تطهير الأرض المتنجسة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
الأرض تطهر بامور، هي: الماء، والمطر، والشمس، بلا خلاف في ذلك في الجملة وإن وقع الخلاف في بعض التفاصيل وفي
إمكان تطهيرها بالماء القليل أو كيفيّته.
قال المحقّق في
المعتبر : «... الوجه أنّ طهارتها بجريان الماء عليها أو المطر حتى يستهلك النجاسة، أو يزال التراب النجس على اليقين، أو تطلع عليه الشمس حتى يجفّ بها، أو يغسل بماءٍ يغمرها، ثمّ يجري إلى موضع آخر فيكون ما انتهى إليه نجساً. ولو كان مائعاً غير البول طهر بجميع ذلك عدا الشمس... ولو كانت جامدة ازيلت عينها، فإن كانت رطوبتها باقية على
الأرض فهي كالمائع، وإن استهلكت النجاسة العينيّة في التراب لم يطهر إلّا بإزالته».
وقال العلّامة في
التذكرة : «
الأقرب أنّها تطهر بتجفيف الشمس، أو بإلقاء الكرّ أو الجاري أو المطر عليها».
وقال في موضع آخر: «لو أصاب الأرض بول أو ماء نجس ثمّ جرى الماء الكثير عليها أو المطر طهرت، وإن جفّت بالشمس فكذلك...».
وقال في
التحرير : «إنّما تطهر الأرض بإجراء الماء الكثير عليها أو وقوع المطر أو السيل، بحيث يذهب أثر النجاسة، أو بوقوع الشمس حتى يجفّ في البول وشبهه على إشكال...».
ونحوه في المنتهى و
نهاية الإحكام والقواعد.
وفي
المهذب البارع : «تطهر الأرض إذا نجست بأحد امور أربعة:
أ-
إجراء الماء الجاري عليها حتى يستهلك النجاسة.
ب- وقوع الغيث عليها كذلك.
ج-
إلقاء كرّ عليها دفعة مع زوال عين النجاسة عنها.
د- طلوع الشمس عليها حتى تجفّ بها».
وقال
المحدّث البحراني : «الظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في أنّ الأرض متى تنجّست بالبول ونحوه يحصل تطهيرها بإلقاء الكثير عليها، أو الجاري، أو المطر، أو الشمس إذا جفّفت النجاسة على المشهور. وأمّا بالماء القليل فعلى تقدير القول بطهارة الغسالة فلا إشكال أيضاً، وإنّما محلّ الكلام و
الإشكال على تقدير القول بالنجاسة...».
إلى غير ذلك من العبائر.
وعدّ الشيخ ممّا تزول به نجاسة الأرض إزالة الأجزاء النجسة، بأن ينقل جميع الأجزاء الرطبة، أو ينقل التراب حتى يغلب على ظنّه أنّه نقل جميع الأجزاء التي أصابتها النجاسة، ويحكم بطهارة ما عداه.
وكذا في عبارة المحقّق عدّ ممّا تطهر به الأرض إزالة التراب النجس على اليقين.
وذكره صاحب المهذب البارع، معبّراً عنه ب «
اقتلاع النجاسة من الأرض وإزالة عينها منها، كما تلقى النجاسة وما يكتنفها من الدبس أو السمن الجامدين». وأضاف طريقاً آخر، وهو تطيينها بالطين الطاهر الثخين الذي لا تصل النجاسة من باطنه المجاور لها إلى ظاهره.
ولا يخفى أنّ هذين الطريقين ليسا بمطهّرين، بل هما مسوّغان
للانتفاع بالأرض، كما صرّح به العلّامة،
بل وصاحب المهذب البارع نفسه.
ويمكن القول بأنّهما إزالة تكوينيّة للنجاسة لا شرعيّة. والتعبير بكونهما مسوّغين فيه نوع من المسامحة أيضاً وإن كان المقصود واضحاً. هذا ما تطهر به الأرض. وأمّا تفصيله أدلّة وكيفيّة وشروطاً فنقتصر هنا على ما يتعلّق بتطهيرها بالماء، أمّا تطهيرها بالشمس والمطر فمتروك إلى مصطلح (شمس، مطر).
الظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال في تطهير الأرض بالماء الكثير كالكرّ والجاري.
واستدلّ له بمرسلة
الكاهلي عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «... كلّ شيء يراه ماء المطر فقد طهر»،
فإنّها وإن اختصّت بالمطر إلّا أنّه يتعدّى منه إلى الكثير والجاري، باتّحاد حكمهما معه إجماعاً.
وكذا استدلّ له بموثّقة عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أيضاً- في حديث- قال: سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس، ولكنّه قد يبس الموضع القذر، قال: «لا يصلّي عليه، وأعلم موضعه حتى تغسله»،
فإنّها تدلّ بمفهوم الغاية على حصول
التطهير بمجرّد الغسل المحقّق بكلّ من الثلاثة
أي الكثير، والجاري، والمطر.
وكيفيّة ذلك أن يوصل الماء الجاري أو الكثير متّصلًا مستوعباً لها، مع زوال عين النجاسة وأثرها معه أو قبله.
ولا يحتاج إلى تعدّد فيما يجب فيه التعدّد، ولا نجاسة في غسالته.
وعبّر العلّامة في
القواعد بالزائد على
الكرّ ، حيث قال: «وتطهر الأرض بإجراء
الماء الجاري أو الزائد على الكرّ عليها».
بينما عبّر بالكرّ أو الكثير في سائر كتبه.
وفي
كشف اللثام و
مفتاح الكرامة : كأنّه بناه هنا على ما اشعر به كلام له في مادّة الحمّام من
اشتراك كريّتها زيادة على ما يجري منها.
ووافقه على ذلك
المحقّق الثاني فيما إذا اجري الماء عليها شيئاً فشيئاً، حيث قال: «الظاهر أنّه لا تشترط الزيادة على الكرّ إذا صبّ الماء عليها دفعة. نعم، لو اجري منه ساقية بحيث يخرج الماء إلى النجس شيئاً فشيئاً فلا بدّ من الزيادة، بحيث يبقى بعد وروده على المحلّ النجس كرّ».
لكن في كشف اللثام: «لا جهة لشيء من ذلك عندي. وأمّا
اشتراط الزيادة إذا القي الماء عليها دفعة فكأنّه مقطوع بفساده».
ثمّ احتمل «
ابتناء اشتراط الزيادة على بقاء النجاسة أو أثرها في الأرض، بحيث يغيّر شيئاً من الماء، أو بشرب أوّل جزء من الأرض النجسة أوّل جزء ممّا اجري من الكثير بفتح الطريق منه، أو الإلقاء عليه».
ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا إشكال ولا شبهة في اعتبار الاتّصال و
الاستيعاب وزوال عين النجاسة، كما سمعت التصريح به في بعض العبائر المتقدّمة.
هذا، وذكر
ابن فهد الحلّي طريقة اعتبرها حيلة للتخلّص من صعوبة الإتيان بالكرّ وإلقائه، وهي: أن يجعل من الأرض النجسة موضع محصور- كالحوض مثلًا- ويجعل فيه- ولو على شكل دفعات- ما يكون قدره كرّاً فصاعداً ثمّ يرفع الطين من الأرض ليقع الماء الكثير على الأرض النجسة فيطهّرها.
وقع البحث بين الفقهاء في
إمكان تطهير الأرض بالماء القليل وعدمه، ومنشأ الإشكال في ذلك عدم
انفصال ماء الغسالة عنها، فيشكل تطهيرها به على تقدير القول بنجاسة
الغسالة ، كما هو المشهور.
فذهب
الشيخ الطوسي إلى الطهارة، حيث قال في
الخلاف : «إذا بال على موضع من الأرض فتطهيرها أن يصبّ الماء عليه حتى يكاثره ويغمره ويقهره، فيزيل طعمه ولونه وريحه، فإذا زال حكمنا بطهارة الموضع وطهارة الماء الوارد عليه، ولا يحتاج إلى نقل التراب، ولا قلع المكان...».
ثمّ احتجّ له بأنّ التكليف بما زاد على ذلك حرج منفي، وبالرواية العامّية المشهورة المتضمّنة أمر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإهراق ذنوب (الذّنوب: الدلو العظيم، ولا يقال لها ذنوب إلّا وفيها ماء. )
من الماء على بول
الأعرابي لمّا بال في المسجد، حيث قال: «دليلنا: قوله تعالى: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»،
ونقل التراب من الأرض إلى موضع آخر يشقّ. وروى
أبو هريرة ، قال: دخل أعرابي (إلى) المسجد فقال: اللهمّ ارحمني وارحم محمّداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «لقد تحجّرت واسعاً»، قال: فما لبث أن بال في ناحية المسجد، فكأنّهم عجلوا إليه فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ أمر بذنوب من ماء فاهريق عليه، ثمّ قال: «علّموا ويسّروا ولا تعسّروا».
وفيه دليلان:
أحدهما: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصد تطهير المكان عن النجاسة، فأمرهم بما يطهر به، فالظاهر أنّه كلّ الحكم، ولم ينقل أنّه أمرهم بنقل التراب.
والثاني: أنّه لو لم يطهر المكان بصبّ الماء عليه لكان في صبّ الماء عليه تكثير للنجاسة، فإنّ قدر البول دون الماء والبول الذي يجتمع في المسجد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يأمر بطهارة المسجد بما يزيده تنجيساً».
ووافقه على ذلك ابن إدريس.
وقال بعض الفقهاء: إنّه جيّد على أصله من
اختيار طهارة الغسالة.
وظاهر
المحقّق الأردبيلي - بل لعلّه صريحه- اختياره،
بل لعلّ ظاهر
الذكرى و
المدارك الميل إليه.
لكن اقتصر الشيخ في الخلاف والحلّي في
السرائر على التطهير من البول،
وأضاف الشيخ في
المبسوط الخمر.
بينما ظاهر غيرهما منه ومن غيره،
بل في الجواهر أنّ ظاهرهما- أي الخلاف والسرائر- أيضاً ذلك إن حمل البول على المثال.
ثمّ إنّه لا إشكال في الحكم، بناءً على القول بطهارة الغسالة، كما صرّح بذلك بعض الفقهاء.
ففي
الحدائق في مقام بيان ما تطهر به الأرض قال: «... وأمّا بالماء القليل فعلى تقدير القول بطهارة الغسالة فلا إشكال أيضاً (كما تطهر بالكثير)، وإنّما محلّ الكلام والإشكال على تقدير القول بالنجاسة».
وفي الجواهر- بعد أن اختار طهارة ما له مدخليّة في نفس تطهير المتنجس من ماء الغسالة مطلقاً- قال: «ومنه يظهر لك وجه ما في الخلاف والسرائر... ضرورة وضوحه بناءً على طهارة الغسالة مطلقاً، بل وعلى القول بطهارة الأخيرة خاصّة إذا فرض نجاسة الأرض بما لا يحتاج إلى التعدّد، بل وبه أيضاً مع جفاف الغسلة الاولى مثلًا؛ لأنّ أقصاه صيرورة الأرض نجسة بها أيضاً مع النجاسة الاولى فتطهّرهما الغسلة الثانية حينئذٍ، بناءً على عدم
اعتبار التعدّد في طهارة المتنجّس بماء الغسالة وإن كان غسالة واجب التعدّد».
فالبحث مبنيّ على القول بنجاسة الغسالة.
وقد استدلّ للطهارة حينئذٍ- مضافاً إلى خبر الأعرابي المتقدّم في عبارة الخلاف، والذي وصفه بعضهم بالمشهور،
وآخر بالمقبول،
وقال بعضهم: إنّه يشهد له رواية
ابن إدريس له مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستدلّاً به على المختار، مع أنّه لا يعمل بالصحيح من أخبار الآحاد فضلًا عن مثله، مع إمكان دعوى
انجبار ضعف سنده بما سمعت من كونه مشهوراً، بل وإمكان دعوى الشهرة على مضمونه إذا لوحظ القائلون بطهارة الغسالة،
وإلى الحرج والمشقّة؛ لعدم تيسّر غيره في أكثر الأمكنة، خصوصاً إذا تنجّست أرض المساجد والضرائح المقدّسة، ولا يصل إليها الكثير والمطر، ولا يوجد الكرّ، وهو حرج عظيم- بعموم طهوريّة الماء،
وتحقّق صدق الغسل الذي هو بالنسبة إلى كلّ شيء بحسبه، وإمكان كون ماء الغسالة كالمتخلّف في كثير الحشو ونحوه، وخلوّ الأدلّة عن نفيه مع غلبة وقوعه، وقلّة التمكّن من الماء الكثير في الأزمنة السالفة، و
إشعار قول
الإمام الصادق عليه السلام في صحيح
ابن سنان وخبر
أبي بصير بعد سؤاله عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت
المجوس : «رشّ وصلّ»،
بناءً على الظاهر منه من كون ذلك للتطهير لا تعبّداً أو لزوال النفرة أو دفع
الوسواس بفعل ما ينبغي أن يزيده، وكذا إشعار تعليل طهارة السطح بماء الغيث في صحيح
هشام عن أبي عبد اللَّه عليه السلام بأنّ «ما أصابه من الماء أكثر منه
إن لم يجعل اللام فيه للعهد الخارجي أو بمنزلته، وتعليل طهارة ماء
الاستنجاء ب «أنّ الماء أكثر من القذر».
إلّا أنّ جملة من الفقهاء- بل في
المسالك أنّه المشهور
- ذهبوا إلى عدم الطهارة به مع عدم انفصال الغسالة.
مستشكلين في سند رواية الأعرابي؛ لأنّها من طريق العامّة، بل راويها أبو هريرة الذي نقل عن أبي حنيفة
الاعتراف بكذبه وردّ رواياته، بل عن بعضهم أنّهم لا يقبلون رواياته في معالم الحلال والحرام، وإنّما يقبلونها في مثل أخبار الجنّة والنار ونحو ذلك. وفي متنها؛ لأنّها منافية لقاعدة نجاسة الغسالة، وحيث إنّ الماء ماء قليل قد لاقى نجاسة فينجس، ولا يطهر المحلّ.
وعارضه بعضهم بما رواه
ابن معقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «خذوا ما بال عليه من التراب وألقوه وأهريقوا على مكانه ماءً».
وربما حمل الحديث على بعض المحامل أو احتمل فيه بعض الوجوه من
كرّية الذنوب ، أو إرادة ترطيب الأرض بعد أن جفّت لجففها الشمس فتطهّرها، أو كون الأرض حجراً وخروج غسالته إلى خارج المسجد، أو
إزالة نفس العين في التطهير، أو إذهاب رائحة البول أو اللون المكتسب منه، وإزالة تنفّر النفس بمشاهدته، كما أمر بصبغ ثوب الحائض، أو غير ذلك.
وهذه المحامل والوجوه وإن كان بعضها أو كلّها بعيدةً أو خلاف الظاهر- كما وصفها بعض الفقهاء
إلّا أنّها محتملة؛ إذ الرواية
إخبار عن واقعة لا يعلم تفاصيلها.
قال العلّامة- بعد ذكر المحامل والوجوه المتقدّمة-: «وهذه المحامل وإن بَعُدَ بعضها لكنّه محتمل، وحكاية الحال لا توجب العموم».
وقال
الفقيه الهمداني : «... وأمّا الرواية فهي- مع ضعف سندها- لا تنهض حجّة
لإثبات حكم مخالف للقواعد؛ لكونها إخباراً عن قضيّة في واقعة مجملة الوجه، فلعلّ المكان الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصبّ الماء عليه ممّا ينحدر عنه غسالته إلى خارج المسجد أو في بالوعة ونحوها، أو كان رملًا يُطهّر ظاهره بإجراء الماء عليه، ولم يكن الواجب إلّا تطهير ظاهر المسجد، أو كان
الأمر بالصبّ لتوفير البلّة و
استهلاك العين لأن تجفّفها الشمس، إلى غير ذلك من المحتملات».
وقال
الإمام الخميني : «ورواية أبي هريرة- مع كونها ضعيفة... - فيها نقل قضية مجهولة لا يعلم كيفيّتها؛ لاحتمال أنّ الأعرابي بال عند باب المسجد، بحيث صار صبّ ذنوب من الماء عليه موجباً لخروج غسالته عن المسجد».
والمهمّ في عدم إمكان اعتماد الرواية ضعف سندها، مع مخالفتها للُاصول والقواعد، فلا يمكن
الاعتماد عليها.
من هنا شدّد المحدّث البحراني النكير على الشهيد في الذكرى- حيث وصفها بالحديث المقبول- قائلًا: «وليت شعري بأيّ وجه دخلت هذه الرواية في حيّز القبول، أمن جهة راويها أبي هريرة- الذي قد اعترف
أبو حنيفة بكذبه وردّ رواياته، ونقل بعضهم أنّهم لا يقبلون رواياته في معالم الحلال والحرام، وإنّما يقبلونها في مثل أخبار الجنّة والنار ونحو ذلك- أم من حيث
اعتضادها بالاصول الشرعيّة والقواعد المرعيّة؟ ما هذه إلّا مجازفة محضة، ولا أعرف لهذه المقبوليّة وجهاً إلّا مجرّد قول الشيخ بها في هذا الكتاب (أي كتاب الخلاف). وفيه ما لا يخفى على ذوي الأفهام والألباب».
وقال الإمام الخميني أيضاً: «تسميتها مقبولة غير مقبولة، ومجرّد تمسّك شيخ الطائفة بها
إرغاماً للقوم لا يوجب مقبوليّتها...».
وأمّا
الاستدلال للطهارة بالقليل بقاعدة نفي الحرج فلم يقف عنده أكثر من تعرّض للمسألة، وإنّما ركّزوا على الاستدلال بالرواية والمناقشة فيها بما عرفت؛ ولعلّه لعدم تسليم تحقّق موضوعه هنا، وعلى فرضه لا يثبت أكثر من نفي التكليف، كما ذكره الفقيه الهمداني، حيث قال: «لا يخفى عليك أنّ أدلّة نفي الحرج على تقدير تحقق موضوعها لا تقتضي إلّا العفو عن نجاسة المسجد، لا طهارته بصبّ الماء عليه».
وكذا
السيد الحكيم فإنّه في مقام ردّ الاستدلال به على طهارة ما ينفذ فيه الماء ولا يمكن عصره- كالصابون والطين ونحوهما ظاهراً و
باطناً - حيث صرّح بأنّه:
لا مجال للاستدلال به على إثبات الطهارة؛ لأنّ الحرج والضرر لو فرضا فإنّما ينفيان التكليف، ولا يصلحان لإثبات الطهارة.
وكذا لم يتعرّضوا لمناقشة أكثر الأدلّة التي ذكرها صاحب الجواهر من عموم طهوريّة الماء، وتحقّق صدق الغسل الذي هو بالنسبة إلى كلّ شيء بحسبه، وخلوّ الأدلّة عن نفيه مع غلبة وقوعه وقلّة التمكّن من الماء في الأزمنة السالفة؛
إذ هي بناءً على القول بنجاسة الغسالة لا تجدي، ولا تثبت الطهارة.
وأمّا دعوى إشعار قول الإمام الصادق عليه السلام في صحيح ابن سنان وخبر أبي بصير- المتقدّمين- بعد سؤاله عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس: «رشّ وصلّ»
بالاكتفاء في زوال النجاسة عن الأرض بصبّ الماء عليها، وإلّا لم يكن للرشّ في المواضع المذكورة فائدة.
فأُجيب عنه بأنّ من الجائز- بل هو الظاهر- أنّ الأمر بالرش في هذا المقام وكذا في أمثاله من ملاقاة الكلب بيبوسة ونحوه من المواضع إنّما هو تعبّد شرعي، وجوباً أو
استحباباً . ويمكن أن يحمل على طهارة الغسالة، كما هو أحد الأقوال في المسألة، وإلّا للزم زيادة النجاسة وتضاعفها لا زوالها بالنضح، كما أنّه يمكن أن يكون الوجه فيه زوال النفرة أو دفع الوسواس.
وكذا اجيب عن دعوى إشعار تعليل طهارة السطح بماء الغيث في صحيح هشام- المتقدم- بأنّ «ما أصابه من الماء أكثر منه»، بأنّ اللام في (الماء) إنّما هي للعهد الخارجي وهو ماء المطر، لا الذهني بمعنى أيّ ماء كان؛ وذلك لأنّ السؤال إنّما تعلّق بتقاطر المطر على الثوب بعد إصابته السطح النجس، فأجاب عليه السلام بأنّ المطر قد طهر السطح لتدافعه وتكاثره بالوقوع عليه؛ لأنّه في حكم الجاري، فلا بأس حينئذٍ بما يتقاطر منه.
هذا كلّه مع عدم انفصال الغسالة. أمّا مع الانفصال فالظاهر أنّه لا خلاف في تطهيرها بالماء القليل. نعم، الغسالة نجسة، وكذا الموضع الذي تصل إليه يكون نجساً، كما صرّح به بعض الفقهاء،
وهو ظاهر من احتمل في رواية الأعرابي صلابة الأرض وانحدارها كما سمعت،
بل ظاهر النراقي في لوامعه نسبة ذلك إلى جميع القائلين بعدم طهارة الأرض بالقليل.
إلّا أنّ البحث في المقدار المعتبر انفصاله حينئذٍ فأطلق المحقّق في المعتبر من هذه الجهة حيث- بعد أن ردّ كلام الشيخ واستدلاله بقصّة الأعرابي بضعفها ومنافاتها للأصل من نجاسة الغسالة- قال: «الوجه أنّ طهارتها بجريان الماء عليها أو المطر حتى يستهلك النجاسة... أو تغسل بماء يغمرها ثمّ يجري إلى موضع آخر فيكون ما انتهى إليه نجساً».
واخذ عليه عدم تفريقه بين الصلبة والرخوة، مع أنّ الرخوة تنفذ فيها بعض الغسالة،
إلّا أن يغتفر ذلك هنا، كما يغتفر ما يبقى في الحشايا.
إلّا أنّه في الحدائق: القول
باغتفاره رجوع إلى مذهب الشيخ، وهو قد ردّه؛ إذ لا فرق بين البعض والجميع.
من هنا اشترط بعض الفقهاء في تطهيرها بالقليل الصلابة، بحيث يخرج منها ماء الغسالة كلّه أو أكثره على
اختلاف عباراتهم.
قال
الفاضل الإصفهاني : «ولا يطهر بالذنوب من الماء وشبهه من المياه القليلة الراكدة، كما في الخلاف والمبسوط والسرائر وإن قهر النجاسة وأزال أثرها ولم يكن لها عين ولا أثر، وفاقاً للمحقّق، إلّا أن يكون حجراً أو شبهه، بحيث ينفصل عنها الماء انفصاله عن
البدن و
الأواني فيطهر، وينجس المنفصل من الماء وما يلاقيه كسائر الغسالات؛ وذلك
لانفعال القليل بالنجاسة».
وكذا
الشيخ الأنصاري بعد استدلاله على جواز تطهير الأرض بالقليل- بما رواه الشيخ في الموثّق عن
عمّار الساباطي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: أنّه سأل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكنّه قد يبس الموضع القذر؟ قال: «لا يصلّي عليه، وأعلم موضعه حتى تغسله...»،
قائلًا: إنّ ظاهرها جواز غسلها بالماء القليل، والسند لا يخلو عن قوّة؛ لوجود بني فضّال فيها الذين ورد فيهم: «خذوا بما رووا، وذروا ما رأوا»
- قال: «والمسلّم من قاعدة (نجاسة الغسالة) ما إذا جذبت الأرض جميع الغسالة أو أكثرها، وإلّا فلا يخلو جسم من أن يجذب من الغسالة شيئاً على حسب
استعداده ، فإذا كان في الأرض صلابة بحيث ينفصل عنه أكثر الغسالة فلا ينبغي الإشكال في طهارتها بالقليل. نعم، يحكم بنجاسة الموضع الذي ينتقل إليه الغسالة...».
وقال
السيد اليزدي : «الأرض الصلبة أو المفروشة بالآجر أو الحجر تطهر بالماء القليل إذا اجري عليها، لكن مجمع الغسالة يبقى نجساً... وإن كانت الأرض رخوة بحيث لا يمكن
إجراء الماء عليها فلا تطهر إلّا بإلقاء الكرّ أو المطر أو الشمس...».
ولا يخفى أنّ ذكر الأرض المفروشة بالآجر أو الحجر على سبيل المثال. من هنا علّق عليه
السيد الخوئي بالقول: «أو بالقير- أعني
التبليط - أو بغير ذلك من الامور».
وظاهر السيدين الحكيم والخوئي موافقته على ذلك، حيث لم يعلّقا عليه،
بل استدلّ الأخير لعدم طهارة الرخوة بالوصف المذكور باعتبار انفصال الغسالة في التطهير بالماء القليل، والأرض الرخوة لا تنفصل عنها غسالتها، حيث لا تنزل إلى جوف الأرض بتمامها بل يبقى منها مقدار في الأجزاء الأرضيّة، وهو يقتضي تنجّسها.
نعم، وقع الإشكال في الأرض الرمليّة التي يرسب الماء إلى باطنها، فهل يطهر ظاهرها حينئذٍ أم لا؟
ففي العروة- بعد التصريح بعدم طهارة الرخوة بالقليل- قال: «نعم، إذا كانت رملًا يمكن تطهير ظاهرها بصبّ الماء عليها ورسوبه في الرمل فيبقى الباطن نجساً بماء الغسالة، وإن كان لا يخلو عن إشكال، من جهة
احتمال عدم صدق انفصال الغسالة».
لكن دفع الإشكال عنه السيدان الحكيم والخوئي، بأنّ المعتبر إنّما هو انفصال الغسالة عن الموضع المغسول، ولا دليل على اعتبار انفصالها عن تمام الجسم،
والرطوبات الكائنة في الأجزاء المنفصلة عنها غسالتها لا توجب سراية النجاسة إليها، وإلّا لما أمكن تطهير الأراضي الصلبة والبدن ونحوهما من الأجسام فيما إذا اجتمعت غسالتها في موضع آخر منها.
نعم، لو امتلأ العمق بماء الغسالة على نحو يطفح إلى الظاهر، بقي الظاهر على نجاسته.
ولذلك اختار الطهارة فيها أكثر المعلّقين على العروة. نعم، قيّده بعضهم بما إذا كان الراسب بعيداً عن السطح الظاهر، وآخر بالانتقال السريع، وأطلق ثالث مكتفياً بنفي الإشكال عنه؛ وذلك كلّه لعدم اعتبار الانفصال الكامل، بل يكفي
الانتقال ، كما هو ظاهر بعض وصريح آخرين.
ثمّ إنّ بعض الفقهاء ذكر طريقاً للتخلّص من الغسالة، كالشيخ الأنصاري فإنّه قال: «ثمّ إنّه لو اريد أن لا يتنجّس بالغسالة موضع آخر من الأرض فليحفر وسط الأرض حفيرة ينزل إليها الماء ثمّ يطمّها بالتراب الطاهر».
وقال السيد اليزدي: «ولو اريد تطهير بيت أو سكّة فإن أمكن
إخراج ماء الغسالة- بأن كان هناك طريق لخروجه- فهو، وإلّا يحفر حفيرة ليجتمع فيها ثمّ يجعل فيها الطين الطاهر».
ولا يخفى أنّ المسألة أصبحت أسهل في هذا العصر لوجود البالوعات والمجاري في البيوت والمساجد والطرقات.
الموسوعة الفقهية، ج۱۰، ص۱۶۹-۱۸۴.