حرمان الزوجة من بعض الإرث
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
الزوج يرث النصف أو الربع من جميع ما تتركه الزوجة، بلا فرق بين المنقول وغير المنقول من أرض وبناء وغيرهما، أمّا الزوجة فذهب الفقهاء إلى أنّها تحرم من بعض ما تركه الميّت.
قالوا: إنّ
أهل البيت عليهم السلام أجمعوا على حرمان الزوجة من شيء ما،
وأنّه من مختصّات الإماميّة،
وقيل: إنّه لا يوجد مخالف إلّا
ابن الجنيد ،
وخلافه لا يضرّ بالاتّفاق؛ لأنّه قد سبقه
الإجماع وتأخّر عنه.
وأيضاً لا ينافيه عدم تعرّض بعض الكتب حيث إنّ الحكم واضح عند الكلّ حتى أنّ العامّة تعرف ذلك من الإماميّة.
وحكمة حرمانها- على ما جاء في بعض النصوص،
- هي أنّ الزوجة لا نسب بينها وبين الورثة، وإنّما هي دخيل عليهم فربّما تزوّجت بعد الميّت بغيره ممّن كان ينافس الميّت في حياته ويحسده فتسكنه في مساكنه وتسلّطه على عقاره فيحصل على الورثة بذلك غضاضة عظيمة، فاقتضت الحكمة الإلهيّة منعها من ذلك، وإعطاءها القيمة جبراً لها، وهي في قوّة العين، فعدل بذلك عنها بأجمل الوجوه.
وقد وقع البحث لدى الفقهاء في هذه المسألة في موضعين:
أ- فيما تحرم منه الزوجة وحدود ذلك. ب- في من تحرم، وهل هو خصوص غير ذات الولد أو مطلقاً؟ والتفصيل كالتالي:
اختلف الفقهاء فيما تحرم منه الزوجة- بسبب
اختلاف الروايات ظاهراً- على أقوال:
حرمانها من
الأرض ، بياضاً كانت أم مشغولة، عيناً وقيمة ومن عين آلاتها وأبنيتها وتعطى قيمة ذلك، ذهب إليه الشيخ وتابعوه والمحقّق والعلّامة والشهيد وغيرهم،
وهو المشهور،
بل ادّعي عليه الإجماع.
حرمانها من جميع ما تقدّم في القول الأوّل بإضافة الشجر إلى
الآلات بحرمانها من العين دون القيمة، كما صرّح
العلّامة الحلّي و
الشهيد الأوّل في بعض كتبهما،
واسند إلى أكثر المتأخّرين.
وهي الدور والمساكن، دون البساتين والضياع وتعطى قيمة الآلات والأبنية من الدور والمساكن ومن أعيان الأموال الاخرى حتى القرى والضياع، وهذا هو قول
الشيخ المفيد وابن إدريس والمحقّق في النافع وبعض آخر.
حرمانها من عين الرباع خاصة لا من قيمته وتوريثها من عين الأموال الاخرى حتى القرى والضياع، ذهب إليه الصدوق و
السيّد المرتضى والحلبي في
الكافي .
ما عن ظاهر
الإسكافي من عدم حرمانها من شيء.
وقد يقال: إنّ خلوّ جملة من كتب الفقهاء- كالمقنع و
المراسم و
الإيجاز و
التبيان و
مجمع البيان و
جوامع الجامع و
الفرائض النصيرية - عن هذه المسألة، مع وقوع التصريح في جميعها بكون إرث الزوجة ربع التركة أو ثمنها، الظاهر في العموم، ربّما يؤذن بموافقة الاسكافي، بل عن
دعائم الإسلام أنّ إجماع الامّة و
الأئمّة على قول ابن الجنيد.
واختار
السيّد الحكيم و
السيّد الإمام الخميني و
السيّد الخوئي القول الثاني حيث صرّحوا بأنّها لا ترث من الأرض لا عيناً ولا قيمةً، وترث ممّا ثبت فيها من بناء وأشجار وآلات وأخشاب ونحو ذلك، ولكن للوارث دفع القيمة إليها ويجب عليها القبول، كما أنّ له أن يدفع لها من العين، كما أنّها تستحقّ قيمة يوم الدفع لا يوم الوفاة ولها
أجرة التأخير؛ لتعلّق حقّها بماليّة العين الخارجيّة.
وصرّح الإمام الخميني بأنّ حقّها يتعلّق بالقيمة من الأوّل فلا يمكن
إجبارها بالأخذ من العين.
كما أنّ هذا هو ظاهر السيّدين الحكيم والخوئي، وظاهر بعضهم أنّ حقّها متعلّق بالذمّة.
ثمّ إنّ منشأ اختلاف الأقوال هو اختلاف الأخبار الواردة بهذا الصدد.
وعليه فلا بدّ من
استعراض الأخبار ثمّ بيان ما استدلّ به لكلّ قول. أمّا النصوص فيمكن تصنيفها إلى أصناف ثلاثة:
النصوص الدالّة على حرمانها من الأراضي والعقار مطلقاً، وهي عدّة روايات:
منها: رواية
زرارة و
محمّد بن مسلم عن
الإمام الباقر عليه السلام قال: «النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئاً».
ومنها: روايتهما الثانية عنه عليه السلام أيضاً: «لا ترث النساء من عقار (العقار: الأرض والضياع والنخل )
الأرض شيئاً».
ومنها: رواية
عبد الملك بن أعين عن الإمام الباقر أو الصادق عليهما السلام قال: «ليس للنساء من الدور والعقار شيء».
ومنها: روايته الاخرى، قال: دعا
أبو جعفر عليه السلام بكتاب علي فجاء به جعفر مثل فخذ الرجل مطويّاً، فإذا فيه: «أنّ النساء ليس لهنّ من عقار الرجل إذا توفّي عنهنّ شيء»، فقال أبو جعفر عليه السلام: «هذا واللَّه خط
علي عليه السلام بيده و
إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ».
النصوص الدالّة على حرمانها من العقار والضياع دون نفس البناء، وهي روايتان:
الاولى: رواية زرارة ومحمّد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السلام: «أنّ النساء لا يرثن من الدور ولا من الضياع (الضياع: الأرض المغلّة. )
شيئاً إلّا أن يكون أحدث بناءً فيرثن ذلك البناء».
الثانية: رواية محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام: «ترث
المرأة الطوب، ولا ترث من الرباع (الرباع: جمع الربع، وهو المنزل ودار الإقامة.)
شيئاً»، قال: قلت: كيف ترث من الفرع ولا ترث من الرباع شيئاً؟ فقال: «ليس لها منه نسب ترث به، وإنّما هي دخيل عليهم، فترث من الفرع ولا ترث من
الأصل ، ولا يدخل عليهم داخل بسببها».
النصوص الدالّة على التفصيل وأنّها لا ترث من الدور والعقار والأراضي، ولكن ترث من قيمة البناء والآلات، وهي أكثر النصوص الواردة في الباب:
منها: رواية زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام: «أنّ المرأة لا ترث ممّا ترك زوجها من القرى والدور والسلاح والدوابّ شيئاً، وترث من المال والفرش والثياب ومتاع البيت ممّا ترك، وتقوّم النقض (النقض: المنقوض من البناء.)
والأبواب والجذوع (الجذوع: ساق النخلة. )
والقصب فتعطى حقّها منه».
ومنها: رواية
ميسر البياع الزطي عن
الإمام الصادق عليه السلام قال: سألته عن
النساء ما لهنّ من الميراث؟ قال: «لهنّ قيمة الطوب والبناء والخشب والقصب، فأمّا
الأرض والعقارات فلا ميراث لهنّ فيه»، قال: قلت: فالبنات؟ قال: «البنات لهنّ نصيبهنّ منه»، قال: قلت: كيف صار ذا ولهذه الثمن ولهذه الربع مسمّى؟ قال: «لأنّ المرأة ليس لها نسب ترث به، وإنّما هي دخيل عليهم، إنّما صار هذا كذا لئلّا تتزوّج المرأة، فيجيء زوجها أو ولدها من قوم آخرين، فيزاحم قوماً آخرين في عقارهم».
ومنها: رواية زرارة و
بكير و
فضيل و
بريد ومحمّد بن مسلم عن الإمام الباقر والصادق عليهما السلام: «أنّ المرأة لا ترث من تركة زوجها من تربة دار أو أرض، إلّا أن يقوّم الطوب والخشب قيمة فتعطى ربعها أو ثمنها».
ومنها: رواية زرارة ومحمّد بن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا ترث النساء من عقار الدور شيئاً ولكن يقوّم البناء والطوب وتعطى ثمنها أو ربعها»، قال: «وإنّما ذلك لئلّا يتزوّجن، فيفسدن على
أهل المواريث مواريثهم».
ومنها: رواية
يزيد الصائغ عن الإمام الباقر عليه السلام: «أنّ النساء لا يرثن من رباع الأرض شيئاً، ولكن لهنّ قيمة الطوب والخشب»، قال: فقلت له: إنّ الناس لا يأخذون بهذا؟ فقال: «إذا ولّيناهم ضربناهم بالسوط، فإن انتهوا وإلّا ضربناهم بالسيف عليه».
ومنها: رواية
حمّاد بن عثمان عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّما جعل للمرأة قيمة الخشب والطوب لئلّا يتزوّجن فيدخل عليهم- يعني أهل المواريث- من يفسد مواريثهم».
ومنها: رواية
موسى بن بكر ، قال: قلت لزرارة: إنّ بكيراً حدّثني عن أبي جعفر عليه السلام: «أنّ النساء لا ترث امرأة ممّا ترك زوجها من تربة دار ولا أرض، إلّا أن يقوّم البناء والجذوع والخشب، فتعطى نصيبها من قيمة البناء، فأمّا التربة فلا تعطى شيئاً من الأرض، ولا تربة دار»، قال زرارة: هذا لا شكّ فيه.
ومنها: رواية
الأحول عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا يرثن النساء من العقار شيئاً، ولهنّ قيمة البناء والشجر والنخل»، يعني من البناء الدور، وإنّما عنى من النساء الزوجة.
ومنها: رواية
طربال بن رجاء عن الإمام الباقر عليه السلام: «أنّ المرأة لا ترث ممّا ترك زوجها من القرى والدور والسلاح والدواب شيئاً، وترث من المال والرقيق والثياب ومتاع البيت ممّا ترك، ويقوّم النقض والجذوع والقصب فتعطى حقّها منه».
ومنها: رواية
محمّد بن سنان : أنّ الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: «علّة المرأة أنّها لا ترث من العقار شيئاً إلّا قيمة الطوب والنقض؛ لأنّ العقار لا يمكن تغييره وقلبه، والمرأة قد يجوز أن ينقطع ما بينها وبينه من العصمة، ويجوز تغييرها وتبديلها، وليس الولد والوالد كذلك؛ لأنّه لا يمكن التفصّي منهما، والمرأة يمكن الاستبدال بها، فما يجوز أن يجيء ويذهب كان ميراثه فيما يجوز تبديله وتغييره إذا أشبهه، وكان الثابت المقيم على حاله كمن كان مثله في الثبات والقيام».
وأمّا ما استدلّ به لكلّ قول من الأقوال:
استدلّ للقول الأوّل بأنّه يستفاد من مجموعة النصوص امور بحيث لو انضمّ بعضها إلى بعض ينتج القول الأوّل وهي:
۱- حرمان الزوجة من العقار الوارد في أكثر الروايات. وبالجملة: ما يصدق عليه
اسم الأرض فهي مشمولة لتلك الروايات ولا ينافي ذكر الرباع في القسم الأوّل؛ لأنّهما مثبتان للحكم فيؤخذ بهما معاً.
۲- حرمانها من الأرض الوارد في روايات اخرى ممّا تقدّم.
۳- حرمانها من قيمة الأرض أيضاً، فإنّ ظاهر الروايات- خصوصاً ما ورد فيه التعبير ب «لا ترث من الأرض ولا من العقار شيئاً» - هو عدم
الإرث منها لا عيناً ولا قيمة.
۴- حرمانها من أعيان الآلات والأبنية كما صرّح به في كثير من النصوص.
فتكون نتيجة ذلك حرمانها من الأرض مطلقاً ومن الآلات والأبنية عيناً لا قيمة.
واستدلّ للقول الثاني بما تقدّم في
الاستدلال على المشهور. مضافاً إلى ما ورد في رواية الأحول- المتقدّمة- الدالّة على حرمانها من عين الشجر أيضاً.
واستدلّ للقول الثالث- وهو قول الشيخ المفيد- بأنّ مقتضى عموم الآيات والروايات الدالّة على إرثها أنّها ترث من جميع التركة خرج عنها ما اتّفقت الأخبار والفتاوى عليه وهو أرض الرباع والمساكن عيناً وقيمة وآلاتها عيناً لا قيمة، فيبقى الباقي تحت العموم؛ لأنّه لا بدّ من
الاقتصار على المتيقّن فيما خالف الأصل.
وردّ بأنّ ما مرّ من الأدلّة على خروج غير الرباع والمساكن كافٍ لتخصيص وتقييد العمومات والمطلقات، فلا وجه للاقتصار على المتيقّن مع وجود الدليل.
هذا مضافاً إلى أنّ ما ورد في بعض الأخبار من الاقتصار على الدور والرباع لا يدلّ على نفيه في غير الرباع من الأراضي إلّا بناءً على ثبوت المفهوم للّقب، وقد ثبت في محلّه أنّه لا مفهوم له.
واستدلّ للقول الرابع- وهو قول السيد المرتضى- بأنّه مقتضى الجمع بين العمومات من الآيات والأخبار، وما اتّفق عليه النصّ والفتوى من حرمانها من عين الرباع،
وقيل في توجيه ذلك: إنّ مقتضى العمومات إرثها من العين والقيمة؛ لتبعيّة القيمة للعين، وأدلّة الحرمان تدلّ على المنع منهما فتختصّ روايات المنع بالعين تقليلًا للتخصيص.
وردّ بأنّ الثابت في محلّه أنّ
إطلاق المخصّص يقدّم على إطلاق العامّ، فمع
تسليم الإطلاق لروايات المنع لا وجه للتخصيص، وأنّ العمومات لا تدلّ على إرثها من القيمة إلّا تبعاً للعين، بمعنى الحصّة التوأمة منها، فإذا خصّصت العمومات بها في العين تخصّص قهراً بالنسبة إلى القيمة، و
الالتزام بإرثها الحصّة غير التوأمة مع العين بلا دليل؛ لعدم دلالة العمومات عليه.
واستدلّ للقول الخامس- وهو قول الاسكافي- بالعمومات، وبخصوص خبرين
:
أحدهما: رواية
البقباق و
عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام: في رجل تزوّج
امرأة ثمّ مات، وقد فرض الصداق، قال: «لها نصف
الصداق وترثه من كلّ شيء، وإن ماتت فهو كذلك».
ثانيهما: رواية البقباق و
ابن أبي يعفور عن الإمام الصادق عليه السلام: عن الرجل هل يرث من دار امرأته أو أرضها من التربة شيئاً؟ أو يكون في ذلك بمنزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئاً؟ فقال: «يرثها، وترثه من كلّ شيء ترك، وتركت».
وردّ بأنّ العمومات لابدّ من تخصيصها بالنصوص الصحيحة المعمول بها كما تقدّم. وأمّا الخبران فلا يصلحان لمعارضة تلك النصوص؛ لأنّ الترجيح معها؛ لمخالفتها مع العامّة، ولاشتهارها بين الأصحاب، وهذا من المرجّحات في تعارض الخبرين،
كما ثبت في محلّه.
إلى هنا اتّضح أنّ مقتضى
الصناعة هو ما ذهب إليه المشهور.
ولكن هناك ملاحظات مهمّة على الرأي
المشهور القائل بحرمان الزوجة من إرث الأرض مطلقاً عيناً وقيمة، كما جاء في بعض الدراسات المعاصرة
وهي إجمالًا كما يلي:
وهي
الإيراد على دعوى الإجماع على حرمانها من ميراث الأرض؛ إذ يلاحظ عليه:
۱- بأنّ المقدار الممكن من دعوى الإجماع فيه إنّما هو أصل حرمان الزوجة غير ذات الولد من أعيان الرباع لا من قيمتها، أمّا تحصيله على الحرمان المطلق مشكل مع ذهاب مثل الشيخ الصدوق والسيّد المرتضى و
الحلبي إلى حرمانها من عين الرباع دون القيمة. فإنّ الشيخ الصدوق- بعد أن نقل حديث ابن أبي يعفور عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سألته عن الرجل هل يرث دار امرأته وأرضها من التربة شيئاً؟ أو يكون في ذلك بمنزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئاً؟ فقال: «يرثها وترثه من كل شيء ترك وتركت»
- علّق عليه بقوله: «قال مصنّف هذا الكتاب رحمه الله: هذا إذا كان لها منه ولد، أمّا إذا لم يكن لها منه ولد فلا ترث من الاصول إلّا قيمتها، وتصديق ذلك: ما رواه
محمّد بن أبي عمير ، عن ابن اذينة: «في النساء إذا كان لهنّ ولد اعطين من الرباع»».
وظاهر ذيل عبارته أنّها ترث قيمة تمام الاصول بما فيها الأرض، كما أنّ حديث
ابن اذينة المستند لديه للتفصيل خاصّ بالرباع، بل والتعبير بالاصول أيضاً يناسب ما فيه أصل وفرع وهو الدور والرباع لا الأراضي
الجرداء .
وقال السيّد المرتضى: «والذي يقوى في نفسي... أنّ الرباع وإن لم تسلم إلى الزوجات فقيمتها محسوبة لها».
وقال الحلبي: «ولا ترث الزوجة من رقاب
الرباع والأرضين شيئاً، وترث من قيمة آلات الرباع من خشب وآجر كسائر الإرث».
۲- وبأنّا إذا قبلنا الإجماع في هذه المسألة فهو مسبوق بالروايات، ومن الواضح أنّ مثل هذه الإجماعات إن لم يدّع القطع بمدركيّتها فلا أقلّ من
احتمال ذلك.
أنّ الاستدلال بالروايات للمشهور يسجل عليه عدّة ملاحظات هي:
۱- إنّ هذه الروايات المانعة لإرث الزوجة من العقار معارضة مع
القرآن الكريم الصريح في إرث الزوجة الربع أو الثمن من تركة الزوج في قوله تعالى: «وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ»،
وهذه المخالفة ليست بمستوى التخصيص والتقييد ليقال بأنّه لا محذور فيه؛ إذ يمكن تقييد أو تخصيص عمومات الكتاب بالخبر الصحيح، كيف؟! ومجموع هذه الأخبار قد يبلغ حدّ
الاستفاضة ، بل بمستوى المخالفة لظهور قويّ كالصريح؛ لأنّ الزوجة إذا كانت لا ترث من العقار شيئاً فلا محالة سوف يقلّ سهمها عن الربع أو الثمن للتركة. وتقييد إرثها بالربع أو الثمن من غير الأرض والعقار وإن كان يحفظ عنوان الربع والثمن إلّا أنّ هذا عندئذٍ يكون خلاف مقام التحديد، وتعيين السهام بالنسب والفروض، أي يوجب
اختلال الميزان للفرائض والسهام، ويكون أشبه بالألغاز و
التعمية حينئذٍ، وليس بابه باب التقييد والتخصيص.
۲- إنّها معارضة مع الروايات الدالّة على أنّ الزوجة ترث الربع أو الثمن من جميع التركة، وهذه الروايات وإن كانت دلالتها على إرثها من العقار بالإطلاق أو العموم القابل للتخصيص بالروايات المتقدّمة الواردة في خصوص العقار والأرض- كما هو مقتضى صناعة التخصيص- إلّا أنّ في بعض هذه الروايات دلالة أقوى من
الإطلاق والعموم بحيث تأبى عن التخصيص، كرواية عبيد بن زرارة المتقدّمة في دليل القول الخامس، فإنّ التصريح فيها بأنّها ترث من كلّ شيء كالتصريح بالعموم، خصوصاً مع عطف الزوج عليها. ومثل هذا الظهور قد يكون أقوى من ظهور روايات الحرمان في عدم الإرث حتى من قيمة الأرض كالبناء، خصوصاً مع ما تقدّم من أنّ التخصيص في المقام يوجب عدم
انحفاظ سهم الزوجة من التركة بالقياس إلى سائر السهام.
۳- إنّ روايات حرمان الزوجة من العقار معارضة مع ما ورد في خصوص الزوجة المنفردة، وهي روايات عديدة، وقد ورد في بعضها: أنّ التركة كلّها للزوجة، كمعتبرة
أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في امرأة ماتت وتركت زوجها، قال: «المال كلّه له»، قلت: فالرجل يموت ويترك امرأته، قال: «المال لها».
إلّا أنّ أكثرها فصّلت بين الزوج والزوجة عند انفرادهما، وأنّه إذا انفرد الزوج كان المال كلّه له، وإذا انفردت الزوجة فالربع لها والباقي للإمام، كما تقدّم جملة منها في أحوال الزوجين.
وهذه الطائفة من الروايات حيث إنّها واردة في خصوص الزوجة المنفردة بالإرث تكون أخصّ من هذه الناحية من الروايات الدالّة على حرمان الزوجة من إرث العقار، فتخصّصها أو تقع المعارضة بينهما بنحو العموم من وجه ويرجع إلى عمومات التوريث، بل مقتضى التعليل الوارد في تلك الروايات بأنّ ذلك إنّما كان من أجل أن لا تدخل الزوجة على الورثة من يفسد عليهم مواريثهم عدم شمول الحكم لفرض انفرادها بالإرث، وعليه فلا وجه لرفع اليد عن دلالة هذه الروايات على عدم حرمان الزوجة من إرث العقار عند انفرادها.
۴- إنّ روايات حرمان الزوجة عن إرث العقار معارضة مع رواية
ابن أبي يعفور المتقدّمة، وقد وقع السؤال عن الزوج، وأنّه هل يحرم من إرث الرباع كما تحرم الزوجة، فجاء الجواب بالنفي، وأنّها ترثه من كلّ ما ترك، كما أنّه يرثها من كلّ ما تركت، ومثل هذا اللسان لا يمكن تخصيصه بغير العقار؛ لأنّ السؤال وارد عنه فيكون من قبيل تخصيص المورد، بل هو صريح في عدم حرمان أي من الزوج والزوجة عن فرضه فيما تركت وترك سواء في الرباع وغيره، وهذه الدلالة أقوى بكثير من إطلاق (لا ترث الزوجة من العقار شيئاً) في عدم الإرث من قيمة العقار كالبناء والشجر، خصوصاً بقرينة التعليل والخصوصيّات الاخرى في تلك الروايات، فيمكن الجمع بينها بإرادة أنّها ترثه من ماليّة الرباع كما يرثها هو من أعيانها.
ولو وصلت النوبة إلى التعارض فمقتضى القاعدة ترجيح هذه الرواية لموافقتها مع الكتاب، والترجيح بها مقدّم على الترجيح بمخالفة العامّة، فيثبت فتوى ابن الجنيد لو لا الإجماع، والتسالم المدّعى ضمن دليل القول الأوّل، والذي قلنا: إنّه لا يقتضي أكثر من الحرمان من عين العقار لا قيمته. والمحاولة بإسقاط هذه الرواية تارةً من أجل أنّها مورد إعراض الفقهاء، واخرى بأنّها مخالفة للسنّة القطعية.
فقد اجيب عنها:
أوّلًا: بأنّ
الإعراض لم يثبت بعد تصريح مثل
الشيخ الصدوق و
الشيخ الطوسي بالعمل بها في خصوص الزوجة ذات الولد.
وثانياً: بأنّ الإعراض الموهن- بعد
تسليم كبرى وهن السند بالإعراض- إنّما هو الإعراض التعبدي الكاشف عن وجود خلل في سند الخبر، فلا يتمّ فيما يحتمل فيه
استناد الفقهاء إلى قواعد الجمع الدلالي أو السندي بين المتعارضين، كما في المقام.
واجيب عن مخالفتها للسنّة القطعية، بأنّه فرع قطعيّة روايات الحرمان وتواترها- وهو ممنوع- وفرع تماميّة الدلالة على الحرمان عيناً وقيمة بنحو لا يمكن حملها على حرمانها عن خصوص عين العقار لا قيمتها، وجملة من تلك النصوص قابلة للحمل على ذلك، وما لا يمكن حمله على ذلك لا يبلغ حدّ
التواتر .
حكى بعض تلامذة
الشيخ الأراكي عنه أنّه ألحق الزرع الذي لم يستحصد بالشجر والنخل، فترث الزوجة من قيمته دون عينه، وقال في وجه ذلك: إنّ ذكر الشجر في النصوص من باب المثال من دون خصوصيّة فيها،
فيلحق به كلّ ما كان مثله. ونوقش فيه بأنّ حمل الشجر والنخل على المثاليّة لا يقتضي التعدّي إلى الزرع، فإنّه ليس مثل الشجر والنخل؛ إذ المقصود منهما البقاء في الأرض و
الاستفادة من ثمرتهما أو
الاستظلال بهما، بخلاف الزرع فإنّ المقصود منه ما يحصد من الحبوب ونحوه ولا غرض في ابقائهما على الأرض فلا يكون عقاراً بمعنى ما يثبت في الأرض. نعم، يمكن
إلحاق ما يثبت في الأرض من أجل الشجر والأغصان بذلك كالعريش الذي يكون عليه أغصان الكرم بإلغاء الخصوصيّة أو كونها من ملحقات ما يثبت في الأرض، ومنها: بيوت القصب التي يستعملها أهل القرى لرعاية البساتين ونحوها.
قال الإمام الخميني: «الظاهر أنّ الدولاب والعريش الذي يكون عليه أغصان الكرم من غير المنقول».
وقال السيّدان الحكيم والخوئي: «وهل يلحق بذلك الدولاب والمحالة، والعريش الذي يكون عليه أغصان الكرم وجهان، أقواهما ذلك فللوارث إجبارها على أخذ قيمتها، وكذا بيوت القصب».
وفيه قولان:
ذهب المشهور
- وفيهم الشيخان الصدوق والطوسي، والمحقّق والعلّامة الحلّيان، والشهيد
- إلى أنّ الحرمان مختصّ بالزوجة التي لا ولد لها من الزوج، وأمّا ذات الولد فترث من جميع ما تركه الزوج. واستدلّ له بأنّه مقتضى الجمع بين الأخبار المانعة الدالّة بإطلاقها أو عمومها على حرمان مطلق الزوجة سواء كانت ذات ولد أم لا، وبين رواية
عمر بن اذينة الدالّة على أنّ النساء إذا كان لهنّ ولد اعطين من الرباع.
وهي أخصّ من الروايات الدالّة على الحرمان بل ناظرة إلى ذلك الحكم ومفصّلة بين فرض كونها ذات ولد وغير ذات ولد، فتكون مفسّرة وحاكمة على تلك الروايات،
فتكون مقدّمة عليها ومخصّصة للحكم بغير ذات الولد.
والمناقشة فيها بأنّها مقطوعة، ولم يشهد بأنّه نقلها عن المعصوم، فلعلّه نقل فتواه ونظره فلم يحرز كونها رواية أصلًا. مردودة بأنّه من المستبعد جدّاً، بل لعلّه غير معهود عن أصحاب
الأئمّة عليهم السلام - خصوصاً الأجلّاء منهم كابن أبي عمير وابن اذينة- أن يفتوا أصحابهم ورواة الأحاديث عنهم بآرائهم وفتاويهم، كما يستبعد جدّاً عن مثل ابن أبي عمير الراوي عنه- الذي هو من عيون رواة أحاديث الأئمّة عليهم السلام- أن لا يميّز بين فتاوى الأصحاب ورواياتهم، فينقل ما هو فتوى لأحدهم مكان الحديث عن المعصوم، ثمّ تتناقله طبقات الرواة جيلًا بعد جيل وتسجّله كتب الحديث والاصول إلى زمان الشيخين الصدوق والطوسي، وهما باعتبارهما من أبرز خبراء فنّ الحديث رويا الخبر بعنوان حديث المعصوم عليه السلام، ولم يتفوّه أحد منهم بالتشكيك في ذلك،
وعليه فالتشكيك في كونهما رواية عن المعصوم عليه السلام ممّا لا يساعده الدليل.
وكذا المناقشة بأنّها- بعد تسليم صحّة الاستدلال بها- لا تدلّ إلّا على التفصيل المذكور في الزوجة في إرثها عن خصوص الرباع، ولا وجه للتعدّي عنه إلى غيره، فيبقى الباقي تحت العمومات الدالّة على حرمان الزوجة عنه. مردودة بأنّ الرباع هي القدر المتيقّن من الحكم بحرمان الزوجة من إرث الأرض بحيث لا يحتمل فقهيّاً بل ولا عرفاً، وبحسب لسان الروايات ومناسبة التعليل الوارد فيها اختصاص الحرمان بغير الرباع من الأراضي، فتكون الصحيحة دالّة على عدم الحرمان من إرث سائر الأراضي غير الرباع بطريق أولى.
حرمان الزوجة مطلقاً سواء كانت ذات ولد أم لم تكن، ذهب إليه ابن إدريس،
وهو ظاهر جماعة منهم الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي والحلبي،
وعوّلوا في ذلك على إطلاق الأخبار المانعة عن إرثها من الأرض والعقار الشامل لذات الولد وغيرها مثل قول الإمام الباقر عليه السلام: «النساء لا يرثن من الأرض، ولا من العقار شيئاً».
فهي ومثلها التي تقدّمت في عداد الروايات تنفي بإطلاقها إرث الزوجة مطلقاً من الأرض والعقار.
ويظهر هذا القول من إطلاق فتاوى عدّة من أعلام العصر كالسيد الحكيم والإمام الخميني والسيد الخوئي،
ولعلّ الوجه فيه- على ما يبدو من بعض الشرّاح لبعض فتاويهم- أنّه لا دليل على التفصيل بين ذات الولد وغيرها إلّا مقطوعة ابن اذينة وهي لا
اعتبار بها؛ لعدم دليل على صدورها من الإمام.
وقد تقدّمت المناقشة في ذلك آنفاً.
الموسوعة الفقهية، ج۹، ص۲۶۷- ۲۸۲.