بيع الفضولى
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
(فلو باع الفضولي) ملك الغير من دون
إذنه مطلقاً لم يلزم إجماعاً، بل لم يصحّ إذا كان البيع لنفسه لا للمالك، فيمشي إلى المالك فيشتريه منه، كما صرّح به جماعة، كالفاضلين : العلاّمة في جملة من كتبه كالمختلف والتذكرة، مدّعياً فيها عدم الخلاف فيه بين الطائفة،
والمقداد في شرح الكتاب
وغيرهما،
منزلين الأخبار المانعة عن بيع ما لا يملك والناهية عن شراء المغصوب والسرقة كما في المعتبرة المستفيضة
على ذلك، فلا ينبغي
الاستشكال فيه وإن شمله عموم بعض أدلّة صحّة الفضولي وفتاويه.
وإذا لم يكن
البيع كذلك (فـ) في صحّته حينئذٍ (قولان، أشبههما) وأشهرهما بين المتأخّرين، بل مطلقاً، كما في الروضة وكلام جماعة،
بل قيل : كاد أن يكون إجماعاً
الصحة و (وقوفه على
الإجازة ) من المالك، فإن حَصَلت، وإلاّ انفسخت المعاملة؛ لأنّه عقد صدر من أهله من حيث
استجماعه لشرائط صحّته عدا الملكية، وكان في محلّه، لكون المبيع ممّا يجوز بيعه في حدّ ذاته فيكون صحيحاً، وبالإجازة يصير لازماً، لعموم
الأمر بالوفاء بالعقد، لما تقدّم تحقيقه في صحّة عقد المكره ولزومه بعد الإجازة قريباً.
واشتراط المباشرة للعقد هنا من المالك مدفوع بما دفعنا به اشتراط مقارنة القصد للعقد ثمّة، مع ثبوت عدم
الاشتراط هنا في الجملة، كيف لا وصحّة المعاملة غير منحصرة في صدرها عن المالك خاصّة، لما عرفت من ثبوت
الولاية للأشخاص الستّة بل السبعة. وما أشبه بالمسألة ثبوت الولاية بالوكالة؟! فإنّ المأمور بالوفاء بالمعاملة فيها إنّما هو الموكّل خاصّة دون الوكيل بالضرورة، وليس ذلك إلاّ من حيث رضاه بها ووقوع العقد في ملكه، ولا فرق في ذلك بين تقدّمه عليها أو تأخّره عنها بالبديهة، فيكون المراد من
الآية حينئذٍ وجوب الوفاء بالمعاملة على من وقعت على ملكه مع رضاه بها مطلقا، كان هو مباشراً للعقد أم لا، والقرينة عليه
الإجماع الذي مضى، فتكون عامّة شاملة لمفروض المسألة.
ودعوى اشتراط المباشرة في خصوصها تقييد لها من غير دلالة، فلم تكن مسموعة، هذا.مضافاً إلى فحوى ثبوت الفضولي في
النكاح مطلقاً بالإجماعات المحكية،
والمعتبرة المستفيضة،
بل المتواترة، فإنّ ثبوته فيه مع بناء الأمر فيه على
الاحتياط التامّ، كما يستفاد من النصوص وإجماع العلماء
الأعلام مستلزم لثبوته هنا بطريق أولى؛ لأضعفيّته عنه جدّاً.ولعمري إنّها من أقوى الأدلّة هنا، ولولاه لأشكل المصير إلى هذا القول؛ لحكاية الإجماعين الآتية.
وبمثل هذه الفحوى استدلّ جماعة من أصحابنا في مقامات عديدة، منها : عدم اشتراط تقديم
الإيجاب على القبول في الصيغة بناءً على ثبوته ثمّة، المستلزم لثبوته هنا بالأولويّة المتقدّمة، وارتضاه المشترطون للتقديم أيضاً، إلاّ أنّهم أجابوا
بإبداء الفرق المختصّ به من احتمال منع حياء المرأة غالباً عن اشتراطه فيه، ولا مانع عنه هنا بالمرة، وهو
اعتراف منهم بثبوت الأولوية لولا الفارق المتقدّم إليه
الإشارة .مضافاً إلى خبر البارقي العامّي
المشهور، المجبور ضعفه كقصوردلالته لو كان بالشهرة العظيمة، والأُصول المسلّمة الدافعة للاحتمالات التي يناقش بها في الدلالة، هذا.
وفي الموثق كالصحيح على الصحيح، بل روي بطريق آخر صحيح : «قضى
عليّ عليه السلام في وليدة باعها ابن سيّدها وأبوه غائب، فاشتراها رجل فولدت منه غلاماً، ثمّ قدم سيّدها الأوّل فخاصم سيّدها الأخير فقال : هذه وليدتي باعها ابني بغير إذني، فقال : خذ وليدتك وابنها، فناشده المشتري، فقال : خذ ابنه يعني ابنه الذي باعك الوليدة حتى ينفذ لك البيع، فلمّا أخذه البيّع قال أبوه : أرسل ابني، قال : لا والله لا أُرسل ابنك حتّى ترسل ابني، فلما رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه».
وهو ظاهر الدلالة على المراد، خالٍ عن وصمة الشبهة
والإيراد ، إلاّ ما يتراءى في بادئ النظر من
الإشكال فيه من حيث ظهوره في ردّ
الأب بيع
الابن أوّلاً، والقائل بالفضولي يقول بصحّته مع عدمه.ويمكن دفعه بعدم ظهور ما يوجب الظهور فيه، وإنّما غايته الظهور في عدم الرضا
بالإقباض واسترداد الجارية وابنها، وهو غير صريح بل ولا ظاهر فيه، لاحتمال كونه للتردّد الغير الملازم له، فتأمّل.
والقول الثاني وهو فساد الفضولي للطوسي ; في الخلاف والمبسوط، والحلّي وابن زهرة
مدّعياً هو كالأول
الإجماع عليه، مستندين به، ثم
بالأصل ، وأخبار عاميّة هي ما بين ناهية عن بيع ما ليس عنده،
ونافية للبيع عمّا لا يملك،
وزاد الأوّل بأنّه تصرّف في ملك الغير.
وفي الجميع نظر؛
لاندفاع الأصل بما مرّ، كاندفاع الإجماع به، لكونه أكثر وأقوى وأظهر، مع تطرّق الوهن العظيم إليه بعدم وجود قائل به عداهما والحلّي، مع تصريح الأوّل بكون الصحة مذهب قوم من أصحابنا،
وحكي عن عظماء القدماء كالمفيد وابن الجنيد وابن حمزة،
وهو اختياره في النهاية.
وبالجملة : كيف يقبل دعوى الإجماع فيه محلٍّ لم يظهر القائل بمضمونه عدا مدّعيه ، فينبغي طرحه أو تأويله إن أمكن.والأخبار مع ضعفها، ومعارضتها بأقوى منها سنداً ودلالة غير واضحة الدلالة.
أمّا الثاني : فباحتمال أن يراد بـ «ما لا يملك» ما لا يصح تملّكه كالحرّ ونحوه، لعدم جواز بيعه كما يأتي، أو رجوع النفي إلى اللزوم، فيكون المراد لا لزوم بيع إلاّ فيما يملك. ومع الاحتمالين لا يتمّ
الاستدلال في البين.وأمّا الأوّل : فلاحتماله المنع عن بيع غير المقدور على تسليمه، كبيع الطير في الهواء ونحوه، ولعلّه الظاهر. وليس المقام منه؛
لإمكان القدرة على تسليمه بإجازة صاحبه، مع احتماله كالثاني ما قدّمناه عن الفاضلين ، مع معارضته بكثير من النصوص المعتبرة المجوّزة لبيع ما ليس عنده، المعربة عن كون المنع عنه مذهب العامّة.
ففي الصحيح : عمّ باع ما ليس عنده : «قال : لا بأس» قلت : إنّ من عندنا يفسده، قال : «ولم؟» قلت : باع ما ليس عنده، قال : «ما يقول في السلف قد باع صاحبه ما ليس عنده»
الخبر.
نعم في الصحيح : في امرأة باعت أرضاً ليست لها، أتعطى المال أم تمنع؟ قال : «ليمنعها أشدّ المنع، فإنّها باعت ما لا تملكه»
ونحوه آخر يأتي .ولهما ظهور في حرمة التصرّف فضولاً، إلاّ أنّه لعلّها لكون البيع لأنفسهما من غير أن يقصدا مالكها، ولا كلام فيها حينئذٍ كما مضى، وصرّح بها جماعة من أصحابنا .ونحوه الجواب عن المعتبرة المستفيضة الناهية عن شراء الخيانة والسرقة،
لظهور سياقها في ذلك.نعم إنّما يكون لها دلالة لو منعت عن الصحة بعد الإجازة من المالك، وليس فيها إليه إشارة فضلاً عن دلالة، بل ظاهرها عدمها، لعدم خبرة صاحبها بها، وعدم
إعلام المشتري له بذلك قطعاً.
مع أنّ غاية شمول النهي فيها للمسألة
إثبات الحرمة، وهي غير ملازم لعدم الصحة، لعدم اقتضائه إيّاه في المعاملة، على الأظهر الأشهر بين الطائفة، ودعوى كون البيع بمجرّده تصرّفاً ممنوعة مع كون المال عند صاحبه مثلاً.وبالجملة : لا ريب في ضعف هذه الأدلّة سيّما في مقابلة تلك، فإذاً المصير إلى الأوّل أقوى، وإن كان الثاني في الجملة أحوط وأولى.
ثم على المختار هل الإجازة كاشفة عن صحّة العقد من حين وقوعه، أم ناقلة له من حينها؟ قولان، الأظهر الأوّل، وفاقاً للأشهر؛ عملاً بمقتضى الإجازة، إذ ليس معناها إلاّ الرضا بمضمون العقد، وليس إلاّ
إنشاء نقل العوضين من حينه.
ووجه الثاني : توقّف التأثير عليه فكان كجزء السبب.وفيه نظر يظهر وجهه مما مرّ.وتظهر الفائدة في النماء المتخلّل بين العقد والإجازة الحاصلة من المبيع، فهو للمشتري على الأوّل، كما أنّ نماء الثمن المعيّن للبائع، وللمالك المجيز على الثاني.
ولو لم يجز المالك رجع في عين ماله ونمائه مطلقاً، وعوض منافعها المستوفاة وغيرها وقيمة التالف من ذلك أو مثله على المشتري؛ للمعتبر بوجود صفوان المجمع على تصحيح رواياته في سنده فلا يضرّ جهالة راوية
وإرساله ، وفيه : عن رجل اشترى جارية من سوق المسلمين فخرج بها إلى أرضه فولدت منه أولاداً، ثمّ أتاه مَن يزعم أنّها له وأقام على ذلك البينة، قال : «يقبض ولده ويدفع إليه الجارية ويعوّضه في قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها».
ثمّ يرجع بذلك كلّه على البائع إذا لم يحصل له نفع في مقابله؛ لنفي الضرر، وللموثق في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجيء مستحق الجارية، فقال : «يأخذ الجارية المستحق ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد، ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أُخذت منه».
ومع حصول النفع فيه إشكال.كلّ ذا إذا لم يكن عالماً أنّه لغير البائع أو ادّعى البائع
الإذن ، وإلاّ لم يرجع بما اغترم، لأنّه غاصب.ولا ينافيه إطلاق الخبرين المتقدّمين؛ فإنّ ظاهرهما بحكم
التبادر للغلبة الجاهل.
وهل يرجع بالثمن؟ المشهور لا مطلقاً؛ لأنّه دفعه إليه وسلّطه عليه مع علمه بعدم
استحقاقه له، فيكون بمنزلة
الإباحة .وقيّده
الشهيد الثاني بما إذا تلف، أمّا مع بقائه فله الرجوع؛ لأنّه ماله وهو متسلّط عليه بمقتضى النص،
ولم يحصل منه ما يوجب النقل عن ملكه؛ لأنّه إنّما دفعه عوضاً عن شيء لا يسلم له لا مجّاناً. قال : بل يحتمل الرجوع مطلقاً وفاقاً للمحقق في بعض فتاواه؛ لتحريم تصرّف البائع فيه؛ لأنّه
أكل مالٍ بالباطل، فيكون مضموناً عليه، ولو لا «ادّعاء العلاّمة في التذكرة الإجماع على عدم الرجوع مع التلف لكان في غاية القوة.
وهو حسن، فتأمّل.
رياض المسائل، ج۸، ص۲۲۱-۲۲۹.