مبادرة المستحاضة إلى الصلاة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يقع الكلام هنا أوّلًا: في وجوب المبادرة إلى الصلاة بعد الغسل، وثانياً: في وجوبها بعد الوضوء.
أمّا المبادرة إلى الصلاة بعد الغسل فالمشهور وجوبها، بل استظهر
الشيخ الأنصاري من كلمات الفقهاء عدم الخلاف فيه،
وفي الجواهر: أنّه لم يعرف فيه مخالف،
وقد صرّح بذلك جماعة من الفقهاء.
واستدلّ للقول المشهور:
بقاعدة
الاشتغال ، فإنّ ذمّة المستحاضة مشغولة بالصلاة مع الطهارة، وهي تقتضي
الاحتياط بتحصيل العلم بالفراغ الحاصل بالمبادرة لا بغيرها، وهو ظاهر بعد العلم بحدثيّة دم الاستحاضة، وأنّ المتيقّن من العفو عنه وصحّة الصلاة معه هو ما إذا لم يتخلّل بينهما فصل. ويرد عليه: أنّ الرجوع إلى
أصل الاشتغال إنّما يتمّ لو لم يكن دليل اجتهادي على عدم وجوب المبادرة، وإلّا فهو المرجع لا
أصل الاشتغال .
بما دلّ على وجوب الغسل عند كلّ صلاتين كما في خبر
إسحاق و
أبي المغراء،
أو عند
صلاة الظهر كما في صحيح ابن سنان الآتي. فإنّ المراد من قوله عليه السلام: «عند كلّ صلاتين» أو «عند صلاة الظهر» عند
إرادة فعل الصلاة، كما أنّ لفظة (عند) ظاهرة في المقاربة، وبذلك ترفع اليد عن
إطلاق سائر الروايات.
لكن استظهر الشيخ الأنصاري- مضافاً إلى الإطلاقات الواردة في مقام البيان والدالّة على جواز الفصل بين الصلاة والغسل- أن لفظة (عند) مضافة إلى الوقت، أي زمان حضور وقت كلّ صلاة لا حضور فعلها، وشاهد ذلك قوله عليه السلام في صحيح ابن سنان: «... ثمّ تغتسل عند المغرب فتصلّي المغرب والعشاء ثمّ تغتسل عند الصبح فتصلّي الفجر»،
فإنّه لا
إشكال في أنّ المراد هو عند وقت المغرب والصبح، فليكن كذلك في قوله عليه السلام: «عند صلاة الظهر».
وعلى هذا
الاستظهار فلا يستفاد من هذه الروايات لزوم مقارنة الغسل والصلاة. إلّا أنّه يرد عليه: أنّ تقدير المضاف في نفسه خلاف الظاهر، وإطلاق النصوص الاخرى لا يصلح قرينةً عليه؛ لأنّ ظهور المقيّد مقدّم على ظهور المطلق.
بأنّ لفظ الفاء في صحيح ابن سنان المتقدّم ظاهر في التعقيب من غير مهلة.
بالأخبار الآمرة بالغسل والجمع بين الصلاتين؛ لأنّ التأخير إذا لم يجز في الصلاة الثانية لدلالة الروايات على أنّه لا بدّ من أن تجمع بينهما، ولا يجوز أن تؤخّر الثانية عن الاولى لم يجز التأخير في الصلاة الاولى أيضاً بعين ذلك الملاك؛ للقطع بعدم الفرق بينهما من هذه الجهة.
وفي قبال ذلك اختار
الفاضل الإصفهاني و
العلّامة الطباطبائي عدم وجوب المبادرة إلى الصلاة بعد الغسل، وهو
الأقوى عند الشيخ الأنصاري.
واستدلّ له:
بإطلاق النصوص،
كما في موثّق يونس بن يعقوب من قوله عليه السلام: «... فإن رأت الدم دماً صبيباً فلتغتسل في وقت كلّ صلاة».
ومن الواضح أنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يتمّ لو لم يكن ما يقيّده من الوجوه المتقدّمة، وإلّا فلا وجه للتمسّك بالإطلاق.
بما في خبر
ابن عبد الخالق حيث ورد فيه: «... فإذا كان
صلاة الفجر فلتغتسل بعد طلوع الفجر، ثمّ تصلّي ركعتين قبل الغداة، ثمّ تصلّي الغداة».
ويرد عليه: بأنّه لا يدلّ على جواز الفصل إلّا بمقدار ركعتي النافلة، وهذا المقدار لا ينافي المبادرة العرفيّة،
مضافاً إلى ضعف سنده بالطيالسي.
بما في خبر
ابن بكير من قوله عليه السلام: «... فإذا مضى ذلك وهو عشرة أيّام فعلت ما تفعله المستحاضة ثمّ صلّت»،
فإنّ لفظة (ثمّ) للتراخي. ويرد عليه: أنّ
الأخذ بهذا الظهور يقتضي وجوب الفصل أو استحبابه، وهو مخالف للإجماع، فلا مناص من حمله على ما لا ينافي وجوب المبادرة، وهو الحمل على تأخّر الصلاة عن الغسل رتبةً أو تأخّر زمانها عن زمانه ذاتاً. وعلى هذا فلا تعارض بين هذا الخبر ونحوه من الأخبار المشتملة على لفظة (ثمّ) وبين صحيح ابن سنان المتقدّم المشتمل على لفظة الفاء الظاهرة في التعقيب من دون مهلة.
ثمّ إنّ الظاهر أنّه- بناءً على وجوب المبادرة إلى الصلاة بعد الغسل- يختصّ ذلك بالغسل للاستحاضة الكثيرة، فلا تجب المبادرة إلى الصلاة بعد الغسل؛ للاستحاضة المتوسّطة، وذلك لاختصاص الأدلّة بغير الغسل للمتوسّطة. ولكن ظاهر إطلاق كلمات الفقهاء عدم
اختصاص الحكم بالغسل للاستحاضة الكثيرة.
وأمّا وجوب المبادرة إلى الصلاة بعد الوضوء فهو مصرّح به في كلام كثير من الفقهاء،
وهو المشهور،
بل قال
المحقّق النجفي : «لا أجد فيه خلافاً صريحاً إلّا من العلّامة في
المختلف ، وتبعه العلّامة الطباطبائي في مصابيحه مدّعياً أنّه ظاهر الأكثر».
واستدلّ له:
بوجوب
الاقتصار على مقدار الضرورة في تسويغ الحدث الواقع بعد الوضوء المخالف للأصل. ويرد عليه: أنّه مع إطلاق الأخبار الآمرة بالوضوء لا يجب الاقتصار على مقدار الضرورة.
بما دلّ على وجوب الوضوء لكلّ صلاة؛ لأنّ الظاهر أنّ ذلك لأجل تخفيف الحدث.
ويرد عليه: أنّه أعمّ؛ لاحتمال عدم تأثير الدم الحادث بعد الوضوء في رفع أثره إلّا بعد
إتيان الصلاة ولو منفصلًا.
ببعض الأخبار المشتملة على لفظة (عند) بالتقريب المتقدّم، كصحيح
علي بن جعفر عن
أخيه عليه السلام في القليلة: «... يجزيها الوضوء عند كلّ صلاة تصلّي».
وقد تقدّم ما قد يرد عليه مع جوابه. ثمّ إنّه قد ذكر جملة من الفقهاء أنّه لا ينافي المبادرة المعتبرة هنا إتيان
الأذان والإقامة والأدعية المأثورة ونحو ذلك؛ لأنّ المراد بلفظة (عند) هو المقارنة العرفيّة، ولا تنافيها الامور المذكورة. وكذا لا تنافي المقارنة العرفيّة لبس الساتر الموجود و
الاجتهاد في القبلة أو
انتظار الجماعة والذهاب إلى مكان الصلاة إذا كان الزمان المستغرق فيهما بنحو لا يُعدّان منافيين للمقارنة العرفيّة.
ثمّ إنّ وجوب المبادرة وعدم جواز الفصل إنّما هو مع
استمرار الدم، وأمّا مع انقطاعه من حين الشروع في الغسل أو الوضوء وعدم رؤية الدم بعد الشروع فيهما فلا تجب المبادرة؛ وذلك لحصول الطهارة بما فعلت وعدم انتقاضها بشيء بعده، ولكن لا بدّ في ذلك من كون عدم الرؤية لأجل انقطاع الدم، بمعنى عدم خروجه مع عدم كونه في فضاء الفرج أيضاً.
ولا فرق في ذلك بين كون
الانقطاع لبرء أو فترة، خلافاً لما يظهر من الشهيد الأوّل من كون الانقطاع عن فترةٍ ليس كالانقطاع عن برءٍ، بل كالنقاء من الحيض في بعض أيّام العادة أو العشرة المتخلّل برؤية الدم في طرفيه مع انقطاعه على العشرة.
ولكن اورد عليه بأنّه لا دليل على ذلك في
الاستحاضة وإن كان الحكم كذلك في الحيض للدليل عليه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۱۲۸- ۱۳۲.