بالشرط ضمن الإجارة الاولى، فيقع الثاني فاسداً على هذا المبنى أيضاً.
ويظهر من
السيد البروجردي التفصيل بين اشتراط عدم الإيجار وبين اشتراط استيفاء المستأجر بنفسه، فحكم بالبطلان في الأوّل وبالصحة مع ثبوت الخيار في الثاني.
ولعلّه مبني على أنّ فعل الايجار بما هو عقد وانشاء لم يقع مورداً للاشتراط والمنع في صورة اشتراط الاستيفاء بنفسه لكي يكون ممنوعاً وضعاً، فهذا الشرط سواء كان شرطاً وجودياً أو سلبياً لا يستلزم المنع عن عقد الإيجار، كما لا يستلزم حرمة الانتفاع ولا المنفعة على الغير، بل غايته حرمة تسليم العين للغير خارجاً، وهو لا يقتضي بطلان الإجارة بوجه، وإنّما يستوجب للمالك خيار تخلّف الشرط، وهذا بخلاف شرط عدم الإيجار فإنّه يوجب سلب السلطنة عليه وضعاً. إلّا أنّ هذا التفصيل مبني أيضاً على أن يستفاد من دليل نفوذ الشرط سلب السلطنة وضعاً عن المشروط، وهو ممنوع على ما حقق في محله من بحث الشروط الضمنية.
ثمّ إنّه إذا خالف المستأجر الشرط وآجر العين من الغير ففي الصورة الاولى من الصور الأربع لا يكون له ذلك؛ لعدم ملكه لتلك المنفعة كما لا يكون للمالك خيار الفسخ؛ لرجوع الاشتراط فيها إلى تقييد متعلّق الإجارة لا الاشتراط، فلا موجب لخيار المالك، إلّا إذا استظهر عرفاً اشتراط عدم تسليم العين للغير أيضاً وهو أمر آخر.
نعم ينفتح البحث في هذه الصورة عن إمكان تصحيح الإجارة الثانية؛ بأن تكون عن المالك وعدمه، والصحيح عدم إمكانه ما لم تنفسخ الإجارة الاولى، حتى إذا قيل بملك المالك للمنافع المتضادة؛ لعدم إمكان صحة الإجارة في زمان واحد من المالك منهما معاً على كل حال كما سيأتي.
كما أنّه في صورة عدم الفسخ للاولى وبطلان الإجارة الثانية لا إشكال في ضمان المستأجر الثاني
لُاجرة المثل فيقع البحث في أنّها هل تكون للمالك أو المستأجر الأوّل؟
وهذا البحث مبتنٍ على تلك المسألة وهي ملكية المالك للمنافع المتضادة في العين، فإذا قيل بها كانت
اجرة المثل للمالك بقاعدة
الضمان مع استحقاقه
اجرة المسمى للإجارة الاولى بالعقد، ويكون المستأجر الأوّل قد فوّت على نفسه منفعته باعطاء العين للمستأجر الثاني.
وأمّا على القول بعدم ملكية المالك للمنافع المتضادة في عرض واحد فأُجرة المثل ترجع إلى المستأجر الأوّل لا من جهة ملكيته لتلك المنفعة، بل من جهة تفويت الثاني عليه المنفعة المملوكة له ولم يكن ذلك منه مجاناً، بل على وجه الضمان بعقد فاسد.
نعم لو فرض زيادة اجرة مثل المنفعة المستوفاة من قبل الثاني على المنفعة الفائتة على المستأجر الأوّل كانت الزيادة للمالك على كلّ تقدير، على ما سيأتي في بحث ضمان المنافع المتضادة.
- بناءً على عدم رجوعها إلى التقييد في متعلق الإجارة- فلا إشكال في أنّ اجرة المسمّى للإجارة الثانية على القول بصحتها تكون للمستأجر الأوّل، وكذلك اجرة مثل المنفعة التي استوفاها على القول ببطلان الإجارة الثانية؛ لكونها نفس المنفعة المملوكة للمستأجر بالإجارة الاولى، وإنّما تخلّف عن الشرط. فينفتح البحث في ثبوت خيار تخلّف الشرط للمالك وعدمه، ولا إشكال في ثبوته له سواء قيل بصحة الإجارة الثانية أو بطلانها؛ لتحقق التخلّف بحسب الفرض.
نعم قد يقال في الصورة الرابعة الأخيرة- وهي ما إذا كان الشرط عدم الإيجار من الغير- أنّه بناءً على
بطلان الإجارة الثانية لا يثبت
الخيار للمالك؛ لأنّ الشرط ترك الإجارة الصحيحة
شرعاً بالحمل الشائع لا مجرّد
الإنشاء ، فمع فرض بطلان الإجارة الثانية لم يتخلّف الشرط، بل لا يمكن أن يتخلّف أصلًا، فلا وجه للخيار.
اللهم إلّا أن يستظهر من مثل هذا الاشتراط حينئذٍ لزوم عدم الإيجار العرفي أيضاً وإن لم يكن صحيحاً شرعاً، فيكون بذلك متخلّفاً فيثبت للمالك الخيار.
وكلّما ثبت للمالك الخيار فإذا قيل ببطلان الإجارة الثانية كان له على تقدير الفسخ استرجاع العين وإرجاع المسمّى للمستأجر حتى بلحاظ المنفعة المستوفاة سابقاً وقبل الفسخ وأخذ اجرة مثل المنافع المستوفاة أو المفوّتة على المالك في تمام مدة الإجارة؛ لأنّ هذا هو مقتضى قانون الفسخ ورجوع العوضين بتمامهما بالفسخ إلى الطرفين، وهذا لا يعني أنّ الفسخ يكون من أصل العقد لا من حينه؛ بل الفسخ حتى في الإجارة يكون من حينه إلّا انّه يوجب رجوع تمام
المنفعة المعوّضة بالمسمّى لا بعضه. وهذا سيأتي مزيد توضيح له.
وإذا قيل بصحة الإجارة الثانية فلا يحق للمالك استرجاع العين لنفوذ الإجارة اللاحقة ووقوعها صحيحة في زمانها، وهي عقد لازم فيكون نظير ما إذا باع
المشتري العين قبل فسخ
البائع ببيع لازم فإنّه يرجع عليه
بالقيمة أو المثل، فكذلك في المقام يرجع المالك على المستأجر الأوّل بأُجرة مثل المنفعة المستوفاة أو الفائتة عليه في تمام المدة إلى حين انتهاء الإجارة الثانية،
ويرجع المستأجر على المالك بأُجرة المسمّى في الإجارة الاولى.
وكل هذا واضح على القاعدة.
ثمّ إنّه بناءً على القول ببطلان الإجارة الثانية مع الاشتراط المذكور وقع البحث في إمكان تصحيحها للمستأجر في الصور المتقدمة باجازة المالك ورفع يده عن شرطه وعدمه.
الظاهر عدم إمكان تصحيحها؛ بأن تكون واقعة للمستأجر ومن قبله برضى المالك، واجازته في الصورة الاولى وهي صورة التقييد لمتعلّق الإجارة؛ لعدم كون المستأجر مالكاً للمنفعة المتعلّقة للإجارة الثانية بحسب الفرض، إلّا إذا رجع
الإذن من المالك أو اجازته إلى تمليك تلك المنفعة للمستأجر الأوّل فيصير من قبيل من باع شيئاً ثمّ ملكه، فإن قلنا بصحته ولو باجازته بعد الملك على القاعدة ومن دون حاجة إلى دليل خاص صح في المقام أيضاً.
نعم بناءً على مبنى
المحقق النائيني من أنّ الإجارة الواقعة على آحاد المنافع المتضادة ترجع إلى إجارة القدر المشترك بينها مع سلب حق المستأجر عن غير ما عيّنها أمكن مع إجازة المالك أن يجيز المستأجر الإجارة الثانية لنفسه؛ لأنّها واردة على نفس متعلّق الإجارة الاولى بحسب الفرض، غاية الأمر لم يكن مع تعيين المالك له السلطنة. والحق في تلك المنفعة المضادة- وهي هنا انتفاع الغير بالعين- فإذا أجاز المالك ذلك أمكن للمستأجر إمضاء الإجارة الثانية، فتكون اجرة المسمّى له إذا لم تكن أكثر من المسمّى في الاولى، وإلّا كانت الزيادة للمالك، إلّا إذا كانت إجازته له متضمنة لرضاه بأخذ الزيادة أيضاً.
وأمّا الصور الثلاث الاخرى- والتي يكون متعلّق الإجارة فيها مطلقاً ومورد الإجارة الثانية يكون مملوكاً للمستأجر- فالظاهر صحته بذلك؛ لأنّ المانع لم يكن ذاتياً، بل من جهة حق المالك الحاصل من الاشتراط، فإذا رفع يده عنه وأجاز ورضى به صحّ
التصرف الواقع من المستأجر الأوّل؛ لوقوعه في ملكه، تمسكاً بعمومات الصحة على القاعدة، بل يمكن استفادة ذلك من بعض الروايات الخاصة أيضاً كالتعليل الوارد في
روايات نكاح العبد من دون إذن مولاه ثمّ رضي به حيث علّل ذلك بأنّه (لم يعص اللَّه وإنّما عصى سيده، فإذا أجاز جاز) بل لا يحتاج في المقام إلى الإجازة من المستأجر؛ لأنّه لم يكن المانع من جهة عدم ملكه لتعلّق الإجارة الثانية بالمنفعة المملوكة له، فعدم السبيل إلى تمليك تلك المنفعة لا يستند إلى قصور المقتضي- أعني عدم الملكية وعدم استناد العقد إلى المالك- وإنّما هو لوجود المانع وهو مزاحمته لحق الغير أو وجوب
الوفاء بشرط آخر مضاد، فإذا ازيل المانع بقاءً وسقط حق الاشتراط من قبل من له ذلك الحق فلا مانع من شمول أدلّة الصحة والنفوذ للإجارة الثانية من الآن على القاعدة، وبلا حاجة إلى الإجازة.
نعم بناءً على عدم ولاية المستأجر الأوّل على العقد واشتراط استناد العقد إلى
الولي قد يقال بحاجته إلى الإجازة بعد حصول ولايته، وهذا واضح جداً إذا كان إذن المالك
واسقاطه لحق الاشتراط قبل زمان الاستيفاء في الإجارة الثانية، وأمّا إذا كان بعده فعلى القول بأنّ المانع عن صحة الإجارة الثانية في زمان نفوذ الشرط كون استيفاء الغير محرّماً عليه فتبطل الإجارة؛ لاشتراط إباحة المنفعة في صحتها، فلا يجدي رضا المالك المتأخر في رفع الحرمة المتقدمة؛ لأنّ الواقع لا ينقلب عمّا وقع عليه.
إلّا أنّ هذا المبنى لازمه عدم صحة عقد الإجارة
الفضولي باجازة المالك المتأخرة كلما كان زمان
الانتفاع أسبق على زمان الاجازة؛ لحرمة الانتفاع بمال الغير بلا إذنه واجازته، والإجازة المتأخرة لا تنفع في قلب الانتفاع السابق عن الحرمة إلى
الاباحة . وهذا بنفسه منبّه إلى أنّ مثل هذه
الحرمة الناشئة من عدم رضا المالك لا تنافي صحة العقد باجازة المالك المتأخرة؛ لأنّه كما جاء في الرواية لم يعص اللَّه وإنّما عصى المالك فإذا أجاز جاز.
وأمّا الوجوه الاخرى للمنع فهي لم تكن تقتضي إلّا عدم إمكان شمول دليل الصحة والنفوذ للإجارة الثانية ما دام الاشتراط ضمن الإجارة الاولى نافذاً، فإذا رضى المالك وأسقط حقه في الاشتراط لم يكن مانع من شمول دليل الصحة والنفوذ للإجارة الثانية- ولو بعد إجازة المستأجر الأوّل وإمضائه للإجارة الثانية- حتى بلحاظ المنفعة المتقدمة زماناً وأثره
استحقاق الاجرة المسمّاة وترتيب آثار الملكية على العوضين من الآن بلحاظ تمام تلك المدة للإجارة، فلا لغوية ولا مانع آخر في شمول المطلقات للإجارة الثانية من الآن حتى بالنسبة إلى المنفعة السابقة، فضلًا عن المنفعة القادمة، كما أنّ إطلاق عمومات الصحة لهذه الحالة لا وجه لرفع اليد عنها بعد أن كان المحذور والمانع سواء كان شرعياً أو عقلياً لا يقتضي رفع اليد عن الإطلاقات إلّا بقدرها لا أكثر؛ فإنّ الضرورات تقدّر بقدرها.
هذا مضافاً إلى ما تقدّم من إمكان استفادة ذلك من التعليل في الروايات المتعرضة
لنكاح العبد بدون إذن مولاه بعد رضى المولى بذلك.
إلّا أنّه قد استشكل
المحقق الاصفهاني في ذلك بأمرين:
الأوّل: أنّ وجه البطلان لا ينحصر في مانعية الحق، فانّه على القول بغيره من الوجوه المانعة عن نفوذ الإجارة لا يمكن تصحيحها إلّا
بزوال نفس الشرط أو
بانحلال الإجارة الاولى لينحلّ الشرط المتقوّم به، وانحلالها- ولو
بالاقالة - موجب لبقاء الإجارة الثانية على حالها من البطلان لا خروجها عنه إلى الصحّة.
الثاني: أنّ مانعيّة الحق عن نفوذ الإجارة الثانية عقلية لا شرعيّة، وفي مثله لا يتقيد العام بغير المانع العقلي ليمكن التمسّك به بعد رفع المانع بل العقد الواجد للمانع العقلي إذا لم يعمّه العام فلا معنى لشموله فيما بعد.
وكلا الاشكالين قابلان للدفع ويظهر وجهه مما تقدم فلا نطيل.
يجوز للمالك استئجار العين التي آجرها من المستأجر من دون أن تبطل الإجارة الاولى كما صرّح بذلك جماعة من الفقهاء
-
كالشيخ وابن إدريس والعلّامة - باعتبار أهلية المؤجر كغيره لتملّك المنفعة، فلا مجال لتوهّم المناقضة في الحكم من جهة كونه مطالِباً ومطالَباً في عقد واحد من حيث إنّ التسليم مستحق على المالك، فإذا استأجر من المستأجر صار التسليم حقاً له؛ لمغايرة التسليم الذي استحقه على غيره للتسليم الذي استحقه الغير عليه، فالحيثيات متعددة.
كما لا مجال لتوهّم اجتماع ملكيتان أصلية وتبعية لمالك واحد؛ لعدم تملّك المالك المنفعة قبل استئجارها من المستأجر لا تبعاً ولا استقلالًا، وبعد الاستئجار لا يملك المنفعة تبعاً بل يملكها استقلالًا.
يجوز إجارة العين المستأجرة قبل قبضها،
ولا
كراهة في ذلك سواء كانت الإجارة على عين شخصية أو على ما في الذمة، وهذا بخلاف
البيع قبل
القبض فإنّ في بعض أقسامه كلاماً.
•
إجارة العين بزيادة، لا إشكال في أنّ مقتضى القاعدة جواز
إجارة العين المستأجرة بأُجرة تساوي الاجرة الاولى أو أقل أو أكثر منها، تمسّكاً بالمطلقات.
كما أنّه لا خلاف
في جواز الإجارة بالمساوي أو بالأقل (هذا ولكن قد يستظهر من بعض كلمات
الشيخ في
المبسوط أنّه لا تجوز الإجارة بالمساوي والأقل إلّا مع إحداث الحدث، ولكن الظاهر من
النهاية أنّ إحداث الحدث شرط في الإجارة بالأكثر لا مطلقاً).
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۱۲۷-۱۵۳.