الإلزام بحكم المذهب
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ويقصد به
إلزام الغير بما يقتضيه مذهبه من الحقّ أو المال أو غير ذلك، فللإمامي إلزامه بما التزم به في دينه وترتيب الآثار عليه وإن كان على خلاف حكم مذهب
الإمامي نفسه، وذلك أنّ الأحكام الفرعية تختلف بين المذاهب والأديان، فقد يكون شخص بمقتضى مذهبه ملزماً بأداء مال أو شيء آخر، ولكن لا يلزم به على سائر المذاهب والأديان، فيسأل عن كيفية تعامل أتباع المذاهب والأديان بعضهم مع بعض؟ فهل يجوز إلزام الشخص الملتزم بمقتضى مذهبه
بأداء مال أو شيء آخر أم أنّ ذلك لا يجوز؟وقاعدة الإلزام ناظرة إلى هذا الاختلاف، والقدر المسلم منها موارد اختلاف مذهب الإمامية مع سائر الفرق والمذاهب الإسلامية.
ومفاد القاعدة جواز إلزام أتباع سائر المذاهب بما التزموا به في مذاهبهم في الأنكحة والمعاملات وغيرها، وإن لم يكونوا ملزمين به على مذهب الإمامية، كإلزامهم بأحكام الطلاق إذا كان صحيحاً عندهم وباطلًا عند الإمامية، فيجوز للإمامي ترتيب آثار
الطلاق الصحيح على طلاقهم وفق مذهبهم، وكذلك في سائر مواضع الخلاف.وقد ادّعي
الإجماع وعدم الخلاف على هذه القاعدة في بعض تطبيقاتها، كما في الطلاق.
قال
الشهيد الثاني ذيل قول
المحقّق الحلّي : (ولو كان المطلق مخالفاً يعتقد الثلاث لزمته) : «ولا فرق في الحكم على المخالف بوقوع ما يعتقده من الطلاق بين الثلاث وغيرها ممّا لا يجتمع شرائطه عندنا... وظاهر الأصحاب
الاتّفاق على الحكم».
وقال
السيّد العاملي : «هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب».
ونفى
السيّد الطباطبائي أيضاً عنه الخلاف، ونقل الاتّفاق عن جماعة.
وفي الجواهر أيضاً ادّعى الإجماع بقسميه عليه.
والبحث في هذه القاعدة بعد هذا التوضيح الإجمالي لها يقع في عدّة نقاط:
•
مستندقاعدة الإلزام،استدلّ لهذه القاعدة- بعد تجاوز
الإجماع المحتمل المدركية بعدّة وجوه.
تشترك الروايات المشرّعة لقاعدة الإلزام- مع اختلاف تعابيرها وصيغها- في ضابط واحد، وهو جواز الأخذ ممّن دان بدين بمقتضى ما التزم به، خصوصاً المخالف بل أرباب سائر الأديان على خلاف يأتي، وهذا لا غبار عليه.
إنّما الكلام والخلاف في أنّ مفادها، هل هو تبدّل الواقع بسبب
اعتقاد المخالف بحيث تكون في مقام جعل الحكم الواقعي الثانوي أو أنّها لا تفيد سوى
الإباحة الصرفة؟
والفرق بين الاحتمالين أنّه على الأوّل يتبدّل الواقع والحكم الأوّلي في مثال الطلاق وهو فساد
الطلاق ، فاعتقاد المخالف بالصحّة يوجب جعل الصحّة واقعاً، لكنّ هذا الواقع ليس بالعنوان الأوّلي وإنّما يأتي بعنوان ثانوي طارئ وهو اعتقاد المخالف لوحده أو مع ضمّ تزويج الإمامي لها بعد ذلك كما سيأتي إن شاء اللَّه بيانه.أمّا على الثاني فلا يتبدّل الواقع والمطلّقة باقية على الزوجية لكن الشارع أباح للإمامي التزويج بها.وعلى أيّة حال، فقد نسب
إلى
الشيخ حسن ابن كاشف الغطاء القول بالإباحة.
قال الشيخ حسين الحلّي: «إنّ طلاق المخالفين يمضي عليهم وإن كان فاسداً عندنا... فإنّه يحكم بوقوعه على وفق مذهبه بالنسبة إلينا وإن كان فاسداً في الواقع، وكذا بالنسبة إليهم، ولا منافاة بين
البطلان وبين
إجراء حكم الصحّة بالنسبة إلينا؛ لطفاً منه، فهي وإن كانت زوجة لهم ولكنّه حلال لنا وحرام عليهم، أو يقال: هو صحيح من وجه وفاسد من وجه آخر، ولو استبصر جرت عليه الأحكام الماضية، كما تجري علينا».
وربما يظهر من كلام المحقّق النجفي أيضاً ذلك، حيث قال- بعد ذكر النصوص-: «إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على التوسعة لنا في أمرهم وأمر غيرهم من أهل الأديان الباطلة»؛
لمكان التعبير بالتوسعة الظاهر في الإباحة، إلّا أن يقال: هذا التعبير ناظر إلى علّة التشريع، وأنّ هذا الحكم منّةٌ من الشارع وتوسعة من قبله.
قال
السيّد الحكيم : «إنّ جواز الإلزام أو وجوبه لا يدلّ على صحّة الطلاق المذكور، وإنّما يدلّ على مشروعية الإلزام بما ألزم به نفسه- إلى أن قال-: فإنّ
الأمر بالتزويج
والاختلاع والإبانة والأخذ لا يدلّ على الصحّة، بل من الجائز تشريع تزويج زوجة المخالف، فتخرج عن الزوجية بذلك... ومن المعلوم أنّ ارتكاب ذلك في مقام الجمع بين الأدلّة أهون من البناء على صحّة الطلاق الفاقد للشرائط...».
وقال أيضاً: «إنّ الطلاق الواقع منهم ليس صحيحاً وإنّما اقتضى إلزامهم به بما أنّه مذهبهم...».
وكذلك قال السيّد البجنوردي، واستدلّ عليه بمثل ما في المستمسك، وأجاب عمّا قد يقال بحكومة روايات الإلزام على الأدلّة الأوّلية، بقوله: «إنّ الحكومة...معناها صحّة هذا الطلاق، وهذا مخالف للضرورة في مذهب
الشيعة ، حيث إنّ الفقهاء كلّهم متّفقون على بطلان هذا الطلاق، ولم يقل أحد منهم بصحّته ولو بالعنوان الثانوي».
وفي مقابل ما يفهم منه القول بالإباحة صرّح بعضهم بأنّ الإباحة لا أساس لها؛ لأنّ مرجعها إلى إباحة تزويج المزوّجة، فإنّها باقية في حبالة الزوج المطلّق، وهذا لا ينبغي
إسناده إلى متشرّع عادي فضلًا عن المعصوم عليه السلام.
وعلى القول بالإباحة وقع بحث في أنّها واقعية أو ظاهرية، حيث ذهب بعضهم إلى أنّها واقعية، فإنّ تزويج المرأة التي وقع عليها ذلك الطلاق حلال واقعاً لا ظاهراً.
ويظهر من بعض الفقهاء اختيار هذا القول.
بل قد استدلّ الشيخ حسين الحلّي على ذلك ببعض الفقرات من النصوص الواردة في المقام، مثل قوله عليه السلام: «فاختلعها منه، فإنّه إنّما نوى الفراق بعينه»،
وقوله عليه السلام:«أما إنّه مقيم على حرام»،
وقوله عليه السلام:«هذه المرأة لا تترك بغير زوج»،
حيث قال: «هذه الفقرات المذكورة دلّتنا بصراحة على أنّ الطلاق الذي وقع من الشخص المخالف يكون صحيحاً واقعاً؛ لأنّ تعبير
الإمام عليه السلام بالاختلاع والإبانة لا يناسب بقاء تلك المرأة على زوجيّتها وأنّ الطلاق منها غير واقع، وكلّ ما في البين هو إباحة التزوّج بها... ولو لاحظنا قول الإمام عليه السلام: «لا تترك بغير زوج» لرأينا ما ذكرناه واضحاً؛ فإنّ ذوق المتشرّع لا يقبل أن يكون حكمهم عليهم السلام بجواز التزويج بتلك المطلّقات من قبيل الزواج بتلك المرأة مع كونها لا تزال معلّقة بحبالة الزوج الأوّل ليكون ذلك من قبيل الإباحة الصرفة، ولو تأمّلنا مليّاً قوله عليه السلام: «أما إنّه مقيم على حرام» لرأيناه واضحاً في الدلالة على المقصود؛ فإنّ
الإقامة على الحرام إنّما تتمّ لو كان الطلاق قد وقع من ذلك الشخص فعلًا، فالمرأة إذاً
أجنبية عنه، وهو مع ذلك يقيم معها، وحينئذٍ فيصحّ التعبير بأنّه يقيم على حرام».
ثمّ علّق على ما مرّ من المستمسك من أنّ ارتكاب ذلك أهون، فقال: «لم كان ذلك أهون؟ ولماذا لم نقل: إنّ صحّة الطلاق باعتبار كونه معتقداً لصحّته يكون من قبيل الأحكام الواقعية بعناوينها الثانوية الذي لا تخلو روايات الباب من
الإشعار به؟».
وأمّا ما مرّ من السيّد البجنوردي من الاتّفاق على بطلان الطلاق، فتظهر المناقشة فيه من كلام الشيخ حسين الحلّي أيضاً، حيث قال: «وهذا المعنى هو الذي يظهر من
الشيخ الطوسي رحمه الله في
الاستبصار والتهذيب، ومن صاحب السرائر أيضاً، وربما ترقّى صاحب السرائر فادّعى
الإجماع عليه حيث قال: وقد روى أصحابنا روايات متظاهرة بينهم متناصرة، وأجمعوا عليها قولًا وعملًا أنّه إن كان المطلّق مخالفاً وكان ممّن يعتقد لزوم الثلاث لزمه ذلك ووقعت الفرقة، وإنّما لا تقع إذا كان الرجل معتقداً للحقّ. ومن هذا وأمثاله يظهر لنا جليّاً أنّهم كانوا يخرّجون المسألة على إفادتها للحكم الواقعي الثانوي، بل قد نترقّى- كما عرفت- ونقول: إنّنا نستفيد الإجماع على ذلك».
تقيّد النصوص بعنوان المخالف:ذكر بعض الفقهاء أنّه يظهر من النصوص أنّ هذا الحكم مقيّد بعنوان كون الطرف الآخر مخالفاً، فلو استبصر زال الحكم الذي تفيده هذه النصوص.
قال السيّد البجنوردي: «علّق الحرمة ولزوم التزامه بأحكام دين بما إذا كان معنوناً بعنوان (أنّه دان بدين قوم) أو عنوان (ذلك دينه)، فإذا زال هذا العنوان عنه بواسطة استبصاره يزول مع زواله حكمه أيضاً؛ لأنّ ظاهر أخذ كلّ عنوان في موضوع حكم أنّ لذلك العنوان دخلًا في الحكم حدوثاً وبقاء، لا حدوثاً فقط».
ويظهر من بعض آخر كفاية تحقّق العنوان حدوثاً.وقد استدلّ الشيخ حسين الحلّي على ذلك بقوله عليه السلام: «إن كان مستخفّاً بالطلاق ألزمته ذلك»،
فإنّ ظاهره حين صدوره منه، وقوله عليه السلام في مكاتبة الهمداني: «وإن كان ممّن لا يتولّانا ولا يقول بقولنا فاختلعها منه، فإنّه إنّما نوى الفراق بعينه».
وقريب منه رواية
ابن طاووس المتقدّمة، فإنّ المراد من نيّة الفراق قصده عن اعتقاد بصحّته، فمجرّد صدور الطلاق على وفق مذهبه كاف في
الإلزام ، والاستبصار بعده لا يؤثّر في دفع هذا الحكم، مضافاً إلى أنّ هذا النوع من الأحكام لا يقبل التقييد بالدوام- ما دام القيد الفلاني موجوداً- بل صدوره موجب لدوامه كما في العتق
والإبراء .
بل يمكن الجواب على ما ذكره السيّد البجنوردي بأنّ الحكم يدور مدار صدق تحقّق الطلاق من المخالف، وهذا العنوان صادق عرفاً بلحاظ زمان التحقّق حتى لو صار مستبصراً بعد ذلك، حيث يقال بأنّ هذه المرأة عندما طلّقت طلّقت من مخالف.
•
حدود قاعدة الإلزام ومساحتها،يمكن الحديث عن حدود القاعدة ومساحتها ضمن نقاط.
•
تطبيقات قاعدة الإلزام،وفقاً للقول بعموميّة القاعدة وشمولها لمختلف أبواب
الفقه ، رغم ورود جلّ رواياتها في بعض الأبواب الفقهية كالطلاق والنكاح
والإرث.
الموسوعة الفقهية، ج۱۶، ص۳۶۵-۳۹۶.