الصيام في الكفارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
فيتعين مع العجز عن
العتق في
المرتبة؛ ولا تباع ثياب البدن، ولا المسكن في
الكفارة، إذا كان قدر الكفاية، ولا الخادم؛ ويلزم الحر في
كفارة قتل الخطأ أو
الظهار صوم شهرين متتابعين، والمملوك
صوم شهر؛ فإذا صام الحر شهرا ومن الثاني شيئا ولو يوما أتم؛ ولو أفطر قبل ذلك أعاد إلا لعذر
كالحيض،
والنفاس،
والاغماء، والمرض،
والجنون.
وأمّا
الصيام: فيتعيّن مع العجز عن الرقبة ولو أدناها في
المرتّبة ويتحقق بفقد ما مرّ من أسباب القدرة، ومنه الاحتياج إلى الثمن للنفقة والكسوة له ولعياله الواجبي النفقة، ووفاء دينه وإن لم يطالب به.
وهل المعتبر في
النفقة الكفاية على الدوام، بأن يملك ما يحصل من نمائه ما يقوم بكفايته في كلّ سنة، أو قوت السنة، أو اليوم والليلة فاضلاً عمّا يحتاج إليه في الوقت الحاضر من الكسوة والأمتعة؟ أوجه.
واستوجه الأخير جماعة
، وفاقاً
للدروس، ولعلّه لصدق الوجدان لغةً.
ويعارض بعدم الصدق عرفاً وعادةً، وهو الأرجح حيثما حصل بينهما معارضة، مع التأيّد
بأصالة البراءة، والأولوية المستفادة من نفي
الزكاة التي هي أعظم
الفرائض بعد
الصلاة عن مثله بالإجماع والأدلّة.
مع منافاة
الوجوب حينئذٍ للملّة السهلة السمحة، واستلزامه العسر والحرج في
الشريعة المحمّديّة، على المتصدّع بها ألف صلاة وسلام وتحيّة، فالقول بذلك بعيد غايته، كالقول الأوّل.
فإذاً الأوسط أوجه، وإن كان الأخير
أحوط؛ للاتفاق في الظاهر على صحة
العتق من المتكلّف العادم إلاّ في بعض الوجوه المستلزم للنهي عنه، المفسد له لكونه عبادة، ومثّل
بما إذا كان له دين طولب به، وهو حسن إن وجد نهي عن العتق من الخارج، وإلاّ فالمطالبة بمجرّدها وإن أُمر بها غير صالحة للنهي عنه؛ لما تقرّر من أنّ الأمر بالشيء لا يستلزم النهي عن ضدّه، والممثِّل معترف به.
ولا تباع ثياب البدن ولا المسكن في الكفّارة إذا كان كل منهما قدر الكفاية اللائقة بحاله وكذا لا تباع الخادم إذا كان كذلك، بلا خلاف أجده، وهو
الحجّة فيه، مع بعض ما مرّ.
مضافاً إلى الأولوية المستفادة من استثنائها في
الدين بلا خلاف، فإنّ ثبوته فيه مع كونه
حقّ الناس الذي هو أعظم من
حقّ الله سبحانه مستلزم لثبوته في حقه تعالى كما هنا بطريق أولى، كما هو واضح لا يخفى.
مضافاً إلى التأيّد بالصحيح: عن الرجل له دار أو خادم أو عبد، يقبل الزكاة؟ قال: «نعم، إنّ الدار والخادم ليسا بمال»
فتدبّر.
ويلزم الحرّ في
كفّارة قتل الخطاء والظهار بعد العجز عن العتق صوم شهرين متتابعين بلا خلاف، بل عليه
الإجماع كما في كلام جماعة
، وهو الحجّة؛ مضافاً إلى صريح
الكتاب والسنّة.
ثم إن ابتدأ في
الصوم من الهلال اعتبر الشهر الهلالي وإن نقص، بلا خلاف؛ لأنّه المراد شرعاً، بل وعرفاً عند الإطلاق، إلاّ أن يمنع مانع من حمله عليه.
وإن شرع فيه في الأثناء أتمّ العدد ثلاثين يوماً؛ لعدم إمكان حمله على الهلالي، فلو وجب عليه شهران وشرع في الأثناء احتسب الثاني بالهلال، وأكمل الأوّل من الثالث ثلاثين يوماً.
وقيل: بل يكمله منه بقدر ما فات من أوّله؛ لإمكان اعتبار
الهلال فيه
.
وقيل: مع انكسار الأوّل ينكسر الجميع، ويبطل اعتبار الأهلّة؛ لأنّ الثاني لا يدخل حتى يكمل الأوّل
. وهو أحوط، وإن كان الأوّل أشهر، والثاني أظهر؛ لظواهر
النصوص.
ومظهر الثمرة ما لو صام من آخر
رجب يوماً وهو ناقص، ثم أتبعه
بشعبان وهو كذلك، فيقضي تسعة وعشرين على الأوّل، وناقصاً منه بواحد على الثاني، وينتفي التتابع على الثالث في محلّ الفرض؛ لكون الذي صامه ثلاثين، وهو نصف ما عليه، وفي غيره بأن لم يكن بعد الشهرين
رمضان صحّ التتابع إن صام بعد العدد يوماً، ولكن يصوم معه ثلاثين، وذلك واضح.
وأمّا المملوك فالأشهر الأظهر، بل لعلّه عليه عامّة من تأخّر أنّ عليه صوم شهر التفاتاً إلى
الأصل، وقاعدة التنصيف الثابتة
بالاستقراء، واستناداً إلى المعتبرة في الظهار، مع عدم القائل بالفرق، منها الصحيح: «الحرّ والمملوك سواء، غير أنّ على المملوك نصف ما على الحرّ من الكفّارة، وليس عليه
صدقة ولا عتق، إنّما عليه صيام شهر»
.
ونحوه بعينه خبران آخران
، إلاّ أنّ في سند أحدهما محمّد بن حمران، وفي الآخر سهل بن زياد، والأوّل وإن اشترك بين
الثقة والضعيف، إلاّ أنّ
الراوي عنه في سند الفقيه ابن أبي عمير، والثاني وإن ضعف على المشهور، إلاّ أنّه سهل، مع أنّه عند جمع من المحققين ثقة
.
ومع ذلك قصورهما بالشهرة وما قدّمناه من الأصلين منجبر، فيخصّ بهما مع الصحيح المتقدّم عموم الكتاب لو كان، مع أنّه محلّ نظر عند جمع من الأعيان
، وهو ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
ومن هنا يظهر ضعف المحكي عن
الحلبي وابن زهرة والحلّي من اتحاده مع الحرّ، وحجّتهم.
ثم إنّ التتابع هنا ليس المراد منه معناه المفهوم منه لغةً وعرفاً فإذا صام الحرّ شهراً ومن الثاني شيئاً ولو يوماً أتمّ إجماعاً منّا، حكاه جماعة من أصحابنا
، للصحاح، منها: «التتابع أن يصوم شهراً ويصوم من الآخر أيّاماً أو شيئاً منه، فإن عرض له شيء يفطر منه أفطر، ثم قضى ما بقي عليه، وإن صام شهراً ثم عرض له شيء فأفطر قبل أن يصوم من الآخر شيئاً فلم يتابع فليُعِد الصوم كلّه»
الخبر.
والأكثر على جواز التفريق بعد ذلك اختياراً من دون
إثم؛ للأصل، وظاهر الصحيح المعرب عن كون التتابع المأمور به هو ذلك.
خلافاً للمفيد والحلّي وابن زهرة في
الغنية والمرتضى في
الانتصار، مدّعيين عليه الإجماع، وحكي عن الحلبي
، فيأثم، ولعلّهم نظروا إلى اشتراط عروض الشيء في الرخصة في
الإفطار في الصحيح المزبور، الكاشف عن كون المراد من التتابع المعرَّف فيه بصوم شهر ويوم من الثاني: التتابع المجزئ، وهو غير ملازم لجواز التفريق بعده، وإلاّ لما كان لاشتراط العروض في رخصة الإفطار وجه.
وأظهر منه
الموثّق كالصحيح: الرجل يكون عليه صوم شهرين متتابعين أيفرّق بين الأيّام؟ فقال: «إذا صام أكثر من شهر فوصله ثم عرض له أمر فأفطر فلا بأس، فإن كان أقلّ من شهر أو شهراً فعليه أن يعيد الصيام»
.
ويمكن الجواب بأنّ الظاهر من العارضة فيهما ما لم يبلغ حدّ الضرورة المرخّصة لترك
الواجب، وإلاّ فلا فرق بين صورتي الإفطار قبل التتابع بالمعنى المتقدّم وبعده معها، إجماعاً ونصّاً، والحال أنّهما فرّقا بينهما.
فعلى هذا يجب حمل البأس المستفاد من مفهومهما على
الكراهة، أو
استحباب المتابعة، مع أنّ البأس المفهوم في الثانية أعمّ من
الحرمة، فيرجع في مثله إلى أصالة البراءة النافية لها، فما عليه الأكثر أقوى لولا ما مرّ من الإجماعين المتقدّمين المعتضدين بفتاوى كثير من القدماء.
وكيف كان
الاحتياط لا يخفى، سيّما لمن لا يرى العمل بأخبار الآحاد؛ لظهور
الآية في الأمر بالمتابعة العرفية الظاهر في الوجوب، ولا معارض سوى الإجماع على إجزاء التتابع بالمعنى المتقدّم، وهو غير ملازم للرخصة في ترك المتابعة المأمور بها في الآية، ولعلّ ذلك هو المنشأ لفتوى الحلّي بالوجوب
، وهو حسن على أصله الغير الحسن.
وفي تحقّق التتابع بخمسة عشر يوماً في الشهر الواحد كفرض العبد والناذر قولان، أشهرهما ذلك؛ لخبرين وردا في الأخير، ففي أحدهما: في رجل جعل على نفسه صوم شهر فصام خمسة عشر يوماً ثم عرض له أمر، فقال: «جائز له أن يقضي ما بقي عليه، وإن كان أقلّ من خمسة عشر يوماً لم يجزه حتى يصوم شهراً تامّاً»
ونحوه الثاني
.
وقصور
السند بموسى بن بكر بالشهرة منجبر، مع أنّه قيل بحسنه
، وروى عنه في الأوّل فضالة، وقد حكي على تصحيح ما يصح عنه إجماع العصابة
، ومنشأ التعدية إلى فرض العبد عدم القول بالفرق.
وربما قيل بالمنع؛ للأصل، وضعف الروايتين
. ويجابان بما مرّ، فإذاً ما عليه الأكثر أظهر، وإن كان العدم
أحوط.
ويستفاد من هذه المعتبرة أنّه لو أفطر قبل ذلك ولو بعد تمام الشهر الأوّل، واليوم الرابع عشر في الفرض الأخير أعاد ولا خلاف فيه على الظاهر، المصرّح به في
السرائر، وفي الغنية والخلاف
والتحرير عليه الإجماع
، وعن المنتهي أنّه قول علماء
الإسلام، ولا شبهة يعتريه؛ لعدم الامتثال، مضافاً إلى الإجماع وما مرّ من الأخبار الواضحة المنار.
وفي حكمه الأخذ في
الصيام في الزمان الذي لا يحصل معه التتابع ولو كان صائماً بعده، بلا خلاف، وللصحيح: في رجل صام في ظهارٍ شعبان ثم أدركه
شهر رمضان، قال: «يصوم شهر رمضان ويستأنف الصوم، فإن صام في
الظهار فزاد في النصف يوماً قضى بقيته»
.
ولا فرق في الإفطار بين المستند إلى الاختيار والمأمور به من جهة
الشرع بسبب، كالعيد، وأيّام التشريق، فلا يجوز له أن يبتدئ زماناً لا يسلم فيه.
إلاّ إذا كان عدم السلامة لعذرٍ،
كالحيض،
والنفاس،
والإغماء، والمرض،
والجنون فيجزئ حينئذٍ، بلا خلاف؛ للصحاح، منها: عن رجل عليه صيام شهرين متتابعين، فصام شهراً ومرض؟ قال: «يبني عليه، الله حبسه» قلت: امرأة كان عليها صيام شهرين متتابعين، فصامت فأفطرت أيّام حيضها؟ قال: «تقضيها» قلت: فإنّها تقضيها ثم يئست من المحيض؟ قال: «لا تعيدها، قد أجزأها ذلك»
. وفي رواية: «هذا ممّا غلب الله تعالى عليه، وليس على ما غلب الله تعالى عليه شيء»
.
ويستفاد من التعليلين انسحاب الحكم فيما عدا المذكورات من الأعذار التي لم يعلم عروضها في الأثناء، كالسفر الضروري. وإنّما اعتبرنا عدم العلم بالعروض؛ لأنّه معه يكون في ترك التتابع كالمختار؛ لتمكّنه من الإتيان في زمان يحصل فيه. وليس ذلك شرطاً في الحيض؛ للزومه في الطبيعة عادة، والصبر إلى
سنّ اليأس تعزير بالواجب وإضرار بالمكلّف، نعم يمكن اعتباره فيه فيما إذا اعتادته فيما زاد على شهرين، مع احتمال العدم؛ لإطلاق النصوص كالعبارات بعدم الضرر في عروضه، إلاّ أنّ في شموله لمحل الفرض إشكالاً؛ لندرته المانع عن حمل
الإطلاق عليه، فتدبّر.
ومنه يظهر الوجه في اعتبار ما مرّ في النفاس، فلا يجوز للمرأة الابتداء في زمان تقطع بعدم السلامة فيه، بل احتماله هنا أقوى؛ لعدم الإطلاق المتقدّم فيه وإن أطلقت العبارات، مع احتمال أن يراد منها صورة ما إذا ابتدأت بالصوم في زمان لا تعلم بحدوثه فيه وإن احتمل؛ لعدم ضرره؛ لأصالة التأخّر والعدم.
ثمّ إنّ الأصحّ وجوب المبادرة بعد زوال العذر؛ وقوفاً فيما خالف الأصل الدال على لزوم التتابع على محلّ العذر.
خلافاً للدروس، فلا يجب الفور
. وهو ضعيف. والمراد بالوجوب هنا هو الشرطي، بمعنى توقّف التتابع عليه، وإلاّ فالشرعي لا دليل عليه، عدا ما ربما يقال من أنّ الإخلال به ملازم لفساد
العبادة المنهي عنه في
الآية. وفيه نظر، فإنّ العبادة هي الصوم، لا تتابعه، والإخلال مفسد له دون الصوم، فتدبّر.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۲، ص۴۵۵-۴۶۳.