مستندقاعدة الإلزام
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
استدلّ لهذه القاعدة- بعد تجاوز
الإجماع المحتمل المدركية
- بعدّة وجوه، أبرزها:
أ- ما ذكر من أنّها من القواعد التسهيلية النظامية في جميع الملل والأديان، فتعتبر ما لم يردع عنها الشرع، فإذا دفع أهل ملّة إلى ملّة أخرى مالًا، وقال الدافع: إنّ ديني يقتضي أن أدفع إليك هذا المال يقبل منه، هذا في الجملة مسلّم في المرتكزات.
ومرجع هذا الدليل إلى
الاستناد إلى
السيرة العقلائية في تعامل أتباع المذاهب والملل والأديان مع بعضهم بعضاً، وحيث لم يرد ردع من الشارع عن ذلك أمكن العمل وفق هذه السيرة، بل يستوحى من التعبير عن هذه القاعدة بأنّها من القواعد النظامية أنّ بها وبأمثالها نظام الحياة الاجتماعية، فلولاها للزم الهرج والمرج في المعاملات الاقتصادية والاجتماعية وفي الأحوال الشخصية أيضاً.وعلى تقديره فهو من الأدلّة اللبّية فيقتصر فيه على القدر المتيقّن ولو بلحاظ حفظ النظام والمصالح العامة وعدم لزوم الحرج، وكذلك الهرج والمرج.
ب- النصوص: وهي كثيرة، ورد أكثرها في أبواب
الطلاق والنكاح
والإرث ، وإن لم يصرّح في بعضها بالقاعدة، لكن يمكن تطبيقها عليها،
وإليك جملة منها:
۱- خبر
علي بن أبي حمزة ، أنّه سأل
أبا الحسن عليه السلام عن المطلّقة على غير السنّة، أيتزوّجها الرجل؟ فقال: «ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، وتزوّجوهنّ فلا بأس بذلك».
وهذا النصّ لا إطلاق فيه؛ إذ قال عليه السلام:«ألزموهم من ذلك» يعني من مسألة الطلاق، ولكن رواه الشيخ في موضع آخر مطلقاً، حيث قال عليه السلام: «ألزموهم بما ألزموا أنفسهم»،
لكنّ
الاطمئنان بوحدة الروايتين قد يضرّ بالتمسّك بالإطلاق، إلّا أن يقال: من المحتمل أنّ كلام
الإمام عليه السلام كان مطلقاً، والراوي مرّة احتفظ بالإطلاق وأخرى لم يحتفظ به، ودلالة أحد النقلين على الإطلاق لا يعارضها عدم دلالة النقل الآخر على
الإطلاق .
والمرجع في مثل هذه الموارد إلى ما يختار في الآصول من أصالة عدم الزيادة أو أصالة عدم النقيصة، فإذا اختيرت الآولى لم يعد يمكن
الاستدلال بالرواية؛ لفرض ثبوت قيد (من ذلك)، وأمّا على الثانية فيمكن، ولو قيل بالأخذ بالقدر المتيقّن بعد تساقط الخيارات المحتملة كان المتيقّن جريانها في خصوص الطلاق.هذا، وسند الرواية ضعيف بابن أبي حمزة البطائني المشهور ضعفه.
۲- حديث
أيّوب بن نوح ، قال:كتبت إلى
أبي الحسن عليه السلام أسأله: هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منّا في أحكامهم أم لا؟ فكتب عليه السلام:«يجوز لكم ذلك إذا كان مذهبكم فيه
التقية منهم والمداراة».
ورواه الشيخ في
التهذيب بإسناده إلى علي بن الحسن بن فضّال، وفي طريقه إلى ابن فضّال علي بن محمّد بن الزبير الذي لم تثبت وثاقته، ولكن عبّر عنه بعضهم بالموثّق.
ولعلّ ذلك من جهة تعويض سند الشيخ بسند
النجاشي الصحيح، وهو: محمّد بن جعفر في آخرين عن أحمد بن محمّد بن سعيد، عن علي بن الحسين.
واستشكل فيه بعضهم وذكر بأنّه لا يمكن تصحيح السند بهذا النحو أيضاً.
والحديث مختصّ بما إذا كان الشيعي مجبوراً على متابعتهم،
وهذا غير قاعدة
الإلزام تماماً، فلا علاقة لهذا الحديث بما نحن فيه.
۳- رواية أحمد بن محمّد بن عيسى عن
علي بن مهزيار عن علي بن محمّد عليهما السلام قال: سألته هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منّا في أحكامهم؟ فكتب عليه السلام: «يجوز لكم ذلك- إن شاء اللَّه- إذا كان مذهبكم فيه التقية منهم والمداراة لهم».
وذكر بعضهم أنّ السند صحيح، فإنّ المراد من علي بن محمّد الإمام الهادي عليه السلام الذي كان ابن مهزيار من أصحابه، لا أنّه راوٍ روى عن الإمام عليه السلام، فالسند من
أحمد بن محمّد بن عيسى إليه عليه السلام تامّ، وأمّا الضعف الموجود في بعض طرق الشيخ إلى ابن عيسى فيمكن علاجه بنظرية التعويض.
والمتن قريب من السابق، بل عينه إن لم تكن الرواية متّحدة، فلا يدلّ على شيء.
۴- خبر محمّد بن مسلم عن
أبي جعفر عليه السلام ، قال: سألته عن الأحكام، قال:«تجوز على أهل كلّ ذوي دين ما يستحلّون».وفيه: «ذي دين».
وقد عبّر عن الخبر في الحدائق
بالموثّق.
بالصحيح.
لكن
الشيخ الطوسي رواه في موضع آخر من التهذيب هكذا: محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن الأحكام، فقال عليه السلام: «في كلّ دين ما يستحلفون به»،
وحيث يحتمل وحدة الرواية، بل يكاد يطمئنّ به، فلا يصحّ الاستدلال بها؛ لأنّها على نسخة «يستحلفون»
أجنبية عمّا نحن فيه.
۵- خبر
عبد اللَّه بن محرز ، قلت
لأبي عبد اللَّه عليه السلام : رجل ترك ابنته، وأخته لأبيه،
وأمّه ، فقال: «المال كلّه لابنته، وليس للُاخت من
الأب والامّ شيء»، فقلت: فإنّا قد احتجنا إلى هذا والميّت رجل من هؤلاء الناس، واخته مؤمنة عارفة؟ قال: «فخذ لها النصف، خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنّتهم وقضاياهم».قال ابن اذينة: «فذكرت ذلك لزرارة، فقال: إنّ على ما جاء به ابن محرز لنوراً».
صحيح، إلّاأنّ عبد اللَّه بن محرز لم تثبت وثاقته، إلّاأن يقال: إنّ الرواية صحيحة وإن لم يكن ابن محرز موثّقاً؛ لما ورد عن ابن اذينة عن زرارة في الذيل من الشهادة على صحّة المدلول؛ ولعلّه لذلك عبّر عنه السيّد الخوئي في معجم رجال الحديث بالصحيح، وفي نهاية المرام بالموثّق.
وفي رواية الشيخ زيادة في كلام
زرارة :«خذهم بحقّك في أحكامهم وسنّتهم كما يأخذون منكم فيه».
۶- ما رواه
الحسين بن أحمد المالك ي عن عبد اللَّه بن طاووس،لم يثبت وثاقتهما.
قال: قلت
لأبي الحسن الرضا عليه السلام : إنّ لي ابن أخ زوّجته ابنتي، وهو يشرب الشراب ويكثر ذكر الطلاق، فقال: «إن كان من إخوانك فلا شيء عليه، وإن كان من هؤلاء فأبنها منه، فإنّه عنى الفراق»، قال: قلت: أليس قد روي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال:إيّاكم والمطلّقات ثلاثاً في مجلس، فإنّهنّ ذوات الأزواج؟ فقال: «ذلك من إخوانكم لا من هؤلاء، إنّه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم».
۷- ما رواه
محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال: سألت الإمام الرضا عليه السلام عن ميّت ترك امّه وإخوة وأخوات، فقسّم هؤلاء ميراثه، فأعطوا الامّ السدس، وأعطوا الإخوة والأخوات ما بقي، فمات الأخوات، فأصابني من ميراثه، فأحببت أن أسألك هل يجوز لي أن آخذ ما أصابني من ميراثها على هذه القسمة أم لا؟ فقال:«بلى»، فقلت: إنّ امّ الميّت فيما بلغني قد دخلت في هذا
الأمر - أعني: الدين- فسكت قليلًا، ثمّ قال: «خذه».
۸- رواية عبد الأعلى عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: سألته عن الرجل يطلّق امرأته ثلاثاً، قال: «إن كان مستخفّاً بالطلاق ألزمته ذلك».
ولكنّها قد تكون أجنبيّة عمّا نحن فيه؛ إذ الظاهر أنّها حكم مستقلّ يؤخذ فيه المستخفّ بالطلاق باستخفافه ويلزم به، وكأنّه أشبه شيء بحكم يورد لمواجهة الاستخفاف بالطلاق، اللهمّ إلّاأن يقال بأنّ
الاستخفاف هنا في
اعتقاده بالتطليقات الثلاث لا في فعله.
۹- مرسل
الهيثم بن أبي مسروق ، قال:ذكر عند الإمام الرضا عليه السلام بعض العلويّين ممّن كان ينتقصه، فقال: «أما إنّه مقيم على حرام»، قلت: جعلت فداك، وكيف وهي امرأته؟ قال: «لأنّه قد طلّقها»، قلت:كيف طلّقها؟ قال: «طلّقها وذلك دينه، فحرمت عليه».
ونوقش هذا الخبر- مضافاً إلى الضعف السندي
بالإرسال - بأنّه أعم ممّا نحن فيه؛ إذ لا تعرّض فيه لكون الطلاق قد وقع منه على مذهبه، فإنّه من الجائز أن يكون التحريم بما أنّه دينه، ولو استبصر فصار دينه حلّية الزوجة كانت له حلالًا، بل قوله عليه السلام: «وذلك دينه» ظاهر في ذلك، فيدلّ على التحليل لو استبصر.
۱۰- مكاتبة إبراهيم بن محمّد الهمداني، قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام مع بعض أصحابنا، فأتاني الجواب بخطّه: «فهمت ما ذكرت من أمر ابنتك وزوجها- إلى أن قال-: ومن حنثه بطلاقها غير مرّة، فانظر، فإن كان ممّن يتولّانا ويقول بقولنا فلا طلاق عليه؛ لأنّه لم يأت أمراً جهله، وإن كان ممّن لا يتولّانا ولا يقول بقولنا، فاختلعها منه،فإنّه إنّما نوى الفراق بعينه».
وإبراهيم بن محمّد الهمداني لم تثبت وثاقته.
وقد يناقش الاستدلال بهذه الرواية بأنّ مرجع القبول ليس الإلزام وإنّما عدم تحقّق القصد الجدّي من الشيعي لعلمه بعدم
انعقاد هذا الطلاق، بخلاف غيره فإنّه حيث كان معتقداً به صحّ صدور النيّة الجادّة منه له، فجهة الحكم وملاكه مختلفان في هذه الرواية عمّا يطلب في قاعدة الإلزام.
۱۱- رواية عبد اللَّه بن سنان: سألته عن رجل طلّق امرأته لغير عدّة، ثمّ أمسك عنها حتى انقضت عدّتها، هل يصلح لي أن أتزوّجها؟ قال: «نعم، لا تترك المرأة بغير زوج».
حيث تحمل على طلاق المخالف، واحتمل بعضهم وجود خطأ في النقل أو
النسخ فكانت «لغير سنّة» ثمّ صحّفت لغير عدّة، بقرينة الحديث القادم.
۱۲- خبر
عبد الرحمن البصري ، قلت له:امرأة طلقت على غير السنّة، فقال عليه السلام:«يتزوج هذه المرأة، لا تترك بغير زوج».
وحيث كان سند غير واحد من هذه الروايات ضعيفاً ذكر
السيّد البجنورد ي بأنّه لا ينبغي البحث عن سند الروايات المشتملة على جملة «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»؛ لكمال الوثوق بصدورها عنهم عليهم السلام، وتكرّرها في جملة من الموارد، بل لو ادّعى أحد القطع بصدورها عنهم عليهم السلام فليس مجازفاً فيما يدّعيه.
وذكر بعضهم: أنّ ضعف بعض النصوص لا يضرّ؛ فإنّها متكاثرة متضافرة.
وذكر ثالث: أنّه لا يبقى
للفقيه بملاحظة الأخبار ريب ولا شكّ في صدور القاعدة عنهم عليهم السلام.
وقال السيّد العاملي- بعد نقل بعض الأخبار في مسألة الطلاق الفاقد لأحد الشروط المعتبرة عندنا- «وفي معنى هذه الروايات روايات كثيرة مؤيّدة، يعمل الناس على ذلك من
الأئمّة عليهم السلام إلى زماننا هذا من غير نكير».
وربّما لضعف سند غير واحد من الروايات مع عدم دلالة بعضها أيضاً تحفظ بعض المعاصرين عن الأخذ بها، معتقداً أنّ القاعدة لم تثبت بطريق معتبر، ومن ثمّ فلابدّ من تطبيق تلك المسائل على القواعد البديلة لقاعدة
الإلزام ، كقاعدة المقاصّة النوعية (خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنّتهم وقضاياهم)، وقاعدة
الإقرار ، أي إقرار غير الإمامي على مذهبه ورواياته بموجب أحكامه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۶، ص۳۶۶-۳۷۲.