الاستخفاف
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهو بمعنى
طلب الخفة
والإهانة ، يعني شخص يهين الآخر، فالأولى هو المستخف .
من معاني الاستخفاف
لغةً : الاستهانة، يقال: استخفّ به إذا استهان به وأهانه، واستخفّه خلاف استثقله أي رآه خفيفاً،
كما قد يكون الاستخفاف بمعنى
التهاون .
ولا يخرج
الاستعمال الفقهي عن ذلك. وقد يعبّر عن الاستخفاف- بالمعنى الأوّل-
بالاستحقار والاحتقار والانتقاص والازدراء .
وهو
التفخيم والتبجيل ،
وعلى هذا فهو يقابل الإهانة والاستخفاف،
والتقابل بينهما تقابل
التضادّ ؛ إذ الإهانة والاستخفاف كالتعظيم أمر وجودي لا عدمي.
وهو أن تجذب
ستراً فتشقّ منه طائفة أو تقطعه فيبدو ما وراءه منه.
هتكت
الثوب أي شققته طولًا، وهتك اللَّه ستر
الفاجر أي فضحه.
وقد يقال بدل أهان فلاناً: هتك
حرمته .
قد يتحقّق الاستخفاف بالقول
كالسبّ والشتم ، وقد يتحقّق بالفعل كالضرب ونحوه.
والأفعال الدالّة على الاستخفاف والإهانة على أقسام:
ما يكون بذاته استخفافاً وإهانةً بحيث لا ينفكّ عنه بوجه وإن لم يكن فاعله قاصداً للاستخفاف، بل لو قصد به العنوان المنافي للاستخفاف لم يخرج بذلك عن كونه استخفافاً وإهانةً كإلقاء
النجاسة على الشيء
المحترم .
ما يكون في حدّ نفسه استخفافاً بحيث لو خلّي ونفسه لكان ظاهراً في الاستخفاف والإهانة، وإن لم يكن فاعله قاصداً للاستخفاف والإهانة إلّا أنّه لو قصد به العنوان المنافي لخرج عن كونه استخفافاً وإهانةً
كمسح الإنسان ظهره بالشيء المحترم، فإنّه في نفسه استخفاف بذلك الشيء المحترم، ولكن لو قصد به
الاستشفاء لخرج عن كونه استخفافاً بل قد يعدّ
تعظيماً .
ما لا يكون في حدّ نفسه استخفافاً ولكنّه
قابل لأن يكون استخفافاً وإهانةً،
كالاستدبار لضريح الإمام عليه السلام أو مدّ
الرّجل إلى
القرآن الكريم فإنّه كما يمكن أن يكون
لعادة أو
استعجال أو لغرض آخر كذلك يمكن أن يكون للإهانة والاستخفاف، وما يجعله إهانةً واستخفافاً إنّما هو
القصد والنيّة .
ليس للاستخفاف
حكم واحد عامّ، وإنّما يختلف حكمه باختلاف متعلّقه، فقد يكون
حراماً كالاستخفاف بما له شأن وحرمة في
الدين والشرع كما اشير إلى ذلك في كلمات
الفقهاء في مسائل متعدّدة، كمسألة تنجيس الأشياء المحترمة
والاستنجاء بها
وبيعها للكافر ونحو ذلك، وقد تعرّض لهذا الحكم بعضهم ضمن
القاعدة الفقهية المعروفة بحرمة الإهانة والاستخفاف بالمحترمات في الدين.
والمستفاد من كلمات الفقهاء أنّ هذا الحكم من ضروريّات الدين ومسلّمات
الفقه ، وادّعي عليه
الإجماع بل الضرورة.
واستدلّ على هذه
القاعدة بامور:
قوله تعالى في
كتابه العزيز : «ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»،
فإنّه يدلّ على أنّ
تعظيم الشعائر من
تقوى القلوب ، وليس
التقوى إلّا
الحذر من أمر مخوف، فهناك شيء يخاف منه ينبغي الحذر منه بتعظيم الشعائر، وكلّ ما هو كذلك فهو
واجب ؛ إذ لا
خوف في مخالفة
المستحبّ حتى يحذّر منه، فكون التعظيم من التقوى والحذر
أمارة على
العقاب على تركه، والمراد من الشعائر مطلق ما هو محترم في
الدين لا
البُدن ولا
مناسك الحج وأعماله فقط.
وعلى هذا
فالآية الشريفة تدلّ على
وجوب تعظيم جميع المحترمات في
الدين ، وبناءً على ما قرّر في علم الاصول من
اقتضاء الأمر بالشيء
النهي عن
ضدّه العام، فهي تدلّ على
حرمة ترك التعظيم أيضاً،
والإهانة والاستخفاف وإن لم يكن ضدّاً عامّاً للتعظيم بل هو ضدّ خاصّ له- ومن المقرّر في
علم الاصول عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ- إلّا أنّ الأولويّة القطعيّة تقتضي أن يكون الاستخفاف والإهانة حراماً؛ لأنّ الاستخفاف أولى بالحرمة من ترك التعظيم من دون استخفاف.
ما رواه
معاوية عن [[|الإمام الصادق أبي عبد اللَّه]] قال عليه السلام: «ثمّ اشتر
هديك إن كان من البُدن أو من
البقر ، وإلّا فاجعله
كبشاً سميناً فحلًا، فإن لم تجد كبشاً فحلًا فموجأ (الموجأ من الضأن: هو الفحل المخصيّ.)
من الضأن... فإن لم تجد فما تيسّر عليك، وعظّم شعائر اللَّه».
فإنّ الأمر بتعظيم الشعائر في ذيل
الرواية ظاهر في
الوجوب ، والمراد من الشعائر جميع الشعائر كما هو واضح. وتقريب الاستدلال به على حرمة الاستخفاف بالشعائر هو ما تقدّم في الآية الشريفة.
أنّ
العقل يستقلّ
بقبح الإهانة والاستخفاف باللَّه سبحانه وتعالى وبجميع ما هو محترم ومعظّم عنده؛ لأنّه يؤول إلى الاستخفاف به تعالى، وعليه فيستحقّ المستخفّ الذمّ والعقاب، وكلّ فعل يستقلّ العقل بقبحه واستحقاق فاعله الذمّ
والعقاب فهو حرام ومبغوض عند
الشارع أيضاً؛ لقاعدة الملازمة بين
حكم العقل وحكم الشرع .
أنّ من
ضروريات الدين ومسلماته والمرتكز عند المتشرّعة هو حرمة الاستخفاف بمحترمات الدين وعدم
جوازه ، ولذا يعترضون على من استخفّ بها وينكرون فعله أشدّ
الإنكار وإن كانت مراتب إنكارهم مختلفة باختلاف مرتبة المحترمات، فلو استخفّ أحد- والعياذ باللَّه-
بالكعبة أو
ضريح رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أو
القرآن الكريم فإنكارهم ربّما ينجرّ إلى
قتل المستخفّ لكشفه عن
ارتداده ، بخلاف ما لو استهان بنعمة من نعم اللَّه، كما إذا داس على
الخبز برجله متعمّداً من غير عذر ولا ضرورة فإنّهم ينكرون ذلك عليه بالصيحة في وجهه- مثلًا- لا أزيد.
۱- الاستخفاف باللَّه تعالى، فإنّ حرمته من ضروريّات الدين، وهو القدر المتيقّن من مورد
الإجماع المتقدّم،
والعقل يستقلّ
بقبحه واستحقاق المستخفّ به تعالى
الذمّ والعقاب بل قد يوجب
الارتداد والكفر ، قال تعالى: «قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ• لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ».
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الاستخفاف بالقول
كالسبّ والشتم أو وصفه تعالى بصفات دالّة على الاستهانة والانتقاص، أو بالفعل المتضمّن
للانتهاك والاستهزاء به تعالى كرسم صورة له سبحانه.
۲- الاستخفاف
بالأنبياء عليهم السلام، فإنّه
حرام بلا
ريب ، من دون فرق في ذلك بين كونه بقول أو بفعل، ويدلّ على ذلك- مضافاً إلى الأدلّة المتقدّمة- قوله تعالى: «وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ»،
وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً».
وغير ذلك من
الآيات الشريفة.
ويلحق بالاستخفاف
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الاستخفاف
بالأئمة المعصومين عليهم السلام وبالسيّدة
فاطمة الزهراء عليها السلام؛ إذ قد علم بالضرورة بأنّ الأئمّة عليهم السلام
والصدّيقة الطاهرة عليها السلام بمنزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّ حكمهم حكمه، وكلّهم يجرون مجرى واحداً.
۳- الاستخفاف بالملائكة، فإنّه لا شكّ في أنّ لهم عند اللَّه
مقاماً وشأناً عظيماً، وقد دلّت على ذلك نصوص كثيرة من
الكتاب والسنّة ، وعليه فالاستخفاف بهم محرّم قطعاً، قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى».
۴- الاستخفاف بالقرآن الكريم وسائر الكتب السماويّة، فمن المقطوع حرمة الإهانة والاستخفاف
بالمصحف الشريف ، وهو الذي بأيدينا، وهو ما جمعته الدفّتان من أوّل
سورة الحمد إلى آخر سورة
الناس .
ولا فرق في ذلك بين كونه بقول أو بفعل كإلقائه في
القاذورات أو
الاستنجاء بأوراقه الشريفة
أو
بيعه للكافر .
وكذا يحرم الاستخفاف
بالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب المنزّلة من عند اللَّه تعالى، فكما أنّ للقرآن الكريم شأناً وحرمةً عند اللَّه تعالى كذلك سائر الكتب السماويّة، والمراد بها ما أنزله اللَّه تعالى لا ما هو موجود في أيدي
أهل الكتاب بعينه، فإنّ بعض ما في تلك الكتب محرّف وباطل قطعاً وبعضه الآخر صحيحٌ معنى وإن حرّفوا ألفاظه.
۵- الاستخفاف بالأحكام والمجعولات الشرعيّة، فإنّه محرّم أيضاً كالاستخفاف
بالصلاة والصوم والزكاة والحجّ .
والاستخفاف الحاصل في التطبيقات المتقدمة إذا كشفت عن كفر المستخفّ وعدم
إيمانه بالإسلام فهو يوجب
الارتداد على ما ستأتي الإشارة إليه.
۶- الاستخفاف
بتربة المعصومين عليهم السلام لا سيّما
تربة الإمام الحسين عليه السلام،
فإنّ لها حرمة وشأناً عظيماً كما تدلّ على ذلك أخبار كثيرة،
ولذا يحرم الاستنجاء بها ونحوه.
۷- الاستخفاف بالأزمنة والأمكنة الشريفة، كالاستخفاف
بشهر رمضان المبارك ويومي
الجمعة وعرفة ، ولذا يكون مقدار
الدية في الأشهر الحرم أكثر،
وكذا الاستخفاف
بمكّة المكرّمة
والكعبة المعظّمة- زادهما اللَّه شرفاً- والمساجد والمشاهد المشرّفة، ولذا يحرم تنجيس تلك الأمكنة، وتجب
إزالة النجاسة عنها أو عن بعضها.
۸- الاستخفاف
بالمؤمن بغيبة أو
سخريّة أو
سبّ أو
شتم أو غيرها
ممّا يتحقّق به الاستخفاف والإهانة؛ إذ المؤمن له حرمة وشأن عظيم في
الشرع ، ولا فرق في ذلك بين كونه
حيّاً أو
ميّتاً .
فعن
مسمع كردين قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن
رجل كسر
عظم ميّت، فقال: «حرمته ميّتاً أعظم من حرمته وهو حيّ».
وفي
رواية صفوان عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: «أبى اللَّه أن يظنّ بالمؤمن إلّا خيراً، وكسرك عظامه حيّاً وميّتاً سواء».
ومن هنا يحرم
التخلّي على
قبور المؤمنين إذا كان هتكاً لحرمتهم.
نعم، إذا كان المؤمن
فاسقاً متجاهراً بفسقه فيجوز الاستخفاف به وإهانته بغيبة أو سبّ؛ لزوال حرمته بالتجاهر بالمنكرات، وكذا إذا كان
مبدعاً في
الأحكام الشرعية ، وأمّا المبدع في
العقائد واصول الدين فهو
كافر باللَّه العظيم وليس بمؤمن أصلًا.
۹- الاستخفاف بالمطعوم، فإنّ
الفقهاء منعوا من
الاستنجاء بالمطعوم
كالخبز والفاكهة ؛ لأنّ لها حرمة تمنع من الاستهانة بها»).
وقد يكون الاستخفاف والاستهانة
واجباً ، كما إذا كان
المنكر ممّا اهتمّ به
الشارع ولم يرض بحصوله مطلقاً
كقتل النفس المحترمة وارتكاب القبائح والكبائر الموبقة وكان
النهي عنه متوقّفاً على سبّ الفاعل وإهانته والاستخفاف به فيجب ذلك في هذه الصورة.
ثمّ إنّ الاستخفاف بمعنى التهاون قد يكون
حراماً كالاستخفاف
بالحجّ فإنّه من
المعاصي الكبيرة على ما صرّح بذلك بعض الفقهاء،
وظاهره عدم الفرق فيه بين ما إذا أدّى الاستخفاف به إلى تركه وتسويفه أو لا.
ويدلّ على ذلك ما روي عن
الرضا عليه السلام في كتابه إلى
المأمون من عدّه عليه السلام الاستخفاف بالحجّ من الكبائر.
وهناك أخبار كثيرة دالّة على النهي عن الاستخفاف والتهاون
بالصلاة :
ففي
صحيح زرارة عن
الباقر عليه السلام قال: «لا تتهاون بصلاتك فإنّ
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عند
موته : ليس منّي من استخفّ بصلاته».
ومثلهما غيرهما.
وفي
رواية أبي بصير عن
امّ حميدة عن
الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ
شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة».
ويحتمل أن يكون
النهي إرشاداً إلى أهمّية الصلاة ومطلوبيّة المحافظة عليها، فلا يدلّ على حكم جديد.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ ترك
المندوبات يقدح في
العدالة إذا بلغ حدّاً يؤذن بالتهاون والاستخفاف
بالسنن .
ثمّة آثار تترتّب على الاستخفاف والإهانة، وهي تختلف باختلاف المستخفّ به
والقصد والنيّة .
فقد يوجب الاستخفاف
ارتداد المستخفّ
وكفره كالاستخفاف باللَّه تعالى
والأنبياء والأئمة المعصومين والصدّيقة الطاهرة عليهم السلام
والملائكة والمصحف الشريف والأحكام الشرعيّة من حيث كونها أحكاماً شرعيّة، ونحو ذلك ممّا يدلّ على الاستخفاف بالدين
والاستهزاء به.
وقد يوجب الاستخفاف الفسق والخروج عن العدالة لا الارتداد والكفر، هذا فيما إذا كان الاستخفاف
معصية كبيرة كغيبة المؤمن غير
المتجاهر بالفسق ، وأمّا إذا لم يكن معصية كبيرة فلا يتّصف المستخفّ بالفسق إلّا مع
الإصرار عليه.
ومن أسباب
الحدّ القذف الذي هو نوع من الاستخفاف والإهانة، إلّا أنّ ذلك فيما إذا لم يكن المستخفّ به مستحقّاً للاستخفاف والإهانة، وإلّا فلا حدّ ولا
تعزير كالاستخفاف
بالكافر والمبتدع والمؤمن المتجاهر بالفسق فيما تجاهر به.
وقد يختلف الأثر المترتّب على الاستخفاف باختلاف
القصد والنيّة ، فلو استخفّ أحد
بشهر رمضان ناوياً بذلك الاستخفاف بالدين
والشريعة فهو يوجب الكفر والارتداد، وإلّا فلا يرتدّ بذلك بل يكون
عاصياً وآثماً فقط.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۲۹۵-۳۰۲.