دفع الأرش من غير الثمن
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
بعد البناء
والاتّفاق ظاهراً على أنّ
الأرش هو ما به التفاوت بلحاظ الثمن المسمّى لا بلحاظ القيمة الواقعيّة، وقع الكلام في أنّه هل يتعيّن دفعه من عين الثمن المسمّى أم يجوز أن يكون بمقداره من غيره؟ احتمالان، بل قولان تجدر
الإشارة إلى أنّ ظاهر
المحقق الثاني في جامع المقاصد التردّد في المسألة.
:
ما صرّح به بعضهم بل أكثر من تعرّض للمسألة خصوصاً المحقّقين من المتأخّرين من أنّه لا يجب على البائع أن يدفع الأرش من نفس الثمن، بل يجوز له أن يدفعه من غيره؛ لأنّه غرامة لحقته، لا جزء من الثمن يقابل وصف الصحّة كي يستحقّه المشتري عند فقده.قال العلّامة في
التذكرة : «الأقرب أنّه لا يتعيّن حقّ المشتري فيه، بل للبائع
إبداله ؛ لأنّه غرامة لحقته».
وقال
السيد العاملي : «وحيث ثبت الأرش فإن كان الثمن في ذمّة المشتري بعد برئ عن قدر الأرش عن طلبه، وإن كان قد سلّمه وهو باقٍ في يد البائع فالأقرب أنّه لا يتعيّن حقّ المشتري فيه؛ لأنّه غرامة».
وقال
المحقّق النجفي: «ولو كان الثمن عروضاً استحقّ المشتري قيمة نسبة التفاوت منه، كما أنّه لو كان نقداً لم يستحقّ الأرش في خصوص ما دفعه منه؛ لأنّ التحقيق كون الأرش من الغرامات فالثمن حينئذٍ ملك البائع على كلّ حال...».
واختاره
الشيخ الأنصاري والمحقّق الاصفهاني والسيدان الخميني والخوئي؛
مستدلّين على ذلك بأنّه- بعد كون الأرش غرامة شرعيّة ثابتة على خلاف القاعدة- يكون مقتضى
الأصل عدم تعيّنه من الثمن، وكذا مقتضى البناء العرفي والارتكازات العقلائيّة، مضافاً إلى عدم دلالة الأخبار على التعيّن، بل دلالة
إطلاق بعضها على عدمه، هذا مجمل الدليل، والتفصيل كالتالي:
۱- الأصل: وهو- كما قرّره الشيخ الأنصاري- أصالة عدم تسلّط المشتري على شيء من الثمن، وبراءة ذمّة البائع من وجوب دفعه؛ لأنّ المتيقّن من مخالفة الأصل ضمان البائع؛ لتدارك الفائت الذي التزم وجوده في المبيع بمقدار وقع
الإقدام من المتعاقدين على زيادته على الثمن لداعي وجود هذه الصفة لا في مقابلها، ولا دليل على وجوب كون التدارك بجزءٍ من عين الثمن.
ثمّ ذكر الروايات التي توهم ذلك وأجاب عنها كما يأتي.لكن ناقش المحقّق الخراساني قدس سره في ذلك في حاشيته بأنّه «لا مجال لهذا الأصل إلّا إذا لم يكن هناك إلّا التكليف، وقد شكّ فيه، ولم يحدث بسبب العيب حقّ للمشتري على البائع يجب الخروج عن عهدته، وإلّا فقضيّة أصالة عدم الخروج من العهدة وجوب دفع ما يخرج بدفعه عنها يقيناً كما لا يخفى، ولا شبهة أنّ الحادث بسببه حقّ يسقط
بالإسقاط لا مجرّد تكليف، وإلّا لم يكد يسقط به».
وظاهره انّ الأرش إذا كان حقّاً لا تكليفاً محضاً فالأصل يقتضي
الاحتياط لا البراءة لرجوعه إلى
الشك في السقوط.وقد ناقشه المتأخرون بعدم الفرق بين المطلبين:
قال
المحقّق الاصفهاني : «وحيث إنّ الشكّ في السقوط مسبّب عن الشكّ في كيفيّة الثبوت، فلا مجال للأصل
ابتداءً إلّا فيما يتعلّق بالثبوت إطلاقاً وتقييداً، وحينئذٍ نقول: إنّ الفرق بين الأرش بالمعنى الذي لا يتعيّن بعين الثمن، وبالمعنى المتعيّن بعين الثمن، هو الفرق بين الماهيّة لا بشرط والماهيّة بشرط شيء،
واستحقاق المشتري على البائع للتغريم بما لا تعيّن له معلوم، واستحقاقه للتغريم بما له تعيّن مشكوك، والأصل عدم استحقاقه إيّاه، وهو المراد ممّا في المتن (أي المكاسب) من أصالة عدم تسلّط المشتري على شيء من الثمن، فما يقطع باستحقاق المشتري إيّاه يقطع بسقوطه بدفع الغرامة من غير المسمّى، وما يشكّ في سقوطه به واقعاً لا قطع بثبوته حتى يجب الفراغ عنه جزماً».
ثمّ ذكر بعد ذلك وجهاً آخر للرجوع إلى أصالة عدم تسلّط المشتري على شيء من الثمن قائلًا: «بل التحقيق أنّ الرجوع إلى أصالة عدم تسلّط المشتري ليس ما قرّبناه آنفاً؛ لأنّ الماهية المبهمة لا حكم لها، والماهية اللابشرط القسمي- أي الماهية الملحوظة لا متقيّدة بخصوصيّة الثمن ولا بعدمها- ليست مقطوعاً بها، كيف؟! واستحقاق الخصوصيّة محتمل، فكيف يكون عدم
اقترانها بالخصوصيّة مقطوعاً؟! بل كون الماهية ملحوظة لا بشرط على حدّ كونها ملحوظة بشرط شيء مشكوك، إلّا أنّ أحد المشكوكين مطابق للأصل دون الآخر، فإنّ الفرق بين الملحوظين بتقيّد أحدهما بخصوصيّة الثمن وعدم تقيّد الآخر لا بوجودها ولا بعدمها، فعدم استحقاق الخصوصية مطابق الأصل دون استحقاقها.
والاعتبار اللابشرطي وإن كان مقابلًا لاعتبار البشرط شيء، إلّا أنّ الاعتبار لا أثر له، بل الحكم للمعتبر، ولذا تجتمع الماهية اللابشرط مع الماهية بشرط شيء، فكلا الاعتبارين وإن كان مسبوقاً بالعدم إلّا أنّ المعتبرين متفاوتان في السبق كما عرفت، وبعد التعبّد بعدم استحقاق الخصوصيّة لا مجال للمشتري أن يطالب ببعض الثمن، كما أنّه للبائع
الامتناع إذا طالبه من غير استحقاق، ولا محالة يكون سقوط الحقّ بأداء ما يوازي الثمن معلوماً شرعاً، فلا مجال لأصالة بقائه».
وللسيد الخميني بيان مختصر للأصل في المقام هو: أنّه على فرض الشكّ فالأمر دائر بين المطلق والمقيّد؛ للشكّ في أنّ ما يستحقّه هو نفس الغرامة وما يسدّ به الضرر، أو أنّ لخصوصيّة النقدين أو خصوصيّة الثمن أيضاً دخالة فيه، فالمتيقّن هو أصل ما يسدّ به الضرر والباقي مشكوك فيه يجري فيه الأصل، سواءً كان الأرش من قبيل التكليف، أو من قبيل الديون على الذمّة، أو من قبيل حقّ التغريم كما هو الواقع، فالشكّ مطلقاً يرجع إلى الثبوت، ومقتضى الأصل عدمه، لا إلى السقوط كما يظهر من المحقّق الخراساني وقد اعتمد قدس سره في الاستدلال في المقام على البناء العرفي والارتكازات العقلائيّة، وكذا على إطلاق الروايات كما سيأتي، وصرّح بعدم الحاجة للرجوع إلى الأصل مع وجود الأدلّة الاجتهاديّة، مع أنّ الأصل أيضاً يوافق ذلك..
۲- ما ذكره
السيد الخميني من أنّ ذلك- أي عدم تعيّن دفع الأرش من عين الثمن- مقتضى البناء العرفي والارتكازات العقلائيّة؛ لأنّ رجوع جزء الثمن قهراً- بتخيّل أنّ الثمن موزّع على العين ووصف الصحّة، ومع فقده يستحقّ الجزء؛ لعدم انتقاله رأساً إلى البائع، أو لانفساخ العقد بالنسبة- ممّا تدفعه الضرورة؛ لعدم المقابلة إلّا بين الثمن وذات السلعة، والأوصاف خارجة وإن كانت دخيلة في زيادة القيم ونقصها، ورجوع الجزء بلا
انفساخ ولا مقابلة مذكورة- بمعنى الجمع بين بعض العوض والمعوّض، بدعوى أنّ بناءهم على الرجوع إلى عين ما ذهب من كيسهم- ممنوع، بعد فرض عدم المقابلة المذكورة، وأداء الأمر إلى الجمع الممنوع عرفاً وعقلًا، فلا محالة يكون الرجوع لأجل سدّ الخلّة الحاصلة في تلك المعاملة، وجبر الضرر الناشئ منها.وإن شئت قلت: إنّه ليس نظر العرف في مثل المورد إلّا جبر الضرر من غير لحاظ نفس الثمن أو النقد المماثل له، ولا يرى إلّا استحقاق رجوعه بما تضرّر به فالرجوع ليس إلّا بما يرفع به الضرر
والخسارة من غير دخالة لخصوص الثمن.
۳- إطلاق بعض الروايات، فإنّ مقتضاه عدم الفرق بين الثمن وغيره، كروايتي حمّاد وعبد الملك حيث ورد فيهما: أنّ «له أرش العيب».
بل وغيرهما من روايات المقام ممّا ورد فيه: «يرجع بقيمة العيب»،
أو «يردّ عليه بقدر ما نقصها العيب»،
أو «بقيمة ما نقصها العيب»،
إلى غير ذلك من التعبيرات التي يراد بها الأرش؛
إذ ليس فيها ما يشعر بكون المردود يجب أن يكون من الثمن.
نعم، اقتصر
الشيخ الأنصاري على إطلاق الروايتين الأولتين
دون غيرهما ممّا تضمّن الرجوع بقيمة العيب أو فضل القيمة، ولعلّه- كما ذكر الاصفهاني- لما فيهما من عنوان أرش العيب، وحيث إنّ الأرش تدارك العيب فإطلاقه من حيث التعيّن بخصوص الثمن تجدي لما هو المعروف هنا.
وعلى كلّ حال فإطلاق بعض الروايات أو الكثير منها يقتضي عدم التعيّن من الثمن، ولا دافع لهذا الإطلاق، إلّا ما توهمه بعض الروايات للتعبير فيها عن تدارك العيب بما ظاهره تعيّن
الأداء من الثمن:
منها: ما عبّر فيه بردّ التفاوت إلى المشتري
الظاهر في كون المردود شيئاً كان عنده أوّلًا، وهو بعض الثمن.وأجاب عنه الشيخ الأنصاري ب «أنّ هذا التعبير وقع بملاحظة أنّ الغالب وصول الثمن إلى البائع وكونه من النقدين، فالردّ باعتبار النوع لا الشخص».
لكن ناقش في ذلك المحقّق الاصفهاني بأنّه «مع كونه خلاف الظاهر غير وافٍ بالمراد؛ لأنّ
إرادة النقد من الثمن دون خصوص المسمّى مع
إضافته إلى المبيع لا تناسب التعدّي من خصوص المسمّى لتعيّن النقد في المسمّى بملاحظة إضافته إلى المبيع، فإنّ النقد المضاف إلى المبيع ليس إلّا خصوص المسمّى؛ لوضوح أنّ النقد المطلق لا إضافة له إلى المبيع.وله جواب آخر يأتي في جوابه على الروايات الآتية.
ومنها: ما تضمّن أنّه يردّ بقدر العيب من الثمن، كقوله عليه السلام في صحيح
زرارة :«ويرد عليه بقدر ما نقص من ذلك الداء والعيب من ثمن ذلك...».
وقوله عليه السلام في رواية ابن سنان: «ويوضع عنه من ثمنها بقدر عيب إن كان فيها».
وأجيب عنه بجوابين:
الأوّل: ما أفاده المحقّق الاصفهاني من «أنّ ذكر الثمن (فيهما) إمّا لبيان المخرج لما به التفاوت الواقعي، وإمّا لبيان كون التفاوت الواقعي يلاحظ بالإضافة إلى الثمن المسمّى، لا لبيان مخرجيّة الثمن، والأوّل خلاف المبنى هنا لأنّ الكلام هنا بناءً على أنّ الأرش ما به التفاوت بلحاظ المسمّى لا بلحاظ القيمة الواقعيّة. والثاني غير كافٍ لما نحن فيه؛ لأنّ كون الثمن المسمّى ملحوظاً وظرفاً للنسبة أمرٌ، وكونه مخرجاً أمر آخر».
الثاني: أنّه يحتمل في رواية
زرارة أن يكون المجرور- أي: من ثمن ذلك- متعلّقاً بقوله عليه السلام: «نقص»، فيدلّ على أنّ الذي يجب دفعه مقدار مساوٍ لما نقص من الثمن، وعليه فليس فيها ما يصلح لتقييد الإطلاق، بل مقتضى إطلاقها عدم الفرق بين الردّ من الثمن وغيره، ويحتمل أن يكون المجرور متعلّقاً بقوله عليه السلام «يردّ»، وعليه وإن كانت توهم لزوم الردّ من الثمن إلّا أنّ الظاهر أنّه تعبير جارٍ على طبق التعابير العرفيّة؛ إذ العرف إذا قال: (ارجع إلى ثمنك) لا يقصد به خصوص ما أدّى إلى البائع، بل المراد الرجوع إلى مقداره كان من عينه أم لا.
وأمّا ما في رواية
ابن سنان فالظاهر منه أنّ الثمن فرض كلّياً على ذمّة المشتري كما هو الغالب، فلا يجب حينئذٍ أداء الثمن ثمّ الرجوع بقدر العيب، بل يضع عن الثمن بقدره ويدفع الباقي إلى البائع، وعليه فالدلالة على الوضع من الثمن تكون لخصوصيّة المورد لا لخصوصيّة في الثمن.
ثمّ إنّه بعد كون الغالب كون الثمن كلّياً يصحّ أن يقال: يضع له من الثمن بقدر العيب وإن كان الثمن شخصيّاً، وحينئذٍ وإن كان له ما يطلبه البائع من المشتري عيناً شخصيّة، ويجوز للمشتري أن يدفعه إلى البائع ثمّ يطلب منه حقّه، ولكن لا يجب عليه ذلك، بل له أن يطبّق الكلّي الذي يطلب من البائع على هذا الشخص المعيّن الخارجي.
لكن ناقش فيه المحقّق الاصفهاني بأنّه:«إنّما يسلم ذلك( أنّ الغالب كون الثمن كلّياً فيحتسب الأرش على البائع عند أداء الثمن) فيما إذا اطّلع على العيب بعد العقد وموقع أداء الثمن، لا فيما إذا اطّلع على العيب بعد التصرّف بالوطء، فإنّه بعد أداء الثمن غالباً».
تعيّنه بعين بعض الثمن بناءً على كون الأرش مضموناً ضماناً معاملياً في قبال وصف الصحة على القاعدة، وقد استظهره الشيخ الأنصاري
من تعريف الأرش في كلام الأكثر بأنّه جزء من الثمن يمكن أن يكون مرادهم
إثبات أنّ المضمون وصف الصحّة بما يخصّه من الثمن، لا قيمة العيب كلّها كما ذهب إليه بعض العامّة، وليس مرادهم تعيّن المخرجيّة من عين الثمن، كما ذكر العاملي في
مفتاح الكرامة في شرحه لتعريف العلّامة: الأرش بأنّه بجزء من الثمن نسبته إليه كنسبة نقص قيمة المعيب عن الصحيح. وممّا يؤيّد ذلك أنّه قدس سره ذهب بعد ذلك إلى أنّه لا يتعيّن حقّ المشتري في الثمن؛ لأنّه غرامة. عرّف الأرش بذلك، ثمّ ذهب إلى أنّه لا يتعيّن حقّ المشتري فيه؛ لأنّه غرامة لحقته، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك.،
ومال إليه السيد اليزدي، بل ظاهره اختياره مع مطالبة المشتري مدّعياً أنّه المستفاد من ملاحظة الأخبار، رافضاً دعوى كون التعبير فيها مبنيّاً على
المسامحة ، أو على أنّ الغالب كون الثمن من النقدين، فيكون الردّ باعتبار النوع لا الشخص، مؤيّداً بإمكان القول بمساعدة الاعتبار له؛ إذ هو وإن كان من باب الغرامة، إلّا أنّه إذا فرض بقاء عين ما اغترمه المشتري تعيّن دفعه في مقام التغريم، نظير ما يقال في باب القرض: إنّه لو طالب المقرض عين ماله وكان موجوداً وجب دفعه إليه في مقام الأداء، وإن كان ملكاً للمقترض؛ لأنّه أقرب من المثل والقيمة إلى ذلك الشيء.
واختار هذا القول
المامقاني في مناهج المتّقين حيث قال: «ولمستحقّ الأرش مطالبة صاحبه بعين بعض الثمن مع
إمكان دفعه إليه، وليس لمن عليه إلزامه بالبدل، إلّا مع تعذّر عينه على الأظهر»..
وقد عرفت أجوبة هذا
الاستدلال ممّا تقدّم في وجه القول الأوّل.
الموسوعة الفقهية، ج۱۰، ص۶۳-۷۰.