الانحلال
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو بمعنى
الفتح والنقض والذوب في الجوامد ويأتي أيضا بمعني فسخ
العقد .
الانحلال: مصدر انحلّ من الحلّ بمعنى الفتح والنقض، يقال: حلّ العقدة يَحُلّها حلّاً، إذا فتحها ونقضها فانحلّت.
ويأتي أيضاً بمعنى الذوبان كما في كلّ جامد إذا اذيب.
استعمل لفظ الانحلال في كلمات
الفقهاء في عدّة معان، وهي:
وهذا المعنى يستعمله الفقهاء في موارد
الخيار وفسخ صاحب الخيار للعقد أو
الإقالة ، فينحلّ العقد من حين الفسخ أو الإقالة لا من
أصله ، وقد يستعمل أيضاً في موارد
بطلان العقد بقاءً لا حدوثاً.
وهذا يمكن تصوّره في موارد عديدة:
كما هو الحال في الأمر بالصلاة حيث ينحلّ هذا
الأمر إلى أوامر متعدّدة بعدد الأجزاء المكوّنة للصلاة. وكذلك الأمر بالحجّ ينحل إلى أوامر
بالإحرام و
الوقوف و
الطواف و
السعي وبقية الأعمال التي يتركّب منها الحجّ، على ما حقّق في محلّه من أنّ جميع الواجبات المركّبة المندرجة في الوجود- كالصلاة- في كلّ جزء منها حيثيّتان:
حيثية
الأمر النفسي الضمني المنبسط عليه من ناحية الأمر بالمركّب، وحيثية كونه قيداً في صحّة الجزء الآخر على ما هو مقتضى فرض
الارتباط الملحوظ بين الأجزاء.
حيث إنّ الطلب في المقام- فعلًا أو تركاً- يتعلّق بالطبيعة السارية إلى جميع أفرادها وخصوصيّاتها، فالخطاب الواحد فيها ينحلّ إلى خطابات متعدّدة في النواهي بالنسبة إلى متعلّقاتها ومتعلّقات متعلّقاتها (موضوعاتها)، وفي الأوامر بالنسبة إلى متعلّقات متعلّقاتها فقط دون متعلّقاتها إن كان لتلك الموضوعات- أي متعلّقات متعلّقات الأوامر- عموم أو
إطلاق شمولي.
أي
انفكاك العقد الواحد المتعلّق بالمركّب إلى عقود متعدّدة، وهذا إنّما يكون في المتعلّق الذي يكون قابلًا للانحلال بالنسبة إلى أجزائه الخارجية، كما لو تعلّق بأشياء متعدّدة منفصلة كلّ واحدة منها مستقلّة في الوجود، كالذي يبيع كتاباً وثوباً صفقة واحدة فينحلّ
البيع إلى بيعين حكماً:
أحدهما بيع للكتاب، والثاني بيع للثوب، وهكذا إذا تعلّق بأجزاء خارجية من
طعام واحد أو عقد من لؤلؤ أو قماش ونحوها.
والضابط فيها هو: كون أجزاء متعلّقها قابلة لتعلّق العقد بها مستقلّاً
.وسيأتي الكلام عن ذلك مفصّلًا عند الكلام في قاعدة انحلال العقد الواحد إلى عقود.
العلم الإجمالي - كما حرّر في محلّه من
علم الأصول -: علم بالجامع مع التردّد في مورده بين طرفين أو
أطراف عديدة، فهو علم مقرون بالشك في مورده، وكلّ شكّ يمثّل احتمالًا من احتمالات انطباق الجامع، ومورد كلّ واحد من هذه الاحتمالات يسمّى بطرف من أطراف العلم الإجمالي.
وهنا تجري قاعدة اصولية تسمّى بقاعدة
منجّزية العلم الإجمالي ، ومفادها:
أنّ المعلوم- وهو الجامع بين الأطراف المشكوكة- إذا كان تكليفاً لزومياً يكون منجّزاً على المكلّف بالعلم، فلا يسع المكلّف المخالفة لكلّ الأطراف ويسمّى بحرمة
المخالفة القطعية ، ولا لأحدها ويسمّى بوجوب
الموافقة القطعية للتكليف عن طريق
الاحتياط في كلّ الأطراف.
وقاعدة منجّزية العلم الإجمالي تتقوّم بعدّة أركان، فإذا توفّرت تعمل القاعدة وتؤثّر في
تنجيز التكليف ووجوب الموافقة القطعية بالاحتياط في كلّ الأطراف.
وهذه الأركان هي:
۱- وجود العلم بالجامع؛ إذ لولا العلم به لكانت الشبهة في كلّ طرف بدويّة، وتجري فيها
البراءة الشرعية .
۲- وقوف العلم على الجامع، وعدم سرايته إلى الفرد.
۳- أن يكون كلّ من الطرفين مشمولًا في نفسه- وبقطع النظر عن التعارض الناشئ من العلم الإجمالي- لدليل
الأصل العملي الترخيصي.
۴- أن يكون جريان
الأصل الترخيصي في كلّ من الطرفين مؤدّياً إلى الترخيص في المخالفة القطعية.
فإذا اختلّ أحد هذه الأركان تسقط قاعدة منجّزية العلم الإجمالي.
وتفصيل ذلك في محالّه، والمقصود هنا بيان ما يعبّر عنه في الاصول بانحلال العلم الإجمالي، والمراد به عدم وقوف العلم على الجامع، بل يسري إلى الفرد، فيعلم تفصيلًا بأنّ أحد الأطراف هو النجس ويشكّ في سائر الأطراف، أو يسري إلى علم إجمالي أصغر منه، كأن يعلم بنجاسة مائعين ضمن عشرة، ثمّ يعلم بعد ذلك إجمالًا بنجاسة مائعين ضمن هذه الخمسة المعيّنة بالذات من تلك العشرة، فتنحلّ دائرة العلم الإجمالي الأوّل بالثاني، ويسمّى ذلك بالانحلال الحقيقي للعلم، أي زواله عن الجامع وتعلّقه بطرف معيّن أو أطراف محدّدة وتكون الأطراف الاخرى مشكوكة بالشكّ البدوي، وقد يجري أصل عملي منجّز للتكليف في أحد الأطراف وهو يوجب جريان الأصل الترخيصي في الطرف الآخر بلا تعارض، ويسمّى
انحلالًا حكمياً .
فالانحلال قد يكون انحلالًا حقيقياً، كما إذا علم المكلّف إجمالًا بنجاسة أحد المائعين، ثمّ علم تفصيلًا بأنّ أحدهما المعيّن نجس، ففي مثل ذلك يختلّ الركن الثاني من أركان العلم الإجمالي، ولا يبقى العلم واقفاً على الجامع، بل يسري إلى الفرد.
وقد يكون انحلالًا حكمياً كما فيما إذا كان أحد الطرفين مجرى لأصل عملي منجّز للتكليف، ومثاله: أن يعلم إجمالًا بنجاسة أحد الإنائين، غير أنّ أحدهما كان نجساً في السابق ويشكّ في بقاء نجاسته، ففي هذه الحالة يكون
الإناء المسبوق بالنجاسة مجرى في نفسه
لاستصحاب النجاسة، لا
لأصالة البراءة أو
أصالة الطهارة ، فتجري الاصول المؤمّنة في الإناء الآخر بدون معارض، فيجوز ارتكابه.
وسمّي هذا بالانحلال الحكمي؛ لأنّ العلم الإجمالي موجود حقيقة، ولكنه لا حكم له عملياً؛ لأنّ الإناء المسبوق بالنجاسة حكمه منجّز بالاستصحاب، والآخر لا منجزية لحكمه لجريان الأصل المؤمّن فيه، فكأنّ العلم الإجمالي غير موجود.
وهذا هو محصّل ما يقال من أنّ العلم الإجمالي إذا كان أحد طرفيه مجرى لأصل مثبت للتكليف والطرف الآخر مجرى لأصل مؤمّن انحلّ العلم الإجمالي.
وتفصيل الكلام في ذلك يطلب في محلّه من علم الاصول.
تنقسم المعاملات بالمعنى الأعم- أي مطلق القرار المرتبط باثنين ولو بلحاظ نتيجته- إلى العقود، وهي- كما هو واضح- ما يكون قرار
المعاملة فيها بيد الطرفين، و الإيقاعات ، وهي ما يكون قرار المعاملة فيها بيد طرف واحد. ثمّ إنّ العقود يمكن تقسيمها بلحاظ جواز حلّها وعدمه ذاتياً إلى العقود اللازمة والعقود الجائزة،
وهذا مسلّم به في باب العقود.
والعقود اللازمة في ذاتها لا تقبل الحلّ إلّا بواسطة العوامل التي لها أثر في
الفسخ والانحلال، أي تؤثّر في تسلّط العاقدين أو أحدهما على فسخ العقد عند وجودها بعد أن يتمّ العقد بجميع أركانه وشروطه، كالتقايل والفسخ بالخيار، فالخيار عبارة عن
إعطاء المتعاقدين أو أحدهما السلطنة على حلّ العقد و
إبطال مفعوله من حين صدوره و
استرجاع كلّ من الطرفين العوض إلى ملكه، مع العلم بأنّ العقد ينعقد لازماً ويستمرّ على ذلك حتى في ظرف ثبوت الخيار للمتعاقدين، بل وحتى بالنسبة للخيارات التي تولد مع العقد، كما في خياري المجلس والحيوان، ولا يتزعزع العقد إلّاإذا نفّذ صاحب الخيار الحقّ المجعول له.
وقد نصّ الفقهاء على أنّ الأصل في العقد اللزوم، بمعنى أنّ العرف والشرع لا يجيزان للعاقدين
التراجع عن العقد واسترجاع العوضين، ومن الجائز أن يكون المراد بهذا الأصل هو الاستصحاب الراجع إلى استصحاب بقاء الآثار الثابتة للعقد حتى لو تراجع أحد المتعاقدين عن العقد وامتنع عن تنفيذ التزاماته مع الطرف الآخر، كما يمكن أن يكون مرادهم بهذا الأصل القاعدة العامة المستفادة من النصوص القرآنية ومن السنّة، والتي تدلّ على أنّ المتعاقدين ليس لهما أن يتراجعا عن المعاملة، وأنّ تراجعهما ينافي العمومات والأغراض التي شرّعت تلك العقود لأجلها.
والخلاصة هي: أنّ الأصل في العقود اللزوم إلّاما ثبت جوازه فيثبت الحقّ للمتعاقدين أو أحدهما حلّه أو يعرض ما يوجب حقّاً للمتعاقدين أو أحدهما حلّه كما في موارد الخيارات، أو ينحلّ بنفسه كما لو اختلّ بعض شروط اللزوم.
وتفصيل هذه المسائل في محالّها.
ثمّ إنّ الأسباب المؤدّية إلى
انفساخ العقد أو
الإيقاع وانفكاكه أو بطلانه بقاءً قد تكون أسباباً
اختيارية ، وقد تكون قهرية، فمن الأسباب الاختيارية للانحلال: فسخ العقد من قبل أحد الطرفين أو كليهما،
ومنها: الإقالة،
ومنها:
أداء الدين من قبل الراهن أو
إبراؤه فينحلّ الرهن.
ومن الأسباب الاختيارية للانحلال تلف العين المعقود عليها،
ومنها: موت أحد المتعاقدين أو كليهما،
ومنها: زوال
أهلية المتعاقدين، ومنها:
استحقاق الغير لطرف المعاوضة،
ومنها: تعذّر
الالتزام والوفاء بالعقد.
وهذه أسباب انفساخ أو بطلان لبعض العقود والإيقاعات لا جميعها، ولكلّ منها تحليله الخاص يأتي في محلّه من مصطلح كلّ عقد أو إيقاع.
من جملة القواعد الفقهية التي يتناولها الفقهاء بالبحث قاعدة انحلال العقود، والكلام فيها يقع ضمن الامور التالية:
ويقصد بها انحلال العقد الواحد المتعلّق بالمركّب إلى عقود متعدّدة، أي أنّ العقد الواقع على هذا المركّب واقع على كلّ جزء من أجزائه، وكما يكون المجموع في قبال مجموع ما جعل في
العقد عوضاً كذلك يكون كلّ جزء من أحد العوضين في قبال الجزء من
العوض الآخر.
وهذا واضح فيما إذا كان المجموع مع كلّ جزء منه من سنخ واحد بحسب الجنس، وكذلك بحسب القيمة بنسبة كمّيتهما، كما لو اشترى طنّاً من حنطة بمبلغ كذا من الدنانير، فأبعاض المبيع من سنخ الكلّ، وهي الحنطة، وقيمة كلّ بعض بالنسبة إلى
قيمة الكلّ كنسبة كمّية ذلك البعض إلى كمّية ذلك الكلّ.
وأمّا لو لم تكن نسبة المجموع مع أبعاضه من هذا القبيل، بل ربما لا يكون للجزء الخارجي- لا الجزء بعنوان أحد الكسور كالنصف والثلث- قيمة أصلًا، مثلًا:
الفرس العربية التي ربما تكون قيمتها مئات الدنانير لا يكون لرجلها أو رأسها قيمة أصلًا، فلا معنى للانحلال بالنسبة إليه؛ لأنّ المراد من الانحلال في المقام هو انحلال العقد الواحد- بالنسبة إلى أبعاض العوضين- إلى عقود متعدّدة.
وربما ينحلّ العقد إن لم يكن للجزء الخارجي قيمة إلى عقود متعدّدة بحسب الكسور المشاعة في العوضين، فإذا باع نصفه المشاع من الفرس- مثلًا- لغيره فهذا العقد ينحلّ إلى عقدين: أحدهما متعلّق بالنصف الذي يملكه العاقد، وهو عقد صدر من مالكه، ويجب عليه الوفاء به، والثاني عقد متعلّق بمال الغير، وهو عقد صادر عن غير المالك، فيكون فضولياً يحتاج نفوذه إلى
إجازة المالك.
معنى الانحلال هنا هو: أنّ العقد وإن كان بحسب الصورة واحداً إلّاأنّه في حكم العقود المتعدّدة بالنظر إلى الأحكام اللاحقة، فالعقد بحسب الصورة واحد، ولكن عند الدقّة يعتبر عقوداً متعدّدة.
وتظهر الثمرة فيما إذا كان بعض المبيع ممّا لا يملكه
العاقد ، أو كان بعضه ليس بمال شرعاً كالخمر والخنزير، فلو باع مجموع ما يملكه وما لا يملكه، أو باع مجموع ما يكون مالًا شرعاً وما لا يكون كذلك في صفقة واحدة، فعلى القول بعدم الانحلال لابدّ من الالتزام ببطلان المعاملة؛ لأنّه يشترط في صحّتها أن يكون المبيع مالًا شرعاً، وألّا يكون
الأكل بإزائه أكلًا لمال الغير بالباطل.
وأمّا إذا قلنا بالانحلال فكأنّه صدر منه عقدان: أحدهما تعلّق بما هو ليس بمال شرعاً فيكون باطلًا، والآخر تعلّق بما هو مال شرعاً فيكون صحيحاً.
فأثر الانحلال صحّة المعاملة والعقد بالنسبة إلى ذلك الجزء الذي لا مانع من جعله عوضاً في المعاملة، سواء كان جزءً خارجياً أو كسراً مشاعاً، والجزء الخارجي سواء كان له وجود مستقلّ- كما إذا باع ثوباً وغنماً صفقة واحدة- أو لم يكن له وجود مستقلّ منفصل عن الأجزاء الاخرى، كالثمر على الشجر، والحمل في بطن امّه إذا كان الثمر لشخص والشجر لآخر، وكذا لو كانت
الامّ ملكاً لشخص والحمل لشخص آخر.
وقد لا يكون متعلّق العقد قابلًا للانحلال، لا بالنسبة إلى أجزائه الخارجية ولا بالنسبة إلى الكسر المشاع، وذلك مثل تعلّق عقد النكاح بامرأة معيّنة، فهذا العقد لا يمكن الانحلال فيه؛ لعدم
إمكان أن يكون بعض أجزاء
المرأة معقودة بعقد صحيح وبعضها الآخر غير معقودة، وكذلك بالنسبة إلى كسورها.
وقد يكون ما وقع عليه العقد بالنسبة إلى كسوره المشاع قابلًا للانحلال، وأمّا بالنسبة إلى أجزائه الخارجية ليس قابلًا للانحلال، كما إذا كان المبيع عبداً أو جارية، فبالنسبة إلى كسوره المشاع قابل للانحلال، كما إذا كان نصف المملوك أو ثلثه لشخص والباقي منه ملك لشخص آخر، فينحلّ العقد ويكون صحيحاً إذا باع أحد الشخصين نصفه الذي يملكه، فينحل العقد ويكون صحيحاً بالنسبة إلى نصفه وموقوفاً على إجازة المالك بالنسبة إلى ذلك النصف الآخر الذي لغيره، أو يكون باطلًا فيما إذا ردّه ولم يجز.
وأمّا بالنسبة إلى أجزائه الخارجية فليس قابلًا للانحلال؛ لعدم كونها مالًا فيما إذا كان كلّ واحد منها وحده وقع العقد عليه، فلو باع يد العبد أو رجله يكون البيع باطلًا؛ لعدم كونه مالًا.
وربما يكون ما وقع عليه العقد أمرين، كلّ واحد منهما مستقلّ في الوجود، ومع ذلك لا يمكن الانحلال بالنسبة إليها؛ لعدم كون كلّ واحد منها منفرداً عن الآخر مالًا، كمصراعي الباب، أو كزوجي الحذاء والجورب وأمثالهما، فمالية كلّ واحد منها إنّما تكون في ظرف
اجتماعه مع الآخر عند العرف والعقلاء.
والضابط الكلّي لصحّة الانحلال هو أنّه لو أوقع عقداً مستقلّاً عليه كان صحيحاً.
ما تقدّم ذكره في هذه القاعدة من انحلال العقود يجري في الإيقاعات أيضاً، فكما أنّ البيع و
الصلح و
الهبة و
الإجارة والوقف والوصيّة وغيرها من العقود تنحلّ كلّ منها إلى عقود متعدّدة، فكذلك
الطلاق و
الظهار و
الإيلاء و
الإقرار والعتق ونحوها من الإيقاعات، تنحلّ إلى إيقاعات متعدّدة على نحو ما ذكر في العقد كيفية ودليلًا.
فلو أعتق عبدين بإيقاع واحد، فظهر أنّ أحد العبدين ليس له بل لغيره، فهذا العتق يقع صحيحاً بالنسبة إلى مملوكه، و
باطل بالنسبة إلى من هو ملك لغيره، ثمّ يقع الكلام في إمكانية تصحيحه بالإجازة من المالك وعدمه على حسب المبنى الذي يختاره الفقيه في تصحيح
الإيقاع الفضولي بالإجازة.
ثمّ إنّ الأقسام التي ذكرت للانحلال في العقود تأتي في الإيقاعات أيضاً، فتارة الإيقاع ليس قابلًا للانحلال أصلًا، لا بالنسبة إلى أجزائه الخارجية ولا بالنسبة إلى كسورها، كما إذا طلّق امرأته المعيّنة فلا معنى لانحلال هذا الإيقاع؛ لأنّ بعض أجزائها الخارجية لا يمكن أن تكون مطلّقة دون بعضها الآخر، كما أنّ كسورها أيضاً كذلك، أي لا يمكن أن يكون نصفها- مثلًا- أو ثلثها مطلّقة دون كسورها الاخر.
والضابط الذي ذكرناه لصحّة الانحلال في العقود- وهو أنّ الانحلال يكون صحيحاً بالنسبة إلى الأجزاء أو الكسور التي لو كان كلّ واحد منها يقع مستقلّاً منفرداً تحت العقد كان صحيحاً- يمكن ذكره في الإيقاعات.
فضابط الانحلال في الإيقاعات هو أن يكون ما ينحلّ إليه لو كان الإيقاع يرد عليه مستقلّاً ومنفرداً لكان صحيحاً.
ذكر في مستند هذه القاعدة عدّة امور، وإليك بعضها:
حيث إنّهم يبنون على
التبعيض في فروع كثيرة من العقود والإيقاعات، ويتمسّكون بهذه
القاعدة من غير نكير من أحد منهم،
وهو كاشف عن اتّفاقهم على صحّة هذه القاعدة، و اتّفاقهم على ذلك يكشف كشفاً قطعياً عن تلقّيهم ذلك عن المعصومين عليهم السلام.
ونوقش فيه بأنّ مثل هذه الإجماعات التي تدّعى في أمثال المقام ليست من الإجماعات التي ذكرت في اصول
الفقه حجّيتها؛
لاحتمال أن يكون مدركهم في هذا
الاتّفاق أحد الامور الاخر ممّا ذكروها مدركاً لهذه القاعدة.
فالعرف والعقلاء في معاملاتهم يبنون على صحّة المعاملة- إذا كان بعض المبيع ممّا لا يملك، أو ملكاً لغير العاقد- في ذلك البعض الذي يملك أو ليس ملكاً للغير- أي البعض الواجد لشروط الصحّة- وبطلانها بالنسبة إلى ذلك البعض الفاقد لشروط الصحّة، وهذا جارٍ في العقود والإيقاعات القابلة للانحلال، ولم يردع
الشارع عن هذا العرف والبناء، بل أمضاه بواسطة العمومات والإطلاقات الواردة في أبواب المعاملات من العقود والإيقاعات.
فيجب
الوفاء به كالعقد المستقلّ، فإذا باع عبده أو عبديه فلا شكّ في أنّه نقل تمام هذا العبد عن ملكه إلى ملك المشتري، وكذلك الأمر في عبديه أو شيئين آخرين، فلو كان نصف العبد- مثلًا- في الفرض الأوّل، أو أحدهما في الفرض الثاني ملكاً للغير أو متعلّقاً لحقّ الغير، وهو عمداً أو
اشتباهاً ملّك المجموع في الأوّل، والاثنين في الثاني، فتعلّق قصده بنقل المجموع أو الاثنين لا ينافي تعلّقه بالبعض في ضمن المجموع والكلّ، وأيضاً لا ينافي تعلّقه بأحدهما في ضمن الاثنين، بل لا معنى لتعلّقه بالمجموع والكلّ إلّاتعلّقه بكلّ جزء جزء منه إذا لم يكن المركّب الكلّ ذا هيئة وصورة تكون هي متعلّق القصد و
الإرادة ، وأيضاً لا معنى لتعلّقه بالاثنين إلّاتعلّقه بهذا وذاك، فنقل كلّ واحد من الأجزاء في ضمن نقل الكلّ، ونقل كلّ واحد منهما في ضمن نقل الاثنين مقصود، وقد تعلّق بهما القصد والإرادة.
وكذلك الأمر في الإيقاعات، فلو أعتق تمام العبد فقصد عتق نصفه في ضمن قصد عتق تمامه موجود، وإذا أعتق اثنين فقصد عتق أحدهما في ضمن قصد عتق الاثنين موجود.
فلو كان نصفه ملكاً للغير أو متعلّقاً لحقّ الغير في الفرض الأوّل، أو كان أحدهما كذلك في الفرض الثاني وقلنا بالانحلال، بمعنى تحقّق العتق في النصف دون النصف الآخر في الفرض الأوّل، وفي أحدهما دون الآخر في الفرض الثاني، فلا يمكن أن يقال: إنّ ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد؛ لأنّ ما وقع بعض المقصود، وقاعدة العقود تابعة للقصود ليس مفادها: أنّ كلّ ما قصد يقع، بل مفادها: أنّه بدون القصد لا يقع، وفي مورد الانحلال لم يقع شيء بدون القصد، فلا يكون الانحلال مخالفاً لتلك القاعدة، كما ربما يتوهّم.
نعم، إنّ ما وقع ليس تمام ما قصد، لا أنّه لم يقصد أصلًا.
وعلى هذا تشمل عمومات عناوين المعاملات (من العقود والإيقاعات) وإطلاقاتها مثل قوله سبحانه وتعالى: «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ»،
وقوله تبارك وتعالى: «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ»،
وقوله سبحانه وتعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»،
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم «الطلاق بيد من أخذ بالساق»،
وأمثال ذلك العقد أو الإيقاع المنحلّ، فيجب الوفاء به كالعقد أو الإيقاع المستقلّ المنفرد.
فإذا طلّق زوجتين له بصيغة واحدة وإيقاع واحد، كما إذا قال بحضور شاهدين
عدلين : يا فلانة ويا فلانة، أنتما طالقتان، وكانت إحداهما واجدة لشرائط صحّة الطلاق، والاخرى كانت حال الطلاق حائضاً، أو كانت في
الطهر الذي واقعها فيه، فإنّه يصدق على الاولى أنّه طلّقها بطلاق صحيح، فتشملها أدلّة نفوذ الطلاق. وكذا الحال في سائر الإيقاعات.
وفي باب العقود أيضاً كذلك، فإنّه لو باع خلّاً وخمراً، أو
شاة وخنزيراً، فبالنسبة إلى الخلّ والشاة يصدق أنّه باعهما ببيع صحيح وعقد تامّ الأجزاء والشرائط، فتشمله أدلّة نفوذ البيع و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ». نعم، لو كان
الانضمام والاجتماع منظوراً أو شرطاً فيأتي خيار تخلّف الشرط أو خيار تبعّض الصفقة.
تقدّم أنّ هذه القاعدة تجري في أغلب المعاملات، عقوداً كانت أم إيقاعات، أمّا العقود فمنها: البيع، وقد ذكرنا ضمن البحث عدّة أمثلة على انحلال عقد البيع.
ومنها: الإجارة، فإذا آجر ما يصحّ إجارته له وما لا يصحّ بعقد واحد، فينحلّ هذا العقد إلى عقدين، أحدهما صحيح، والآخر غير صحيح و
باطل ، أو موقوف على الإجازة.
ومنها:
المضاربة ، فلو أعطى العامل مقداراً من الدراهم والدنانير مضاربة بعقد واحد، فظهر أنّ أحد النقدين أو بعض أحدهما مال الغير، ولم يأذن للعاقد بجعله مضاربة، فينحلّ عقد المضاربة إلى عقدين:
أحدهما صحيح وهو الواقع على مال نفسه أو على ما هو مأذون من قبل المالك في إعطائه للعامل مضاربة، والثاني باطل وهو الواقع على نقود الغير من دون
إذنه ورضاه ولا إجازته بعد الوقوع.
ومنها:
العارية، إذا أعار أشياء بعضها له وبعضها ليس له- أو ليس له أن يعيره؛ لكونه متعلّقاً لحقّ الغير- بعقد واحد، فينحلّ إلى عقدين، فبالنسبة إلى ما هو ملكه وليس ممنوعاً عن التصرّف فيه شرعاً تصحّ عاريته، ولا فرق في صحّة عارية ما هو ملكه وله التصرّف فيه شرعاً بين أن يكون ذلك الشيء جزءً خارجياً لمجموع ما وقع عليه العقد، أو يكون كسراً مشاعاً من كسوره، أو يكون له وجود مستقلّ جمعه المعير مع غيره في العقد الواحد.
وهذا جارٍ في جميع العقود بل الإيقاعات التي يمكن ويصحّ فيها الانحلال.
ومنها: الوقف، فلو وقف شيئين بعقد واحد، وكان أحدهما قابلًا لأن يكون وقفاً، والآخر ليس قابلًا لذلك لجهة من الجهات المانعة عن قابليته للوقفية، فينحلّ عقد الوقف الواحد إلى عقدين، أحدهما يكون صحيحاً، وهو بالنسبة إلى ذلك القابل للوقفية، والآخر باطلًا، وهو بالنسبة إلى الآخر الغير قابل لأن يكون وقفاً.
وأمّا لو وقف داراً يكون نصفها المشاع له، ونصفها الآخر لشخص آخر، وليس الواقف مأذوناً من قِبل ذلك المالك ولا وليّاً عليه، فالانحلال هنا دائر مدار القول بصحّة وقف المشاع، فإن قلنا بصحّته تحقّق الانحلال وكان صحيحاً بالنسبة إلى ما يملكه مشاعاً، وباطلًا بالنسبة إلى النصف الآخر.
وهكذا الحال في سائر العقود من الصلح والهبة و
المزارعة و
المساقاة وغيرها.
وأمّا الإيقاعات، فمنها: الطلاق والعتق، وقد مرّ ذكر مثالهما فيما تقدّم من البحث.
ومنها: النذر، فلو نذر بصيغة واحدة عِتق عبدين، أو ذبح شاتين، أحد العبدين له والآخر ملك لغيره، وكذلك في الشاتين بأن كانت احداهما ملكاً له ويجوز له التصرّف فيها، والاخرى ليست له أو ليس له التصرّف فيها وإن كانت ملكه، فينحلّ ذلك
النذر إلى نذرين، أحدهما صحيح والآخر باطل، وهكذا الأمر بعينه في العهد و
اليمين وسائر الإيقاعات.
الموسوعة الفقهية، ج۱۸، ص۶۹-۸۱.