حكم وطء المستحاضة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
اختلف الفقهاء في جواز وطء المستحاضة قبل الغسل على أقوال:
جوازه من دون توقّف على الغسل وغيره من أفعال المستحاضة، واختاره جماعة من الفقهاء،
وقد صرّح بعضهم بالجواز- على كراهة- أو رجحان تركه.
توقّف الجواز على جميع أفعال المستحاضة ممّا تستباح به الصلاة من الوضوء والغسل وغسل الفرج وتغيير القطنة والخرقة مع التلوّث. واختاره
المحقّق البحراني والسيّد الطباطبائي،
ونسبه
الفاضل الاصفهاني إلى ظاهر
المقنعة و
الاقتصاد و
الجمل والعقود والكافي و
الإصباح و
السرائر ،
وظاهر بعض آخر نسبة هذا القول إلى ظاهر الأصحاب؛ معلّلين ذلك بأنّهم قالوا: يجوز لزوجها وطؤها إذا فعلت ما تفعله المستحاضة.
توقّف الجواز على الوضوء والغسل دون غيرهما ممّا يجب على المستحاضة، وهو مختار بعض الفقهاء.
توقّف الجواز على الغسل خاصّة، وقد نسب إلى الصدوقين،
وفي
جامع المقاصد الميل إليه، بل القول به، بل
الاعتراف بأنّ الخلاف ليس إلّا فيه، وأنّ المراد بالأفعال في عبارات الفقهاء هو الأغسال؛ إذ لا تعلّق للوطء بالوضوء،
والعلّامة الحلّي في
المنتهى بعد
اختيار هذا القول أسنده إلى ظاهر الأصحاب،
وذهب إليه بعض الفقهاء بنحو الجزم،
أو على سبيل
الاحتياط الوجوبي.
واستدلّ
للجواز مطلقاً:
بالأصل.
بعموم ما دلّ على حلّ الأزواج وما ملكت
الأيمان .
بخصوص قوله تعالى: «وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ»،
فإنّه يدلّ على جواز إتيان الأزواج بعد انقطاع دم الحيض وبعد الطهارة، وان كانت
الاستحاضة متوسّطة أو كثيرة فالاستدلال إنّما هو بإطلاق الآية. واورد على
الاستدلال بهذه الآية بأنّه لا
إطلاق لها؛ لأنّها وردت في مقام رفع المنع والحظر من جهة الحيض فقط، كما اورد على الاستدلال بسابقتها بأنّها ليست إلّا في مقام بيان الحلّية الذاتيّة لا الفعليّة، فهي كقضيّة (الغنم حلال). واورد على الاستدلال بالأخبار الدالّة على جواز وطء الحائض بعد
انقطاع دمها بمثل ما اورد على الاستدلال بالآية الشريفة الثانية.
بالأخبار المشتملة على أحكام الاستحاضة:
منها: صحيح
صفوان عن أبي الحسن عليه السلام قال: قلت له: إذا مكثت
المرأة عشرة أيّام ترى الدم ثمّ طهرت فمكثت ثلاثة أيّام طاهراً ثمّ رأت الدم بعد ذلك أتمسك عن الصلاة؟ قال: «لا، هذه مستحاضة، تغتسل وتستدخل قطنةً بعد قطنة وتجمع بين صلاتين بغسل، ويأتيها زوجها إن أراد».
فإنّ الظاهر منه أنّ جواز الإتيان حكم فعلي من أحكام المستحاضة، كما أنّ الجمع بين الصلاتين بغسل واستدخال القطنة أيضاً من أحكامها، ويقتضي الإطلاق جواز
الإتيان من دون توقّف على الغسل وغيره.
ومنها: صحيح عبد اللَّه بن سنان عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر، وتصلّي الظهر والعصر...ولا بأس أن يأتيها بعلها إذا شاء إلّا أيّام حيضها فيعتزلها زوجها».
فإنّ ظاهره- بقرينة
الاستثناء - أنّ جواز الإتيان من أحكام المستحاضة لا من أحكام التي فعلت الأفعال المذكورة؛ لبطلان الاستثناء لو اريد ذلك، مع أنّ جواز الوطء لا يكون معلّقاً على جميع الأغسال الثلاثة بلا إشكال.
ومنها: صحيح
معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «... وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضّأت ودخلت المسجد وصلّت كلّ صلاة بوضوء، وهذه يأتيها بعلها إلّا في أيّام حيضها».
فإنّ الاستثناء قرينة على أنّ المشار إليها بهذه هي نفس المستحاضة القليلة لا من توضّأت لكلّ صلاة، وعليه فإطلاق الجملة يقتضي جواز الوطء من دون توقّف على شيء، وأمّا
احتمال كون الحكم حيثيّاً فهو بعيد عن ظاهر الرواية ومساقها.
واستدلّ للقول بتوقّف الجواز على مطلق الأفعال بجملة من الأخبار:
منها: خبر
عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن المستحاضة أ يطؤها زوجها؟ وهل تطوف بالبيت؟ قال عليه السلام: «تقعد قرءها... وكلّ شيء استحلّت به الصلاة فليأتها زوجها ولتطف بالبيت».
فإنّه يدلّ على أنّ كلّ شيء استحلّت به الصلاة وكان مبيحاً لها فهو مبيح لإتيان زوجها وطوافها، وعليه فيتوقّف جواز الوطء على جميع أفعال المستحاضة.
ويرد عليه: أنّ الظاهر من
الاستحلال - بقرينة السؤال في صدر الخبر عن
أصل جواز الوطء والطواف لا عن شرطهما- الجواز مقابل الحرمة، لا الصحّة مقابل الفساد، فيدلّ الخبر على جواز الوطء متى جازت لها الصلاة.
وبعبارة اخرى: أنّ الظاهر منه
إرادة الحلّية الذاتيّة الشأنيّة من حلّ الصلاة في مقابل أيّام أقرائها، لا الحلّية الفعليّة و
إباحة الدخول في الصلاة في مقابل المحدث الذي لا يستبيح الصلاة.
فالخبر ليس بصدد بيان أنّ جواز الوطء يتوقّف على صحّة صلاتها فعلًا، وإلّا فلصحّتها وحلّيتها الفعليّة شروط اخرى لا يحتمل دخلها في جواز وطئها أو طوافها كدخول الوقت وطهارة ثوبها وبدنها، مع أنّه لا يحتمل أن يكون طوافها أو وطؤها مشروطاً بدخول الوقت أو طهارة الثوب و
البدن .
ولكن يرد عليه: أنّ الظاهر منه إرادة ما يتوقّف عليه إباحة الصلاة من حيث حدث الاستحاضة.
ثمّ إنّ
الشيخ الأنصاري قد جعل هذا الخبر دليلًا على قوله بتوقّف الجواز على الغسل فقط، وتبعه في ذلك بعض آخر، وسيأتي البحث في ذلك.
ومنها: موثّق فضيل وزرارة عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام الوارد فيه: «... فإذا حلّت لها الصلاة حلّ لزوجها أن يغشاها».
ويرد عليه: أنّ الظاهر من الحلّ فيه- بقرينة سوقه مساق حلّ الصلاة- الجواز مقابل الحرمة، لا الصحّة مقابل الفساد، فيدلّ على جواز الوطء متى جازت لها الصلاة.
وبعبارة اخرى: أنّ الظاهر منه- ولا أقلّ من الاحتمال- وروده في مقام بيان عدم الفرق بين أحكام الحائض، وأنّه عند
استمرار الدم لا تحلّ لها الصلاة في أيّام قرئها، ولا يحلّ لزوجها أن يأتيها، وبعد تلك الأيّام كما تحلّ لها الصلاة يحلّ لزوجها أن يأتيها. والحاصل: أنّ ظاهره إرادة الحلّية الذاتيّة الشأنيّة من حلّ الصلاة في مقابل أيّام أقرائها لا إباحة الدخول في الصلاة في مقابل المحدث الذي لا يستبيح الصلاة.
واستدلّ للقول بتوقّف الجواز على الغسل والوضوء دون سائر أفعال المستحاضة:
بالنصوص التي استدلّ بها للقول المتقدّم، بدعوى انصرافها عمّا عدا الغسل والوضوء من الأفعال التي تكون من قبيل الشرائط الخارجيّة لفعل الصلاة، بلا دخل لها في رفع حدث الاستحاضة، وعليه فيختصّ مدلول تلك النصوص بما هو دخيل في رفع حدث الاستحاضة وهو الغسل والوضوء دون غيرهما.
ويرد عليه: بما تقدّم من أنّ المراد من الحلّية في تلك النصوص هو الحلّية الذاتيّة الشأنيّة لا الفعليّة.
بما ورد عن
محمّد بن خالد عن
إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد اللَّه عليه السلام عن المستحاضة كيف تصنع؟ قال: «إذا مضى وقت طهرها»، إلى أن قال: قلت: يواقعها الرجل؟ قال عليه السلام: «إذا طال بها ذلك فلتغتسل ولتتوضّأ ثمّ يواقعها إذا أراد».
ويرد عليه: أنّه ضعيف سنداً، مع عدم جابر له؛ لندرة القول به، واشتماله على ما لا يقول به المستدلّ وهو
اعتبار طول الزمان، وظهوره في اعتبار كون الغسل والوضوء للوطء الموجب لعدم
الاكتفاء بما فعلته سابقاً، ولعلّه ممّا قام
الإجماع على بطلانه، والحمل على ما إذا أخلّت بالأفعال السابقة بعيد.
واستدلّ للقول بتوقّف الجواز على الغسل خاصّة بعدّة أخبار:
ما ورد عن
مالك بن أعين قال: سألت
أبا جعفر عليه السلام عن المستحاضة كيف يغشاها زوجها؟ قال: «ينظر الأيّام التي كانت تحيض فيها وحيضتها مستقيمة فلا يقربها في عدّة تلك الأيّام من ذلك الشهر، ويغشاها في ما سوى ذلك من الأيّام، ولا يغشاها حتى يأمرها فتغتسل ثمّ يغشاها إن أراد».
ويرد عليه:
أوّلًا: أنّه ضعيف السند بمالك؛ إذ ليس هناك ما يثبت وثاقته. وأمّا تصحيح
العلّامة الحلّي و
الشهيد الثاني حديثاً هو في سنده فهو أعمّ من توثيق الرجل، وما دلّ على حسنه من الروايات فكلّها تنتهي إليه. ومن المعلوم أنّه لا يمكن توثيق الرجل من قول نفسه ونقله، وعليه فالخبر بالنظر إلى مالك ضعيف سنداً. نعم، مع غضّ النظر إليه فهو موثّق وإن كان في سنده (الزبيري) و (
علي بن الحسن بن فضّال )؛ لأنّ الأصحّ وثاقتهما.
وثانياً: أنّ دلالته مخدوشة؛ لاحتمال كون الغسل المأمور به هو غسل الحيض.
إلّا أنّه قد يقال: إنّ حمل الغسل على غسل الحيض بعيد؛ لأنّ ظاهر الخبر توقّف الوطء مطلقاً في غير تلك الأيّام- أي أيّام الحيض- على الغسل، وهو ليس إلّا غسل الاستحاضة.
واورد على ذلك بمنع ظهوره في توقّف كلّ وطء على الغسل، بل من المحتمل قريباً أن يكون مفاده أنّ الوطء مطلقاً فيما سوى الأيّام المذكورة متوقّف على صرف وجود الغسل، وهو غسل الحيض الذي يجب عليها بعد أيّامها.
موثّق سماعة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكلّ صلاتين وللفجر غسلًا، وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكلّ يوم مرّة، والوضوء لكلّ صلاة، وإن أراد زوجها أن يأتيها فحين تغتسل».
واورد على الاستدلال به:
أوّلًا: بأنّ التمسّك به إمّا بمفهوم الشرط، ولا مفهوم له في المقام على فرض تسليمه في غيره؛ لأنّ مفهومه (إن لم يرد زوجها...) ولا إشكال في عدم
إثبات المطلوب، وإمّا بمفهوم القيد؛ بأن يقال: إنّ جواز الإتيان حين الغسل وفي غير حينه لا يجوز، وهو كما ترى، حيث إنّ القيد لا مفهوم له أوّلًا، ولا يعلم أنّ المقدّر ما ذا ثانياً، أي: إن أراد أن يأتيها فحيث تغتسل يأتيها، أو حين تغتسل لا بأس بأن يأتيها، والظاهر وإن كان الأوّل لكن لا يدلّ على حرمة الإتيان؛ لأنّ
الأمر بالإتيان حين تغتسل المستفاد من الجملة الخبريّة يحتمل أن يكون للاستحباب، فيدلّ على نفي
الاستحباب عند
انتفاء القيد.
وثانياً: بأنّه ظاهر في اعتبار معاقبة الوطء للغسل ولم يقل به أحد، والتصرّف فيه بحمله على اعتبار الغسل للصلاة في جواز الوطء ليس بأولى من حمله على الاستحباب.
واجيب عنه بأنّ التعبير عن شرطيّة شيء لشيء من دون اعتبار المعاقبة بمثل ذلك أمر متعارف، فالمراد: من حين تغتسل.
خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه عليه السلام- المتقدّم- الوارد فيه: «... وكلّ شيء استحلّت به الصلاة فليأتها زوجها ولتطف بالبيت»،
فإنّه يدلّ على اعتبار الغسل فقط؛ لأنّ ظاهره اتّحاد ما يستحلّ به الصلاة مع ما يستحلّ به الطواف بالوحدة الشخصيّة لا النوعيّة. ومن المعلوم أنّ الذي يقبل
الاتّحاد الشخصي من المقدّمات الصلاتيّة ليس إلّا الغسل؛ لاحتياج ما عداه إلى التجديد؛ لكون الطواف بمنزلة الصلاة الثانية التي لا تتّحد مع الاولى إلّا في الغسل، فإذا كان الغسل وحده هو المراد في جانب الطواف كان كذلك في جانب الوطء أيضاً، والظاهر اعتبار وصف معاقبة الطواف للصلاة؛ إذ كما يعتبر معاقبة الصلاة الثانية للُاولى في جواز الاكتفاء بغسل الاولى للثانية فكذلك الطواف، وبقرينة ذلك يعلم الحال في الوطء أيضاً، وعلى هذا فبعض الأخبار الظاهرة في اعتبار الوضوء في جواز الوطء مضافاً إلى الغسل محمول على الاستحباب.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۱۶۸- ۱۷۵.