ستر الرأس للرجل المحرم
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يجب على المحرم في حال الإحرام
الاجتناب عن امور تسمّى بتروك
الإحرام ، منها ستر الرأس للرجل .
لا يجوز للرجل
المحرم ستر رأسه بلا
خلاف فيه،
بل ادّعى غير واحد من الفقهاء
الإجماع عليه،
وذهب إليه
الشيخ المفيد والطوسي وغيرهما.
قال
الشيخ الطوسي : «لا يجوز للمحرم أن يغطّي رأسه، فإن غطّى رأسه ناسياً ألقى
القناع عن رأسه وجدّد
التلبية ، ولا شيء عليه، ولا بأس أن يغطّي وجهه ويعصب رأسه عند الحاجة إليه».
وقال
العلّامة الحلّي : «يحرم على الرجل حال
الإحرام تغطية رأسه، وهو قول علماء الأمصار، ولا نعلم فيه خلافاً».
واستدلّ عليه بالنصوص العديدة
:
منها: ما رواه
عبد الله بن ميمون عن
الإمام الصادق عن
أبيه عليهما السلام، قال: «المحرمة لا تنقّب؛ لأنّ
إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه».
ومنها: ما رواه
حمّاد بن عيسى عن
حريز ، قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن محرم غطّى رأسه ناسياً؟ قال: «يلقي القناع عن رأسه ويلبّي، ولا شيء عليه»،
فإنّ المستفاد منها مبغوضية
تغطية الرأس شرعاً إذا تذكّر.
ومنها: ما رواه
زرارة ، قال: قلت
لأبي جعفر عليه السلام : الرجل المحرم يريد أن ينام، يغطّي وجهه من الذباب؟ قال: «نعم، ولا يخمّر رأسه، والمرأة لا بأس أن تغطّي وجهها كلّه»،
ونحوه خبرا ابن الحجّاج والحلبي، وغيرهما من الروايات.
وقد وقع البحث عن المراد من ستر الرأس، هل أنّه ستر الجميع أو يشمل ستر البعض أيضاً؟ وهل أنّه ستر منابت الشعر فقط فتخرج الاذنان، أو يشملهما؟ وهل أنّه يختص بالمعتاد أو يعمّ غيره؟ وإليك تفصيل ذلك:
ذهب
الفقهاء إلى أنّه لا فرق في ذلك بين ستر كلّ الرأس أو بعضه،
كالعلّامة الحلّي والشهيد وغيرهما،
ويستفاد ذلك من
إطلاق النصوص،
فلا تختصّ الحرمة بتغطية تمام الرأس كما في صحيح
عبد الله بن سنان أنّ أباه شكا إلى أبي عبد اللَّه عليه السلام حرّ الشمس وهو محرم، وهو يتأذّى به، فقال: ترى أن استتر بطرف ثوبي؟ فقال عليه السلام: «لا بأس بذلك ما لم يصبك رأسك»،
فإنّ
إصابة طرف من الثوب تصدق بتغطية بعض الرأس، كما ذهب إليه العلّامة الحلّي والشهيد وغيرهما.
واستدلّ العلّامة الحلّي عليه بأنّ المنع من تغطية الجميع يقتضي المنع من تغطية البعض.
ثمّ استدلّ له بنهي
النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: «لا تخمّروا رأسه»،
فإنّ النهي عنه يقتضي
تحريم فعل بعضه.
ثمّ أضاف قائلًا: «لمّا قال تعالى: «وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ»
حرّم حلق بعض الرأس»،
فكذلك في التغطية.
و
المحقّق الأردبيلي ذهب إلى القول
باختصاص التحريم بجميع الرأس، وأمّا ستر بعضه فلا يحرم؛ إذ الإجماع فيه وشمول الروايات له غير ظاهر، و
الأصل فيه العدم.
ثمّ أيّد ما ذكره بعدم تحريم غمس بعض الرأس في الماء وصبّه عليه، وبصحيحة
محمّد بن مسلم أنّه سأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن المحرم يضع
عصام القربة على رأسه إذا استقى؟ فقال: «نعم».
ثمّ قال: ولا شك أنّه أحوط.
ولكن استشكل بعضهم في
الاستدلال برواية ابن سنان بأنّ المراد من
الاستتار بطرف الثوب هو
الاستظلال به لا ستر الرأس، بقرينة أنّه يتأذّى من حرارة الشمس، ولذا سأل
الإمام عليه السلام عن الاستظلال بطرف منه، وأجاب عليه السلام بالجواز شريطة أن لا يصيب الثوب رأسه، فإذن تدلّ الصحيحة على أنّه يجوز للمحرم أن يستظلّ به من الشمس شريطة أن لا يصيب رأسه، أي لا يستره؛ لأنّ المقصود من النهي عن الإصابة هو النهي عن الستر، وحينئذٍ فلو لم يكن ظاهراً في أنّ النهي إنّما هو عن ستر تمام الرأس فلا يكون ظاهراً في الأعم. هذا مضافاً إلى أنّ الرواية ليست في مقام البيان من هذه الناحية، فالمرجع هو سائر الروايات، وهي ظاهرة في أنّ المحرّم على الرجل المحرم ستر تمام الرأس.
استوجه العلّامة الحلّي في
التحرير دخول الاذنين في الرأس، فيحرم سترهما،
لكنّه لم يختر شيئاً في التذكرة والمنتهى،
بل اكتفى بنقل قولين عن
الجمهور من دون أن يتعرّض لحكم المسألة.
وصرّح
الشهيد الثاني بأنّ المراد من الرأس هنا منابت الشعر خاصّة حقيقة أو حكماً، وفرّع عليه خروج الاذنين،
وحكاه في
المدارك عن جمع من الأصحاب؛
لظهور الأدلّة في تحريم منابت الشعر وما يحلق من الرأس، فلا دليل على تحريم غيره، فالأصل العدم.
ووافق العلّامة الحلّي جماعة من المتأخّرين- كالمحقّق الأردبيلي و
السيد العاملي و
كاشف الغطاء و
السيد الطباطبائي والنراقي
وغيرهم
- فقالوا بدخول الاذنين في الرأس.
وتدلّ على ذلك صحيحة عبد الرحمن،
قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن المحرم يجد البرد في اذنيه، يغطّيهما؟ قال: «لا».
وكذا رواية سماعة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام سألته، عن المحرم يصيب اذنه الريح، فيخاف أن يمرض، هل يصلح أن يسدّ اذنيه بالقطن؟ قال: «نعم، لا بأس بذلك إذا خاف ذلك، وإلّا فلا»،
وهي تدلّ مفهوماً ومنطوقاً على ثبوت البأس وعدم الصلاحية- المثبتة أيضاً للحرمة- مع عدم الخوف، وبها يندفع الأصل المذكور في القول المقابل لذلك.
مضافاً إلى أنّ الرأس في المقام عرفاً عبارة عن العضو الخاصّ المشتمل على الاذنين.
ولو قلنا بأنّ المراد من الرأس منابت الشعر فلازمه خروج الاذنين من الرأس، لكنّه لا يمكن
الالتزام بجواز سترهما أيضاً؛ لأنّ ذلك يعارض النصّ الصريح.
نعم، يجدي ذلك بالنسبة إلى غير الاذنين ممّا هو خارج عن المنبت، ولم يقم دليل على جواز تغطيته، فإنّ مقتضى قول المشهور حينئذ وجوبه، بخلافه إذا بنينا على دعوى الشهيد الثاني، إلّا أنّ
المحقّق النجفي ادّعى عدم وجدان من ذكر وجوب غير الاذنين زائداً على المنابت، بل لعلّ السيرة أيضاً على خلافه.
هل يختصّ الحكم بستر الرأس بحال اليقظة أو يعمّ حال النوم أيضاً؟ الظاهر من الفقهاء حرمة التغطية حتى في حال النوم،
كما صرّح المحقّق النجفي بأنّه لا إشكال في
اقتضاء النصوص والفتاوى حرمة تغطية المحرم رأسه حتى حال النوم،
ومستندهم في ذلك صحيح
زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت المحرم يؤذيه الذباب حين يريد النوم، يغطّي وجهه؟ قال عليه السلام «نعم، ولا يخمّر رأسه، والمرأة المحرمة لا بأس أن تغطّي وجهها كلّه عند النوم»،
وهو صريح في
تعميم المنع عند النوم أيضاً، لكنّه معارض بصحيحته الاخرى عن أحدهما عليه السلام في المحرم، قال: «له أن يغطّي رأسه ووجهه إذا أراد أن ينام».
وقد حمله الشيخ الطوسي وغيره على الضرورة،
بأن يغطي رأسه وتلزمه الكفّارة، أو يحمل على التغطية التي هي
تظليل .
وقد ذكر
المحقّق الخوئي أنّه بعد المعارضة بين الصحيحتين و
التساقط يرجع إلى المطلقات المانعة عن ستر الرأس.
وناقش بعض المتأخّرين عنه في ذلك: بأنّ الصحيحة الثانية نص في الجواز والاولى ظاهرة في الحرمة، فيحمل- بمقتضى القاعدة- الظاهر على النص، فتكون النتيجة: كراهة ستر الرأس في حال النوم، لا حرمته.
ظاهر الفتاوى
عدم الفرق في حرمة الستر بين جميع أفرادها وأقسامها من المعتاد وغيره، كالثوب والخشب والطين والحنّاء والدواء وحمل المتاع أو طَبَق ونحو ذلك، وقد ادّعي عدم الخلاف فيه،
بل نسبه العلّامة الحلّي إلى علمائنا،
وذلك لصدق التغطية والستر، فتشمله الإطلاقات ونحو قوله عليه السلام: «إحرام الرجل في رأسه».
كما أنّ ذلك يظهر من
استثناء عصام القربة وغيره ممّا يكون من الساتر غير المتعارف.
إلّا أنّ المحقّق الأردبيلي مال إلى أنّ ظاهر الدليل هو تحريمه بما يتعارف الستر به في الجملة، فلا يحرم وضع الحنّاء والطين إلّا أن يكون كثيراً؛ لأنّ العرف مقدّم على اللغة، لكنّه احتمل
إمكان إرادة المعنى اللغوي، فيحرم بكلّ ما يستر في الجملة.
وكذا استشكل السيد العاملي في التعميم
استناداً إلى أنّ المنهي عنه في الروايات المعتبرة هو تخمير الرأس ووضع القناع عليه والستر بالثوب، لا مطلق الستر، على أنّ النهي لو تعلّق به لوجب حمله على ما هو المتعارف منه، وهو الستر بالمعتاد إلّا أنّ المصير إلى ما ذكروه أحوط،
وتبعه في ذلك السبزواري و
المحقّق النراقي ،
وبعض الفقهاء المعاصرين كما سيأتي.
وناقشه المحقّق النجفي، فقال: «إنّ النهي عن
الارتماس في الماء وإدخال الرأس فيه- بناءً على أنّه من التغطية أو بمعناها، ولذا لا يختصّ ذلك بالماء (على ما سيأتي)- ظاهر في عدم
اعتبار المتعارف من الساتر، وكذا ما تسمعه من منع المحرمة تغطية وجهها بالمروحة- بناءً على أنّها من غير المتعارف- وعلى تساويهما في ذلك وإن اختلف محلّ إحرامهما بالوجه والرأس وغير ذلك، ولعلّه لذا ونحوه كان الحكم مفروغاً منه عند الأصحاب، بل ظاهر بعضهم الإجماع عليه بيننا».
ولكن مع ذلك كلّه استشكل في التعميم
السيد الگلبايگاني حيث ذهب إلى أنّه متوقّف على
إثبات الإطلاق للروايات كما ورد أنّ إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه، بناءً على
استفادة عدم جواز التستر بشيءٍ من الثياب ونحوه من المتعارف وغيره «وأمّا لو قيل إنّ المراد من الرواية
إلغاء ما هو المتعارف ممّا يستر به الوجه في المرأة المحرمة، ففي المحرم وتغطية الرأس أيضاً كذلك، يعني يجب على المحرم أن يلغي عن رأسه ما هو المتعارف ممّا يستر به الرأس، فحيث إنّ كلّاً من المعنيين محتمل في الرواية لا يصحّ أن يستدلّ بها للمدّعى.
ثمّ ذكر وجوهاً لاستظهار كلّ من المعنيين وعدمهما ولم يختر أحدهما، وكذا استشكل في التمسك باستثناء حبل القراب ووضعه على الرأس لإثبات الإطلاق: بأنّ العموم لم يذكر في رواية حتى يكون حبل القراب مستثنى منه، بل ورد الحبل في سؤال السائل وأجاب الإمام بعدم البأس به، فهو حكم خاص سئل عنه السائل وأجابه الإمام ولم يكن داخلًا في العموم على نحو الجزم والقطع.
ثمّ إنّه وقع البحث في بعض الموارد من حيث صدق التغطية عليها أو لا؟
هو أن يطلي رأسه بعسل أو صمغ ليجتمع الشعر ويتلبّد فلا يتخلّله الغبار ولا يصيبه الشعث ولا يقع فيه الدبيب، فهل هو كالتغطية في عدم الجواز أم لا؟
ذهب العلّامة الحلّي في بعض كتبه
إلى الجواز؛ لما روى ابن عمر، قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهلّ ملبّداً.
وقد يشعر صحيح زرارة بمعروفية ذلك سابقاً،
فإنّه سأل الإمام الصادق عليه السلام عن المحرم هل يحكّ رأسه أو يغتسل بالماء؟ فقال: «يحكّ رأسه ما لم يتعمّد قتل دابة، ولا بأس أن يغتسل بالماء ويصبّ على رأسه ما لم يكن ملبّداً، فإن كان ملبّداً فلا يفيض على رأسه الماء إلّا من
الاحتلام ».
وقد أفتى بمضمونه
الشيخ الصدوق و
الشهيد الأوّل .
وهذا غير صريح في الجواز مطلقاً فضلًا عن فعله اختياراً، ولعلّ منع الملبّد عن الصبّ
احترازاً عن سقوط الشعر.
وقد أشكل كاشف الغطاء في الجواز.
قال المحقّق النجفي: «لا ريب في أنّ
الأحوط إن لم يكن أقوى
اجتنابه إذا كان بحيث يستر بعض الرأس».
وصرّح بعض الفقهاء المعاصرين بأنّ
التلبيد إن كان يستر الرأس أو مقداراً منه بجمع الشعر وضمّ بعضه إلى بعض بحيث يكون خارجاً عن المتعارف، كما في المسح على الشعرات المجتمعة في الرأس، فإنّه يمكن أن يقال إنّه تغطية وتستّر، لكونه بغير المتعارف ممّا يتحقّق به الستر فيشمله حكمه، ولكنّه قد خرج عنه بالدليل.
ذهب الفقهاء إلى جواز تغطية الرأس بشيءٍ من
البدن كاليد،
بينما استشكل فيه العلّامة الحلّي في موضع من
التذكرة ،
وكذا في التحرير.
وكذا استشكل الشهيد في
الدروس بعدم دلالة رواية عمّار الآتية على الجواز، فقال: «وليس صريحاً في الدلالة، فالأولى المنع»؛
لصدق
اسم التغطية عليه.
ومنشأ ذلك دلالة الروايات وصدق الستر على ذلك وعدمه، كصحيح
معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «لا بأس بأن يضع المحرم ذراعه على وجهه من حرّ الشمس، ولا بأس أن يستر بعض جسده ببعض»،
وهي تدلّ على الجواز، وأمّا موثّقة
سعيد الأعرج فهي ظاهرة في المنع، فإنّه سأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن المحرم يستتر من الشمس بعود وبيده؟ قال: «لا، إلّا من علّة».
ونوقش فيها: بكونها واردة في التظليل دون التغطية، لكنّها مع ذلك قاصرة عن
إفادة الحرمة، فتحمل بقرينة رواية عمّار على كراهة الستر باليد.
هذا مضافاً إلى ما دلّ على جواز حكّ الرأس باليد المستلزم لستره.
على أنّ الستر بما هو متصل به لا يثبت له حكم الستر، ولذا لو وضع يديه على فرجه حال الصلاة لم يجزه وإن حصل بهما الستر، وأنّ الواجب على المحرم مسح رأسه في
الوضوء المقتضي لستره بيده،
كما لا يصدق إصابة الثوب والتخمير والتقنّع الواردة في الأخبار على ذلك، وعدم معلومية إرادة نحو ذلك من كون إحرام الرجل في رأسه،
وحينئذٍ فدليل حرمة ستر الرأس قاصر عن
إثبات منع الستر باليد ونحوه من أنواع الستر؛ لأنّ الأخبار منعت عن الستر بالثوب فيتعدّى منه إلى غيره من أنواع الستر حتى بمثل الطين والدواء؛ لأنّه ليس من الستر والتغطية و
التخمير المحرّم عرفاً، لكن لو تعدّى إلى جميع أفراد الستر، اقتصر فيه على الستر بالشيء الخارجي؛
لانسباق ذلك من الأدلّة، وأمّا الستر بأعضاء البدن وبما هو متصل بالرأس فلا تشمله الروايات.
لا إشكال ولا خلاف
في عدم جواز
ارتماس المحرم في الماء،
بل عليه دعوى الإجماع من غير واحد من الفقهاء.
ويدلّ عليه جملة من الأخبار المعتبرة
:
منها: صحيح حريز عن
الإمام الصادق عليه السلام ، قال: «ولا يرتمس المحرم في الماء».
ومنها: صحيح ابن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أيضاً، قال: سمعته يقول: «لا تمسّ
الريحان وأنت محرم- إلى أن قال-: ولا ترتمس في ماء تدخل فيه رأسك».
ونحوهما خبر
صفوان وحمّاد وغيرهما.
والمستفاد من خبر ابن سنان أنّ المراد بالارتماس إدخال الرأس في الماء،
وأنّه لا فرق في ذلك بين الماء وغيره من المائعات بعد أن كان المانع هو التغطية، بل مقتضى ذلك عدم جواز رمس بعض الرأس حينئذٍ فضلًا عن جميعه.
هذا كلّه بناءً على أنّ الارتماس أحد مصاديق التغطية كما لا يخفى، وأمّا بناءً على أنّ الارتماس في الماء حرام بنفسه فقد يقال إنّه لا مانع من الارتماس في غير الماء، كما لو ارتمس في ماء الورد أو الحليب مثلًا؛ لعدم صدق الارتماس في الماء، وهذا بخلاف ما إذا كان الارتماس حراماً من باب التغطية، فيندرج البحث حينئذٍ في حكم التغطية بالمتعارف وغيره.
وكذا لو كان الارتماس من مصاديق التغطية فإنّ
التحريم لا يختصّ بتمام الرأس، بل لا يجوز الارتماس ببعض الرأس أيضاً؛ لعدم جواز ستر بعض الرأس كما تقدّم، ومقتضى ذلك:
اختصاص التحريم بالرجال، وجواز الارتماس للمرأة؛ لاختصاص حرمة التغطية بالرجل، بخلاف ما لو كان الارتماس موضوعاً مستقلّاً.
وسنبحث عن كلا المبنيين.
وهل الارتماس عنوان مستقلّ أو أنّه من مصاديق التغطية؟
قال المحقّق في
الشرائع - بعد أن ذكر تغطية الرأس-: «وفي معناه الارتماس»،
ومقتضى ذلك عدم اختصاص الارتماس بالماء؛ لأنّه جعل الارتماس من فروع التغطية ومصاديقها، فلا فرق بين الماء وغيره، لكنّه قال في باب الكفّارات: «(تجب الكفّارة بشاة) إذا ارتمس في الماء»،
وظاهره أنّ الارتماس في غير الماء ليس له الحكم المذكور.
وذهب المحقّق النجفي إلى أنّ تحريم الارتماس من جهة التغطية، ولكونه من مصاديق ستر الرأس،
كما يظهر من تعليل الفقهاء في وجه حرمة الارتماس، ويظهر أيضاً من ذكره في ذيل مبحث التغطية،
بل هو المنسوب إلى ظاهر الأكثر.
ولكن استظهر بعض الفقهاء المعاصرين- كالسيدين الخوئي والگلبايگاني وغيرهما- أنّ الارتماس موضوع مستقل، وأنّه محرّم على المحرم بعنوانه لا بعنوان كونه مصداقاً لستر الرأس، بلحاظ أنّ الوارد في روايات ستر الرأس حرمة تغطيته بغطاء وتخميره بخمار، وهذا العنوان لا يصدق على غمس الرأس في الماء.
ولو كان الارتماس تغطية لما جاز صبّ الماء على رأسه- كما سيأتي- لا سيّما إذا كان الماء كثيراً، ويشهد له جعل الصائم كالمحرم في حرمة الارتماس في النصوص، ولا يحتمل حرمة الستر على الصائم، فيعلم أنّ الارتماس غير الستر، وأنّ له خصوصية بذاته؛ ولما ورد في الروايات من المنع عن الارتماس في الماء، فلا دليل على تحريمه في غير الماء.
لكن مع ذلك احتاط
السيد الخوئي في الحكم فقال: «لا يجوز للمحرم الارتماس في الماء، وكذلك في غير الماء حتى ببعض رأسه على الأحوط».
ثمّ إنّه لا إشكال في جواز غسل رأسه بصبّ الماء وإفاضته عليه
وادّعي عدم الخلاف في ذلك،
بل ادّعى الشيخ الطوسي والعلّامة الحلّي وغيرهما الإجماع عليه؛
لأنّه ليس من مصاديق التغطية ولا في معناه،
بل قد يقال: إنّه لو صدق عليه الستر والتغطية جاز أيضاً؛ لورود النصّ بذلك،
كرواية حريز عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إذا اغتسل المحرم من
الجنابة صبّ على رأسه الماء يميّز الشعر بأنامله بعضه عن بعض».
وكذا رواية
يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن المحرم يغتسل؟ فقال: «نعم، يفيض الماء على رأسه ولا يدلكه»،
ونحوه خبر زرارة.
يستثنى من حرمة ستر الرأس على المحرم بعض الموارد:
منها: ستر الرأس بعصام القربة، كما هو المتعارف حتى في الأزمنة المتأخّرة، فقد صرّح الفقهاء بجوازه اختياراً،
بل ادّعي عدم الخلاف فيه.
ويدلّ عليه خبر ابن مسلم أنّه سأل الإمام الصادق عليه السلام عن المحرم يضع عصام القربة على رأسه إذا استسقى؟ قال عليه السلام: «نعم»،
فإنّه بإطلاقه يشمل حال
الاختيار أيضاً، وقد عمل به الأصحاب.
وذهب السيد الخوئي- بعد أن استشكل في سند الحديث السابق- إلى الجواز، استناداً إلى أنّ ستر بعض الرأس إذا لم يكن مقصوداً بنفسه فلا مانع منه، وأنّ صحيح ابن سنان الذي منع عن ستر بعض الرأس لا يشمل ذلك؛ لاختصاصه بما إذا كان الستر مقصوداً بنفسه، والإطلاقات غير شاملة لذلك أيضاً، فالمقتضي للمنع قاصر.
هذا مضافاً إلى
السيرة القطعية على ذلك، فإنّ حمل القربة وشدّ حبلها بالرأس أمر متعارف وشائع حتى في زماننا فضلًا عن الأزمنة السابقة، ولو كان ذلك أمراً محرّماً- مع كثرة الابتلاء به- لشاع وبان، مع أنّ عدم الجواز لم يرد في رواية أو يُسمع من أحد، وهذا ما يوجب
الاطمئنان بالجواز، فلا حاجة في الحكم به إلى خبر ابن مسلم لكي يشكل بضعفه.
ذهب الشيخ الطوسي والحلّي وابن سعيد والعلّامة الحلّي وغيرهم إلى جواز تعصيب الرأس بمنديل ونحوه لحاجة كالصداع.
قال الشيخ الطوسي: «يعصب رأسه عند الحاجة إليه».
والمستند في ذلك صحيح
معاوية بن وهب عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «لا بأس بأن يعصب المحرم رأسه من الصداع»،
وقد صرّح بعضهم بعمل الأصحاب به،
ونحوه خبر
صفوان بن يحيى وحسن يعقوب بن شعيب.
إلّا أنّ ابن حمزة أطلق جواز
التعصيب ،
وناقش فيه بعضهم بعدم الدليل على التعميم المزبور، بل ظاهر قوله عليه السلام في صحيح ابن سنان: «لا بأس ما لم يصب رأسك» - في جواب من شكا حرّ الشمس وتستّر بطرف الثوب- خلافه، إلّا أن يدّعى ذلك في خصوص التعصيب، ثمّ أعقب ذلك بقوله: «ولكن إن لم يصل إلى حدّ الضرورة فيه منع واضح.
ومن هنا صرّح بعضهم بأنّ ظاهر الرواية أنّ ذكر الصداع فيها من باب المثال الشامل لكل ضرورة، كما تدلّ عليه أيضاً أدلّة نفي العسر والحرج.
تقدّم أنّ الحكم بحرمة ستر الرأس لا يختصّ بحال اليقظة، بل يعمّ حال النوم أيضاً، إلّا أنّه يستثنى منه ستر بعضه حال النوم بالوسادة أو
العمامة ونحوهما، كما صرّح به العلّامة الحلّي والشهيدان وغيرهم، بل ادّعي الإجماع عليه؛
وذلك لصدق كونه مكشوف الرأس، وأنّه من لوازم النوم الذي هو من الضروريات،
فإنّه لو كان ممنوعاً لكان أمراً واضحاً؛ لغلبة
الابتلاء به، مع وجود السيرة المستمرة على ذلك؛ فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يضعون رءوسهم على الوسادة أو
الأرض ولا أقل من الثاني؛ لضرورة الطبيعة المقتضية لذلك، بل الموجبة له.
مضافاً إلى ما ذكر في صحيحة الحلبي: أنّه «لا بأس أن ينام على وجهه على راحلته»، المستفاد منها أنّ ستر بعض الرأس أمر لازم، وأنّ وضعه على
الوسادة أمر خارج عن مورد النهي.
ومضافاً إلى ما تقدّم من السيد الخوئي بأنّ ستر بعض الرأس إذا لم يكن مقصوداً بنفسه، بل كان القصد فيه
أمراً آخر يستلزم الستر، لم يكن حينئذٍ مشمولًا للنصّ الدالّ على المنع.
لذا استشكل فيه: بأنّه لا يمكن المنع عن ستر بعض الرأس لصرف التمسك بالمطلقات؛ لعدم شمول تلك المطلقات لستر بعض الرأس، وإنّما منعنا عن ستر بعضه لخصوص صحيح ابن سنان المانع عن ستر بعض الرأس، والمستفاد منه كون الستر بنفسه مقصوداً، ولا يشمل ستر البعض الذي لم يكن مقصوداً.
الموسوعة الفقهية، ج۶، ص۵۶۷-۵۷۶.