الإعراض عن الملك
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
والمراد منه رفع اليد عن
الملك من دون
إنشاء إباحةٍ للغير. ويقع البحث عنه في موردين، حيث يذكر- أوّلًا- أثر الإعراض، وهل يوجب خروج
المال عن الملك أم لا، فيما يبحث- ثانياً- عن الموارد والتطبيقات التي يتحقّق فيها الإعراض عن الملك وعدمه.
وقع البحث بين
الفقهاء في أنّ الإعراض هل يوجب خروج المال المعرض عنه عن
الملكيّة أو إنّه موجب
لإباحة التصرّف فقط؟ فيه قولان:
خروجه عن الملكيّة بسبب الإعراض، وقد نسبه
المحقق السبزواري إلى الأشهر حيث قال في مسألة
الصيد : «لو أطلق الصيد من يده لم يخرج عن ملكه إذا لم ينو قطع ملكه عنه، وإن نوى ذلك ففي خروجه عن ملكه قولان،
أشهرهما الأوّل، ولعلّه الأقرب».
وقد نسب
ذلك إلى
الشيخ الطوسي أيضاً في
المبسوط .
واستدلّ عليه بأنّ الأصل في الصيد
انفكاك الملك عنه بالإعراض؛ لأنّه إنّما حصل ملكه باليد وقد زالت، ولأنّه قد أزال ملكه
باختياره عمّا ملكه فيزول؛ لأنّ
القدرة على الشيء قدرة على
ضدّه .
ونوقش فيه بانقطاع
الأصل بما ثبت
شرعاً من سبب التملّك الذي لا يقتضي كون
زواله سبباً أيضاً للزوال؛ لعدم التلازم بينهما، وسبب الملك متى تحقّق تحقّق مسبّبه وإن زال هو بعد ذلك كغيره من أسباب الملك فلابدّ من مزيل آخر.
عدم زوال الملك بالإعراض بل هو يوجب إباحة التصرّف للغير ولو بنحو التملّك،
ونسب إلى الأكثر.
وقد استدلّ عليه بأنّ الملك وزواله يتوقّف على أسباب شرعيّة فلا يحصل بمجرّد
الإرادة ، والإعراض عن الملك لم يثبت شرعاً أنّه من الأسباب الناقلة عنه.
وقد استدلّ
الشهيد الثاني على إباحته للغير ب «وجود المقتضي له وهو
إذن المالك فيه، وهو كافٍ في إباحة ما يأذن في التصرّف فيه من أمواله فلا
ضمان على من أكله، ولكن يجوز للمالك
الرجوع فيه ما دامت عينه موجودة كنثار العرس، وكما لو وقع منه شيء حقير ككسرة خبز فأهمله، فإنّه يكون مبيحاً له؛ لأنّ القرائن الظاهرة كافية في الإباحة، ويوضحه ما يؤثر عن الصالحين من
التقاط السنابل لذلك».
وقد اعترض عليه
المحقق النجفي ب «عدم
التلازم بين الإعراض والإباحة التي هي
إنشاء خاص، وقد لا يخطر بباله
الإذن في ذلك. نعم، ربّما يحصل ذلك من شاهد الحال في نثار العرس ونحوه ممّا هو غير مسألة الإعراض التي هي عبارة عن رفع اليد عمّا هو ملك له من غير إنشاء الإباحة فيه لغيره، والبحث في أنّ ذلك نفسه مقتضٍ للخروج عن ملك المالك، وصيرورة الشيء كالمباح الأصلي يملكه الآخذ بأخذه، ولا سبيل للأوّل عليه».
وقال أيضاً في موضع آخر: «فالأولى أن يقال: ما علم إنشاء إباحة من المالك لكلّ من يريد أن يتملّكه كنثار العرس ونحوه يملكه الآخذ
بالقبض أو
بالتصرف الناقل أو
المتلف ، أو مطلق التصرف، على الوجوه أو الأقوال المذكورة في
المعاطاة بناءً على أنّها إباحة، وكذا ما جرت
السيرة والطريقة على تملّكه ممّا قام شاهد الحال بالإعراض عنه، كحطب
المسافر ونحوه، أو ما كان كالمباحات الأصليّة
باندراس المالك كأحجار القرى الدارسة. وأمّا المال الذي امتنع على صاحبه تحصيله بسبب من الأسباب
كغرق أو
حرق ونحوهما فيشكل تملّكه
بالاستيلاء عليه، خصوصاً مع العلم بعدم إعراض صاحبه عنه على وجه يقتضي إنشاء
إباحة منه لمن أراد تملّكه أو رفع يد عن ملكيّته، وإنّما هو
للعجز عن تحصيله، نحو المال الذي يأخذه
قطّاع الطريق والظلمة ونحوهم».
والسيّد الخوئيّ استدلّ بالسيرة واستقرار بناء
العرف والعقلاء على عدم
زوال الملك بالإعراض، وأنّ أقصى ما يترتّب على الإعراض هو مدلوله الالتزامي أي إباحة التصرّف، لكن هذه الإباحة ليست على حدّ الإباحة في باب
العارية ونحوها بحيث تتّصف
بالجواز المطلق، ويكون للمالك
الرجوع عن إباحته متى شاء، بل هي شبيهة بالإباحة في باب المعاطاة، أو أنّها عينها في الاتّصاف- بعد تعلّقها بعامّة التصرّفات- باللزوم وعدم حقّ في الرجوع بعد أن أحدث الآخذ حدثاً في العين وتصرّف فيه نحو تصرّف، فليس للمالك مطالبته بالسيرة العقلائيّة، فهذه سنخ إباحة يعبّرعنها بالإباحة اللازمة بالتصرّف بالمعنى الواسع لمفهوم التصرّف.
نعم، ربّما تستتبع هذه الإباحة للملكيّة فيما لو كان التصرّف متوقّفاً عليها
كالبيع ، بعد أن كان المدلول الالتزامي للإعراض هو
الترخيص في عامّة التصرفات حتى المتوقّفة على الملك.
تحدّث الفقهاء عن موارد عديدة في
الفقه ندرجها ضمن الإعراض عن الملك، وهناك أخذوا بالبحث في التفاصيل المصداقية من حيث تحقق الإعراض هنا وهناك وعدمه.
ويستخلص من كلامهم أنّهم لا يقصدون بالإعراض عن الملك مجرد عدم
الانتفاع أو عدم الانتفاع لمانع
كالغصب ، إذ هذين العنوانين لا يحققان إعراضاً عن الملك، وإنّما يقصدون
الإهمال التام بحيث يقطع صلته الاعتبارية بهذا المال، مع عدم إنشاء نقل وانتقال أو إنشاء إباحة للغير.
من هنا كان لاستعراض النماذج التطبيقية في كلماتهم ضرورة
لإيضاح الأمر وتجلية المفهوم.
وعلى أيّة حال فمن أبرز الموارد التي ذكروها:
بأن خلّاها صاحبها عن
جهد في أرض بغير كلاءٍ ولا ماءٍ فقد ذكروا أنّه يباح ذلك لآخذه، بخلاف ما إذا تركها لا من جهد أو تركها في أرض ذات ماء وكلاء فإنّه لا يجوز لأحد أخذه.
قال
المحقّق الحلّي : «لو ترك البعير من جهد في غير كلاء وماء جاز أخذه؛ لأنّه كالتالف ويملكه الآخذ ولا
ضمان ؛ لأنّه كالمباح، وكذا حكم الدابّة والبقرة والحمار إذا ترك من جهد في غير كلاء وماء».
خلافاً
لابن حمزه حيث قال: «إن تركه صاحبه من جهد وكلال في كلاء وماء لم يجز له أخذه بحال».
وقد استدلّوا على ذلك بصحيحة
عبد اللَّه ابن سنان عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «من أصاب مالًا أو بعيراً في فلاة من الأرض قد كلّت وقامت وسيّبها صاحبها ممّا لم يتبعه فأخذها غيره فأقام عليها وأنفق
نفقة حتى أحياها من
الكلال ومن
الموت فهي له، ولا سبيل له عليها وإنّما هي مثل الشيء المباح».
لو انكسرت سفينة في البحر فقد نسب إلى الأشهر
بين الأصحاب أنّ ما أخرجه البحر فهو لأهله، وما اخرج
بالغوص فهو لمخرجه؛
مستدلّاً
برواية الشعيري قال: سئل أبو عبد اللَّه عليه السلام عن سفينة انكسرت في البحر فأخرج بعضها بالغوص، وأخرج البحر بعض ما غرق فيها، فقال: «أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله، اللَّه أخرجه، وأمّا ما اخرج بالغوص فهو لهم، وهم أحقّ به».
وحملها
ابن إدريس على
اليأس حيث قال: «وجه
الفقه في هذا
الحديث أنّ ما أخرجه البحر فهو لأصحابه، وما تركه أصحابه آيسين منه فهو لمن وجده وغاص عليه؛ لأنّه صار بمنزلة المباح، ومثله من ترك بعيره من جهد في غير كلاء ولا ماء فهو لمن أخذه؛ لأنّه خلّاه آيساً منه ورفع يده عنه فصار مباحاً، وليس هذا قياساً؛ لأنّ مذهبنا ترك
القياس ، وإنّما هذا على جهة المثال، والمرجع فيه إلى
الإجماع وتواتر النصوص دون القياس
والاجتهاد ».
وقال
المحقق النجفي : «المال الذي امتنع على صاحبه تحصيله بسبب من الأسباب
كغرق أو
حرق ونحوهما فيشكل تملّكه
بالاستيلاء عليه، خصوصاً مع العلم بعدم إعراض صاحبه عنه على وجه يقتضي
إنشاء إباحة منه لمن أراد تملّكه أو رفع يد عن ملكيّته، وإنّما هو
للعجز عن تحصيله نحو المال الذي يأخذه قطّاع الطريق والظلمة ونحوهم».
والمحقّق الأردبيلي بعد أن استضعف الرواية قال: «والمضمون مخالف للقواعد فيمكن حملها على إعراض صاحب المتاع عمّا غرق، فهو حينئذٍ للآخذ فيمكن أن يكون أولى بأن يكون له
التصرّف ».
لو اصطاد
صيداً ثمّ أطلق من يده وقطع نيّته عن ملكه ففيه قولان، قول بعدم خروجه عن ملكه كما ذهب إليه الأكثر،
وقد نسب إلى
الشيخ الطوسي القول بخروجه عن ملكه بالإعراض؛ نظراً إلى أنّ الأصل في الصيد
انفكاك الملك عنه، وإنّما حصل ملكه باليد وقد زالت، ولأنّه قد أزال ملكه
باختياره عمّا ملكه فيزول؛ لأنّ
القدرة على الشيء قدرة على ضدّه
فكأنّه في المبسوط يسلّم القول
بالزوال ؛ لأجل
العسر والحرج في
الاحتراز .
يصحّ التصرّف في تراب
الصياغة إذا دلّت القرائن على إعراض صاحبه.
قال
الشهيد الثاني : «لو دلّت القرائن على إعراض مالكه عنه جاز للصائغ تملّكه كغيره من الأموال المعرض عنها...
ويلحق به أرباب باقي الحرف
كالحدّاد والخيّاط والطحّان والخبّاز ».
وقد استدلّ عليه
بخبر علي بن ميمون الصائغ قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عمّا يكنس من التراب فأبيعه فما أصنع به؟
قال: «تصدّق به فإمّا لك وإمّا لأهله».
وقال في
الحدائق : «والمفهوم من كلام الأصحاب أنّه مع معلوميّة المالك لا يجوز
الصدقة ، بل يجب
التخلّص منه بأيّ وجه اتّفق»، ثمّ قال- بعد نقل كلام من
المسالك -: «إنّ ما ذكره وإن كان هو مقتضى القواعد الشرعيّة والنصوص المرعيّة، إلّا أنّه مع
دلالة النص على ما ذكرناه يجب تقييد ذلك بالخبر المذكور».
لكن اعترض عليه
المحقق النجفي بأنّه «يمكن دعوى
الإجماع على خلافه... فلابدّ من طرحه أو يقال: إنّ
السيرة المستقيمة المعلوم كشفها على إعراض المالك عن ذلك في الصياغة والخياطة والحدادة وغيرها».
لو رمى الحقير مهملًا فإنّه يكون
مباحاً لغيره.
قال
فخر المحققين : «لو ألقى الحقير ككسرة خبز فإنّه يباح لغيره أكلها؛ لأنّ القرائن الظاهرة كافية في الإباحة، ولهذا أباح السلف الصالح
التقاط المسكين السنابل».
وقال الشهيد: «لا يجوز التقاط السنبل وقت الحصاد إلّا
بإذن المالك صريحاً أو فحوى أو إعراضه عنه، وكذا ما يعرض عنه من بقايا الثمار».
الشيء الذي يملك بغاية قد حصلت كحطب
المسافر ، وقد ادّعى بعض الفقهاء
قيام السيرة على
جواز تملّكه ، وأنّه يزول الملك بالإعراض عنه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۵، ص۶۴-۷۰.